“حلّ الدولتين”، هو التعبير الملطّف لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود. وهو الآن المصطلح السياسي الرائج لتوصيف اليوم التالي بعد حماس، أميركياً وأوروبيّاً وعربياً. لكنّه ورد أوّل مرّة كمقترح بريطاني عقب اندلاع الثورة الفلسطينية عام 1936. وورد التقسيم أو حلّ الدولتين لأوّل مرّة في قرار دولي رسمي رقمه 181، صادر عن الجمعية العامّة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني عام 1947، ووُضعت في طيّاته حدود الدولة اليهودية والدولة الفلسطينية بشكل تفصيلي. لكن بالمنظور الصهيوني، لم يكن حلّ الدولتين على مختلف خرائط التقسيم سوى مناورة لكسب الوقت وفرض الوقائع، إلى أن هيمن اليمين المتطرّف تدريجياً، وعلى رأسه بنيامين نتنياهو، على مقاليد الحكم، مع رفض قاطع لقيام أيّ شكل من أشكال الدولة الفلسطينية، على ما يُسمّى “أرض إسرائيل Eretz Yisrael“.
لم يأتِ قرار تقسيم فلسطين عام 1947 من دون مقدّمات، ولا سقط القرار فقط بسبب خلافات القوى الكبرى، الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفيتي، لكنّ ما هو مميّز في القرار أنّه مع وضعه الحدود بين الدولتين العربية واليهودية، إلا أنّه جمع بينهما بوحدة اقتصادية، دون أن يحدّد نوع هذا الاتّحاد، هل هو فدرالي من نوع ما، أم كونفدرالي، أم شيء هجين مبتكر؟ والغريب أنّ القرار اهتمّ بتفاصيل هذه الوحدة الاقتصادية بما يضاهي اهتمامه برسم الحدود بين الدولتين. وتتضمّن الوحدة الاقتصادية: الوحدة الجمركية، وحدة في العملة مع سعر موحّد للنقد الخارجي، إدارة السكك الحديدية، والطرق الداخلية، والهاتف، والبريد، والاتصالات البرقية، والمرافئ، والمطارات ذات العلاقة بالتجارة الخارجية، وأن تكون المرافق المائية والكهربائية متاحة للدولتين، إضافة إلى القدس التي لها كيان مميّز.
“حلّ الدولتين”، هو التعبير الملطّف لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود. وهو الآن المصطلح السياسي الرائج لتوصيف اليوم التالي
الدّولة الفلسطينيّة الموعودة
باتت كلّ هذه التفاصيل بسرعة فائقة من الماضي، فالصهاينة لم يعلنوا رفضهم لقرار التقسيم عام 1947، لكنّهم قاتلوا بشراسة لاحتلال بعض المناطق الحيوية، التي كانت مخصّصة للدولة العربية الفلسطينية. رفض الفلسطينيون، ومعهم الدول العربية ما عدا الأردن، قرار التقسيم. وأرسلوا الجيوش والمتطوّعين لإسقاط الدولة اليهودية. أدّى تضارب المصالح وتشتّت القرار وأشياء أخرى إلى اختفاء الدولة المزمع إنشاؤها بقرار الجمعية العامة. جزء منها سقط بيد العصابات الصهيونية، وضُمّت الضفة الغربية بما فيها القدس إلى الأردن. فيما بات قطاع غزة تحت وصاية مصرية وبإدارة حكومة عموم فلسطين (1948-1959)، إلى أن أصبح خاضعاً للحكم العسكري المصري بين عامَي 1959 و1967.
بعد مرور أربعين عاماً على النكبة، أعلن الملك الأردني حسين (توفّي 1999) فكّ الارتباط بين الأردن والضفة الغربية، متيحاً المجال لزعيم منظمة التحرير ياسر عرفات (توفّي 2004) إعلان قيام الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلّة عام 1967، وذلك في 15 تشرين الثاني عام 1988. وحتى بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، بين مصر وسوريا من جهة، وإسرائيل مدعومة بالغرب من جهة أخرى، وعقد اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، لم تتضمّن تلك الاتفاقيات شيئاً عن دولة فلسطينية أو حلّ الدولتين، بشكل صريح، بل إقامة سلطة حكم ذاتي في الضفة والقطاع، بانتظار ما تنتج عنه مفاوضات بشأن الوضع النهائي.
