مات “أبو اللطف” وفي القلب غصّة وحرقة. بعد جهاده الطويل على امتداد عقود لم يحقّق حلمه بالعودة إلى يافا ليأكل “الكنافة” و”الحاملة” المشويّة (أمّ قليبانة) والتفّاح الشاميّ “البياري”، ويسمع أصوات الباعة المتجوّلين في مدينة البحر والشمس التي غادرها مرغماً فتى صغيراً.
مات “أبو اللطف” ولم يشفَ من الألم المستمرّ الذي رافقه منذ النكبة التي هزّته وهزّت فلسطين وأهلها عام 1948. كان يدرك أنّ الدواء الوحيد لهذا الألم ليس الذكريات، بل العودة إلى حواري المدينة وحاراتها وتلّة بيدس والمنشيّة ومسجد حسن بيك، والالتصاق مجدّداً بمن تُركوا عراة يوم صودرت فلسطين من أبنائها وحلّت بهم نكبة الرحيل واللجوء.
أمضى حياته محمّلاً بهواجس من الشتات وفقدان فلسطين، ولم يجعل من سيرته أطلالاً لفلسطين التي قال إنّها كانت “أيقونة صبري الأرجواني ولوني المستحيل وعزائي الوحيد لمقاومة يقين الضحالة والقبح”.
مات “أبو اللطف” ولم يشفَ من الألم المستمرّ الذي رافقه منذ النكبة التي هزّته وهزّت فلسطين وأهلها عام 1948
العلاقة العميقة مع “الختيار”
كان يرى أنّ المقاومة هي الطريق الوحيد لتحرير فلسطين والعودة إليها، طال الزمن أم قصر. رفض العودة من خلال اتفاق أوسلو الذي اعترض عليه منذ توقيعه وظلّ رافضاً له حتى وفاته باعتباره السبب الوحيد والمباشر لـ”ضعف القوى الثورية في الداخل” والخلل الذي أصاب منظّمة التحرير. كان إلى جانب رفيق نضاله الطويل ياسر عرفات، من القلّة القليلة من القادة المؤسّسين لحركة “فتح” الذين نجوا من الحروب الطويلة والمعارك وسلسلة التصفيات والاغتيالات التي استهدفت الثوّار الفلسطينيين قبل العودة وإقامة السلطة الفلسطينية على أرض فلسطين. ومع ذلك رفض أن يشارك “أبا عمّار” رحلة العودة إلى رام الله. أصرّ على البقاء في المنفى التونسي الذي لجأت إليه قيادة منظّمة التحرير بعد الخروج من بيروت إثر الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، قبل أن يحطّ رحاله الأخير في الأردن حيث وافته المنيّة عن عمر ناهز 93 عاماً. انفصل عن رئيس السلطة ياسر عرفات، لكنّه بقي مخلصاً ووفيّاً لصداقته العميقة مع “الختيار” أبي عمّار.
بين الرجلين علاقة وطيدة وطويلة تلخّص القصّة المثيرة لحركة “فتح” والتاريخ النضالي للثورة الفلسطينية. بدأت القصّة في مطلع الخمسينيات، بين الوجه الأبرز في اتّحاد طلبة فلسطين ورئيسه محمد عبد الرؤوف القدوة الحسيني الذي تغلّب لقبه ياسر عرفات على اسمه الحقيقي، وبين الطالب البعثيّ في الجامعة الأميركية فاروق رفيق الأسعد القدّومي الذي تكنّى حركيّاً باسم “أبي اللطف”. وهكذا صار “أبو اللطف”، الذي تخلّى عن أمانة سرّ فرع البعث، جزءاً من نواة يقودها “أبو عمّار” وضمّت إليهما أسماء لمعت في النضال الفلسطيني أمثال خليل الوزير “أبي جهاد” وصلاح خلف “أبي إياد”، والتي توسّعت مع مرور الزمن لتضمّ أسماء أخرى تقيم في عواصم عربية أخرى مثل محمود عباس “أبي مازن” ومحمد يوسف النجّار وسليم الزعنون ومحمود الخالدي وحسام الخطيب وماجد أبو شرار ونمر صالح “أبي صالح” ومنير شفيق وغيرهم. هذه المجموعة التي تبلورت في الكويت خصوصاً، وتنوّعت المشارب العقائدية والأيديولوجية لأفرادها، فبينهم من جاء متأثّراً بجماعة “الإخوان المسلمين”، وبعضهم جاء معتنقاً الفكر الاشتراكي بتنوّعاته السوفيتية والماويّة والتروتسكيّة، وكان آخرون ينتمون إلى الفكر القومي بتنوّعاته المختلفة أو المدارس السياسية الوطنية، إضافة إلى التنوّعات الاجتماعية والطبقية والمناطقية لهؤلاء، الأمر الذي شكّل مزجها تنظيماً مميّزاً يمثّل الوطنية الفلسطينية بكلّ تلاوينها السياسية ويختصر الكيانية الفلسطينية. وهكذا جعلت “فتح” من نفسها “تنظيماً طليعيّاً يسمو فوق الحزبية والأهواء والميول ليشمل جميع الشعب”. وخلافاً للشعار القومي السائد آنذاك: “الوحدة العربية هي طريق تحرير فلسطين”، شدّدت “فتح” على أنّ “تحرير فلسطين هو الطريق إلى الوحدة العربية”، وأنّ “على الشعب الفلسطيني أن يعتمد على نفسه في الأساس في معركة التحرير”.
بين الرجلين علاقة وطيدة وطويلة تلخّص القصّة المثيرة لحركة “فتح” والتاريخ النضالي للثورة الفلسطينية
“أبو اللّطف” والطّلّة الأبويّة
استمرّت رحلة تأسيس “فتح” من منتصف الخمسينيات حتى الإعلان الرسمي عن انطلاقتها يوم رأس السنة عام 1965 بإطلاق الرصاصات الأولى باسم قوّات “العاصفة”، وهي الجناح المسلّح لحركة التحرير الفلسطينية التي مختصرها المعكوس شكّل اسم “فتح” الذي صار عنواناً لمرحلة مهمّة من مراحل النضال الفلسطيني. وتكرّس اسمها في المواجهة مع الإسرائيليين في معركة الكرامة في الأردن التي جاءت ردّاً وطنياً فلسطينياً على نكسة الأنظمة العربية في حرب حزيران 1967، ورسمت القرار الفلسطيني المستقلّ، وكرّست لاحقاً منظمة التحرير الفلسطينية بعد تولّي عرفات عام 1969 رئاسة لجنتها التنفيذية ممثّلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني.
طوال سنوات النضال اضطلع “أبو اللطف”، صاحب الطلّة الأبويّة والوجه المبتسم والهادىء، بدور قيادي كبير في الحركة ومنظمة التحرير، فكان عضواً في اللجنة المركزية للأولى وأميناً لسرّ الثانية ورئيساً لدائرة التنظيم الشعبي فيها قبل أن يصير رئيساً للدائرة السياسية بعد عملية الكومندوس الإسرائيلية في شارع فردان في بيروت عام 1973. وهكذا صار وزيراً لخارجية فلسطين والرجل الثاني في المنظّمة، وحافظ أثناء تولّيه هذه المهمّة الرئيسية على النهج العروبي الذي تتلمذ عليه باكراً على يد اثنين من البعثيين الكبار في يافا: عبد الله الريماوي وأحمد السبع. وكان اختبر قبل ذلك السجن في عمّان عندما اعتقلته السلطات الأردنية إثر أحداث أيلول الأسود عام 1970 قبل أن يغادر إلى سوريا ومنها إلى بيروت التي غادرها أيضاً إلى تونس في صيف 1982 بعد الغزو الإسرائيلي للبنان.
استمرّت رحلة تأسيس “فتح” من منتصف الخمسينيات حتى الإعلان الرسمي عن انطلاقتها يوم رأس السنة عام 1965 بإطلاق الرصاصات الأولى باسم قوّات “العاصفة”
خاض الكثير من المعارك والانتصارات والأزمات والنكسات، وربّما أبرزها دوره الكبير في الحملة الدولية للاعتراف بدولة فلسطين وفتح سفارات لفلسطين في دول العالم، الأمر الذي حاربته إسرائيل بشدّة. على الرغم من حفاظه على موقعه في الحركة والمنظمة تراجع دوره ونفوذه مع تأسيس السلطة الفلسطينية، إثر اتفاق “أوسلو” بداية التسعينيات، وهو الاتفاق الذي عارضه بشدّة وعلانية واعتبره خيانة للمبادئ التي قامت عليها منظمة التحرير الفلسطينية.
لقد سمّموا “أبا عمّار”
عقب وفاة “أبي عمّار” في تشرين الثاني 2004 نشب خلاف بينه وبين محمود عباس حول خلافة عرفات على رأس حركة “فتح”. لكنّه عاد وأيّد رئاسة أبي مازن تفادياً لأيّ انشقاق داخل صفوف الحركة والمنظمة.
لكنّ شهر العسل بين الفتحاويّين لم يطُل، إذ انقلب على عباس بعد سنوات، مطلِقاً في عام 2009 اتّهامات ضدّه بالمشاركة في تسميم عرفات، وهو الهجوم الذي ردّته مركزية “فتح” آنذاك، وأدّى إلى إعفائه لاحقاً من منصب رئيس الدائرة السياسية للمنظمة، ثمّ أُخرج توالياً في الانتخابات التي شكّلت مركزية جديدة لـ”فتح” عام 2010، ولجنة تنفيذية جديدة للمنظمة في سنوات لاحقة.
بينما ترك عباس الخلاف على غاربه مع حركة “حماس”، أبدى القدّومي أيضاً معارضته الشديدة للنزاع بين الحركتين
لكنّ “أبا اللطف” لم يرحل وهو على خلاف مع عباس، إذ تصالحا في لقاءين في عمّان عام 2010، وفي تونس عام 2011، عندما زاره عباس هناك بعد وعكة صحّية ألمّت به، منهياً كلّ الخلافات، ومؤسّساً لصفحة جديدة من العلاقات.
في أيّ حال يتشابه الرجلان بالمزاجية الحسّاسة، وكلاهما لا يملكان قاعدة شعبية واسعة، لكن فيما تمسّك أبو اللطف بالمثاليّات الثورية، سعى أبو مازن إلى تحقيق حلمه السياسي بالبراغماتية وتقديم التنازلات.
بينما ترك عباس الخلاف على غاربه مع حركة “حماس”، أبدى القدّومي أيضاً معارضته الشديدة للنزاع بين الحركتين ورأى أنّه سيؤدّي إلى صراع شامل بين مختلف الفصائل الفلسطينية. كذلك عبّر عن معارضته لسلوك بعض قادة “فتح”، لا سيما محمد دحلان أثناء تولّيه قيادة جهاز الأمن الوقائي في قطاع غزة. ونصح “حماس” بعدم المشاركة في الانتخابات، لأنّ ذلك يعني قبولها باتفاق أوسلو ودخول غمار السلطة، وحضّها على التمسّك بالمقاومة لأنّ ذلك يوفّر لها الدعم الشعبي، واعتبر أنّ “الخطيئة الكبرى” لـ”فتح” هي تخلّيها عن الكفاح المسلّح. وفرّق بين “فتح ” أبي مازن و”فتح” أبي عمّار. ورأى أنّ السبب في ضعف الحركة في عهد أبي مازن تغيير وتغييب القيادات الأساسية في الحركة واستبدالهم بأشخاص آخرين غير كفاة وليست لهم تجارب كافية ولم يعيشوا “فتح” من بدايتها. واعتبر أنّ التنسيق الأمنيّ مع إسرائيل غير مفيد ويشوّه صورة القضية.
إقرأ أيضاً: فاروق القدومي “أبو لطف”.. من البعث العربي إلى الانبعاث الفلسطيني
عبّر أيضاً عن سخطه على “الربيع العربي”، معتبراً أنّ ما يحدث في الدول العربية “خريف بكلّ معانيه”. وأبقى الخيط موصولاً بنظام الرئيس بشار الأسد، بعدما كان حافظ على علاقات وثيقة مع نظام الرئيس حافظ الأسد، ومع عراق صدام حسين، ربّما انطلاقاً من بعثيّته القديمة القائلة بأنّ فلسطين لن يحرّرها الفلسطينيون بل تتحرّر بالتعاون بين مصر وسوريا.