كانت الأراضي المقترحة للدولة اليهودية حوالى 16 ألف كيلومتر مربّع، أي حوالي 62% من مساحة فلسطين
لم تحمل اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير وإسرائيل عام 1993 شيئاً جديداً عمّا سبق، باستثناء وضع تفاصيل الحكم الذاتي الانتقالي بانتظار مفاوضات الوضع النهائي التي لم تنعقد، ولن تنعقد مع اجتياح الضفة بالمستوطنات وخنق غزة بالحصار المطبق. ثمّ أعلن الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب “صفقة القرن” أواخر كانون الثاني عام 2020، وقبل بها نتنياهو. وفيما زعم ترامب أنّ الصفقة تندرج ضمن “حلّ الدولتين” إلا أنّ طرح قيام دولة فلسطينية، من دون حدود واضحة أو صلاحيات فعلية أو سيادة حقيقية، ومن دون القدس الشرقية، وتحت شروط وقيود شديدة، هو مجرّد تلاعب بالمصطلحات. ومع الزلزال الذي أحدثته “عملية طوفان الأقصى” في إسرائيل والعالم في 7 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، استعادت الإدارة الأميركية مقولة “حلّ الدولتين” كعنوان لليوم التالي بعد القضاء على حركة حماس في القطاع.
لكنّ نتنياهو لم يحاول الاختباء وراء الكلمات الغامضة. فهو قبل طوفان الأقصى حدّد فلسطين التاريخية بوصفها حدود الدولة الإسرائيلية. وبعد هجوم 7 أكتوبر، اعتبر حلّ الدولتين، كما طرحته إدارة بايدن، وكأنّه مكافأة للإرهاب الفلسطيني، وامتنع عن تحديد معالم اليوم التالي، مكتفياً بالقول إنّه يريد الانتصار الكامل والمطلق على حماس.
ثلاث خرائط تقسيم
لكن لا يمكن فهم الموقف الصهيوني الحقيقي من حلّ الدولتين، من دون استذكار الخرائط التي تداولتها الحركة الصهيونية في ثلاث مناسبات مختلفة بين عامَي 1919 و1947، حيث وقعت خلافات كبيرة بين تيّارين صهيونيَّين، الأوّل متزمّت ومتمسّك بكلّ الأرض الموعودة بحسب اعتقاده الديني، ومصلحة الدولة نفسها. والثاني براغماتي يعتبر أنّ الحصول على دولة ذات سيادة وقابلة للحياة هي أولوية الوقت.
كانت الخطّة في الأساس هي نفسها اقتراح لجنة الأمم المتحدة على الرغم من تقليص مساحة الدولة اليهودية إلى 14 ألف كيلومتر مربّع
أوّلاً، بحسب الباحث الإسرائيلي اتسحاق غالنور Itzhak Galnoor، الذي رصد النقاشات الصهيونية في تلك الحقبة، فإنّ بريطانيا التي تعهّدت في وعد بلفور Balfour Declaration عام 1917 بالمساعدة في إنشاء “وطن قومي لليهود” في فلسطين، لم ترسم حدوده. بعد الحرب العالمية الأولى، التقى ممثّلو القوى الكبرى في مؤتمر فرساي للسلام لتقسيم أراضي الإمبراطورية النمساوية، أو حكم آل هابسبورغ، والدولة العثمانية، من بينها “الشرق الأدنى”. وقدّم وفد الحركة الصهيونية بقيادة حاييم وايزمان المطالب التاريخية بحقّ الشعب اليهودي في أرض إسرائيل، ومنها الحصول على السهول الخصبة شرق نهر الأردن، والحاجة إلى إقليم كبير بما يكفي للحفاظ على الاستيطان والتنمية الاقتصادية القابلة للحياة.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ المذكّرة أكّدت الحاجة إلى الظروف السياسية والإدارية والاقتصادية التي من شأنها ضمان نموّ الوطن القومي اليهودي. وتبلغ مساحة الدولة المنشودة حوالى 45 ألف كيلومتر مربّع، بما في ذلك الجليل الشمالي (جنوب لبنان اليوم وصولاً إلى صيدا لضمّ نهر الليطاني)، مرتفعات الجولان، وحوالي 18 ألف كيلومتر مربّع من الأراضي الأردنية. كما رسم الاقتراح الأوّليّ حدوداً جنوبية على طول العريش-خطّ العقبة ليشمل جزءاً من شبه جزيرة سيناء. ولكن بسبب الضغط البريطاني، تركت المسألة مفتوحة للتفاوض مع الحكومة المصرية. واعتبر الصهاينة أنّهم قدّموا تنازلات لأنّهم لم يطالبوا بكامل الأردن.
لا يمكن فهم الموقف الصهيوني الحقيقي من حلّ الدولتين، من دون استذكار الخرائط التي تداولتها الحركة الصهيونية في ثلاث مناسبات مختلفة
ثانياً، عقب الثورة العربية عام 1936، اقترح البريطانيون تقسيم أراضي فلسطين على النحو التالي: دولة يهودية مستقلّة ذات سيادة على طول الساحل والوديان الشمالية، والجليل الذي سيتألّف من منطقة تبلغ حوالى خمسة آلاف كيلومتر مربّع. ودولة عربية مستقلّة ذات سيادة في بقيّة فلسطين ملحقة بشرق الأردن. كما يُمنح تفويض جديد لبريطانيا على جيب يمتدّ من يافا إلى القدس وعدد من المدن. ويجري قدر الإمكان نقل للأراضي وتبادل السكان بين الدولتين المقترحتين. كان الموقف الصهيوني النهائي عالقاً في عاملين متناقضين: ضعف الحركة الصهيونية آنذاك، الذي يُملي التبعية المطلقة لبريطانيا، وتفانيها القويّ والموحّد إلى حدّ ما من أجل هدفها الرئيسي، وهو إقامة دولة حتى على حساب أهداف أخرى. أمّا المتردّدون في قبول هذه الخارطة، فكانت لهم أربعة شروط مسبقة قبل التفكير في التقسيم:
– أن يكون حجم الدولة اليهودية المقترحة كافياً لتكون قابلة للحياة. وبن غوريون هو الزعيم الوحيد الذي قال صراحة إنّ 12 ألف كيلومتر مربّع ستكون كافية، على الأقلّ في الوقت الحالي.
– أن تكون الحدود قابلة للدفاع عنها، وعن المستوطنات اليهودية.
– أن تكون الأغلبية اليهودية كبيرة، ويجب أن يكون عدد العرب في الدولة اليهودية في الحدّ الأدنى.
– أن تكون هناك موافقة واضحة من جانب الفلسطينيين والدول العربية على خطّة التقسيم.
ثالثاً، لقد تحوّل العالم اليهودي جذرياً بين عامَي 1937 و1947، نتيجة الحرب العالمية الثانية وأحداث الهولوكوست على يد ألمانيا النازية. مع نهاية الحرب كانت الحاجة أكثر إلحاحاً إلى إيجاد حلّ للّاجئين اليهود في أوروبا. اقترحت لجنة التحقيق الأنغلوأميركية (نيسان 1946) إقامة وصاية على فلسطين، وليس تقسيم فلسطين بين العرب واليهود. ونشرت لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين (UNSCOP) تقريرها في آب 1947، ودعت أغلبية الأعضاء فيها إلى إنهاء الانتداب البريطاني، وإقامة دولتين مستقلّتين في فلسطين، واحدة يهودية وأخرى عربية، وجعل القدس تحت وصاية دولية بإشراف الأمم المتحدة.
بعد هجوم 7 أكتوبر، اعتبر حلّ الدولتين، كما طرحته إدارة بايدن، وكأنّه مكافأة للإرهاب الفلسطيني، وامتنع عن تحديد معالم اليوم التالي
كانت الأراضي المقترحة للدولة اليهودية حوالى 16 ألف كيلومتر مربّع، أي حوالي 62% من مساحة فلسطين. وبينما رفضت القيادة الفلسطينية والدول العربية اقتراح لجنة الأمم المتحدة، اعتبرته الحركة الصهيونية بمنزلة انتصار، على الرغم من هشاشة بنية الدولة برّياً، والحدود الطويلة جداً للدولة اليهودية المقترحة، واستبعاد معظم الجليل والقدس و39 مستوطنة يهودية. وفي تشرين الثاني 1947، اجتمع أكثر من ثلثي أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة وصوّتوا مع خطّة التقسيم.
إقرأ أيضاً: لماذا العودة إلى “العمليات الاستشهادية”؟
كانت الخطّة في الأساس هي نفسها اقتراح لجنة الأمم المتحدة على الرغم من تقليص مساحة الدولة اليهودية إلى 14 ألف كيلومتر مربّع، أي حوالي 55% من فلسطين. تمّ استيفاء الشروط الأربعة التي أثيرت في نقاشات عام 1937 جزئياً فقط. لكنّها كانت بمنزلة البداية الضرورية للقضاء على إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلّة، ومتابعة حلم الدولة اليهودية على أرض الميعاد.
لمتابعة الكاتب على X: