لماذا العودة إلى “العمليات الاستشهادية”؟

2024-08-21

لماذا العودة إلى “العمليات الاستشهادية”؟

العودة إلى العمليات الاستشهادية في الداخل الإسرائيلي من قبل حركة حماس وحلفائها من المنظّمات الفلسطينية، كما جاء في بيان الحركة قبل أيام إثر تبنّيها عملية تل أبيب التي قام بها شابّ فلسطيني من نابلس، تشكّل مؤشّراً إلى موازنات وحسابات ما بعد “طوفان الأقصى” طارحة سلسلة من التساؤلات التي من شأن الإجابة عنها رسم خارطة لليوم التالي بالنسبة للمقاومة الفلسطينية.

 

في مطلع التسعينات لم يكن اللجوء إلى العمليات الاستشهادية في فلسطين المحتلة قراراً عفويّاً. وكذلك الامتناع عن هذا الأسلوب منذ قرابة عشر سنوات. البداية كانت محكومة بعدّة أحداث مفصليّة: حرب تحرير الكويت، وبدء مفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل في مدريد عام 1991، التي أوصلت بتداعياتها إلى اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في أيلول 1993، وإلى معاهدة وادي عربة بين الأردن وإسرائيل في تشرين الأول 1994. أوّل عملية كانت بشاحنة مفخّخة في نيسان 1993، وأوّل عملية بحزام ناسف في نيسان عام 1994. واشتدّت العمليات الاستشهادية بعد الانتفاضة الثانية عام 2000، وحمّلت واشنطن وتل أبيب الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات المسؤولية عن تلك الانتفاضة وعن تصاعد عمليات المقاومة، التي كانت ردّاً على إضاعة الوقت في التفاوض من أجل التفاوض من دون صيغة واضحة توصل إلى إقامة الدولة الفلسطينية وعودة اللاجئين.

أمّا قرار الامتناع عن تنفيذ العمليات الاستشهادية، فلم يكن بسبب استجابة إسرائيل للمطالب الفلسطينية المعروفة، بل له علاقة مباشرة بأمرين: الأوّل، انخراط حركة حماس في السلطة الفلسطينية وفوزها بالانتخابات النيابية وتشكيلها الحكومة عام 2006. والثاني، سيطرة حماس عسكرياً على قطاع غزة بعد الصدام الدموي مع حركة فتح عام 2007، وانفرادها بحكم القطاع، وانتقالها إلى مرحلة جديدة عنوانها تعظيم قوّتها العسكرية، وتطوير منظومة الصواريخ على نحوٍ مطّرد، بما يعني الاعتماد على القتال التقليدي ما دامت الموارد متاحة.

في مطلع التسعينات لم يكن اللجوء إلى العمليات الاستشهادية في فلسطين المحتلة قراراً عفويّاً

بين الاستشهاد والانتحار

قبل الولوج في الحدث وأبعاده، وهو إعلان حركة حماس العودة إلى أسلوب العمليات الاستشهادية في الداخل المحتلّ، بعد أكثر من عشرة أشهر على الهجوم الإسرائيلي الشامل والمدمّر في قطاع غزة، لا بدّ من وقفة عند المصطلح. فمن يعارضها اعتبرها انتحاراً، ومن أيّدها جعلها استشهاداً. أمّا الحدث بحدّ ذاته، فهو تغيير نوعي في أسلوب الصراع، بعد انضباط كبير، استمرّ لسنوات طويلة، قضى بالامتناع عن هذا النوع من العمليات، ليس عجزاً عن استعماله، ولا نقصاً في أعداد المتطوّعين، بل هو قرار سياسي، وله أبعاد ومتعلّقات مثيرة للاهتمام والبحث.

أمّا أعمال الدهس والطعن التي ذاع القيام بها من أفراد خلال السنوات الأخيرة ضدّ مستوطنين وجنود إسرائيليين، وإن كان يمكن تسميتها بالعمليات الاستشهادية الفردية، باعتبار أنّ هذا النوع لا يحتاج إلى مجموعات إسناد، تقوم بأعمال التحضير النفسي للاستشهادي، وتجهيز العبوة الناسفة التي سيحملها، واختيار الهدف المراد نسفه، ودعم الاستشهادي خلال تنفيذ العملية إن تطلّب الأمر ذلك. الاستشهادي أو الفدائي المنفرد هو الذي يقرّر تنفيذ عملية الدهس أو الطعن، وهو الذي يختار المكان والزمان والوسيلة.

اختلاف العلماء على شرعيّتها

العمليات الاستشهادية في لبنان منذ ثمانينيات القرن الماضي، وبعد ذلك في فلسطين بعد عقد من الزمان، تختلف عن العمليات الفدائية التي كانت تقوم بها منظمات وطنية أو يسارية فلسطينية. وهذه الأخيرة تشابه ما يوصف في فقه الجهاد بالعمليات الانغماسية. الفدائي لا يفجّر نفسه وسط الأعداء، بل ينغمس بين عدد كبير من الأعداء، يقاتلهم إلى أن يُقتل. لم تكن تتوافر في الإسلام الأوّل الموادّ المتفجّرة الحديثة التي تسمح بتشكيل الصورة المعاصرة، وهي تفجير الفرد العبوة الناسفة بنفسه وبأفراد العدوّ. لذا عندما ظهرت هذه العمليات، وردت فتاوى على العلماء لإصدار الحكم فيها، أهي جائزة أم لا؟

 اللافت أنّ حركة حماس والفصائل الأخرى، لا سيما حركة الجهاد، لم تلجأ بعد إلى هذا الأسلوب في قطاع غزة

اختلف العلماء فيها وعليها، بحسب موقعهم وقربهم من السلطة أو الحركات الإسلامية. لكن حتى من أجازها وضع لها ضوابط شديدة. والمشكلة اللاحقة التي فاقمت من تعقيدها، هي أنّ بعض الجماعات الإسلامية المعارضة للسلطات وتتبنّى سبيل العنف لتحقيق أهدافها، استنسخت أسلوب العمليات التي اشتهر بها المقاومون في لبنان وفلسطين، لتجيز استعمالها في قتالها للسلطات القائمة ولقتل المدنيين في البلدان الإسلامية دون تمييز. ولهذا مال بعض العلماء إلى اعتبارها كلّها عمليات انتحارية غير جائزة، سحباً للذرائع من أيدي أولئك.

أمّا الشيخ يوسف القرضاوي الذي هو من أبرز مرجعيات الإسلام السياسي المعاصر، فقد أجاز في كتابه “فقه الجهاد” هذه العمليات في فلسطين بشكل خاصّ، رافضاً اعتبارها من باب إلقاء النفس في التهلكة، واعتبر أنّ الهدف منها هو إخافة المجتمع الإسرائيلي حتى لا يأتي المزيد من المهاجرين، وتدفع المقيمين منهم إلى التفكير في الهجرة من إسرائيل. لكنّ هذه الإجازة كانت خاصة بالفلسطينيين بسبب ظروفهم المعروفة، ولأنّهم لم يجدوا بديلاً عنها، في تلك المرحلة. أما وقد تمكّنت المقاومة الفلسطينية من الحصول على صواريخ تصيب العمق الإسرائيلي، وإن لم تبلغ مبلغ الصواريخ الإسرائيلية، لكنّها تؤذيهم وتقلقهم وتزعجهم، بحسب تعبيره، فلم يعد مستساغاً اللجوء مجدّداً إلى العمليات الاستشهادية.

اشتدّت العمليات الاستشهادية بعد الانتفاضة الثانية عام 2000، وحمّلت واشنطن وتل أبيب الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات المسؤولية عن تلك الانتفاضة

لكن يمكن القول أيضاً إنّ جماعات المقاومة الوطنية، التي لا تعبأ بالأهداف الشمولية التي طلعت بها جماعات السلفية الجهادية، لا سيما تنظيم القاعدة، الذي روّع العالم بعملياته ضدّ سفارتَي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا عام 1998، وضدّ المدمّرة الأميركية يو إس إس كول في ميناء عدن عام 2000، وضدّ برجَي التجارة العالمية ومبنى البنتاغون في نيويورك وواشنطن عام 2001، بدأت تنأى بنفسها عن هذا الأسلوب، حتى لا تشابه الإرهاب وتوصم به، مع أنّ حركة حماس صُنّفت أميركياً بالإرهاب مبكراً، أي عام 1997.

العمليات الاستشهادية

لقد باتت حركة حماس وبقيّة الفصائل بعد أحداث 11 أيلول في موقف حرج، مع الحملة المنسّقة التي قام بها أرييل شارون آنذاك، للربط بين المقاومة الفلسطينية والإرهاب الدولي. ويُذكر أنّ الحزب في لبنان، في ذروة القتال ضدّ الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، توقّف عن استعمال هذا النوع من العمليات، وذلك قبل انسحاب الجيش الإسرائيلي عام 2000، وهذا يعود أيضاً إلى الاحترازات والقيود الشرعية المفروضة على قتل النفس. فعندما تقلّ الحاجة إليها، لا يُلجأ إليها، مع توافر الوسائل الأخرى.

لماذا العودة إلى العمليّات الاستشهاديّة؟

بعد هذا الإيراد الموجز لتاريخ العمليات الاستشهادية في فلسطين، وأسبابها وموجباتها ومحترزاتها، يُطرح السؤال: لماذا أعلنت كتائب عزّ الدين القسّام عن استئناف هذا النوع، تعليقاً على تبنّيها مع سرايا القدس عملية تل أبيب يوم الأحد الماضي؟ هل هو علامة ضعف بنيوي يدفع المقاومة إلى هذا الأسلوب الموجع؟ قد يكون ذلك مبرّراً في الضفة الغربية التي تتعرّض فيها خلايا المقاومة للتصفية المنهجية، مع اقتحام المدن والبلدات والمخيّمات وتخريب البنية التحتية فيها.

العمليات الاستشهادية في لبنان منذ ثمانينيات القرن الماضي، وبعد ذلك في فلسطين بعد عقد من الزمان، تختلف عن العمليات الفدائية

لكنّ اللافت أنّ حركة حماس والفصائل الأخرى، لا سيما حركة الجهاد، لم تلجأ بعد إلى هذا الأسلوب في قطاع غزة، على الرغم من الأهوال والفظاعات التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي هناك على مدى عشرة أشهر، حتى إنه لم يبقَ شيء تقريباً على وجه الأرض، إلا ما يحتاج إليه جنود الاحتلال للإيواء والاستراحة والمراقبة. توقّع كثير من المراقبين العسكريين أن تمارس حماس ما جرّبته سابقاً، فتقاوم الاحتلال بالالتحام والعبوات الناسفة الاستشهادية، فضلاً عن العبوات اللاصقة أو التي توضع يدوياً بكثير من المخاطرة، إلا أنّ شيئاً من ذلك لم يقع طوال المعارك الطاحنة التي خاضها المقاومون. والسؤال هو لماذا فضّلت حماس نمط العمليات الفدائية التي تثير الحماسة وسط المتلقّين في أنحاء العالم، على العمليات الاستشهادية التي يمكن أن تنشر قدراً أكبر من الرعب؟

إقرأ أيضاً: يحيى السنوار: إيمان عميق وبراغماتيّة أيضاً؟

قد يكون الجواب متعدّد الأوجه، أبرزها أنّ الحركة التي باتت حكومة لديها أمن وشرطة وجيش، تخلّت عن فكرة العمليات الاستشهادية التي قد تدلّ على الضعف والانحسار، أو تشير إلى نمط الإرهاب المكروه، واعتمدت أساساً على سلاحَي الأنفاق والصواريخ، لخوض معركة من نوع جديد ومتمايز عن السلاح الأساسي لحقبة مضت وانقضت، وهو العمل الاستشهادي. لكن هل يعني هذا أنّ حماس لن تستأنف هذا النوع من القتال في غزّة نفسها، بعد تدميرها، واستمرار الحرب الإسرائيلية عليها دون حدود ولا قيود، مع استهداف منهجي للمدنيين لإجبار الحركة على التنازل أو حتى على الاستسلام دون قيد أو شرط؟ عملية تل أبيب، وما تبعها من بيان حماس عن العمليات الاستشهادية، رسالة واضحة عن مرحلة جديدة قيد الإعداد، وستكون أكثر دموية بكثير، إن لم تقف الحرب قريباً.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

هل طوي ملف الصفقة؟

بالتأكيد طوي الملف، أولاً بفعل الخوف الأمريكي من فشلٍ جديد في الأسابيع المتبقية على الانتخابات، وثانياً بفعل عدم التوصل إلى صيغة أكثر توازناً من سابقاتها،…

ما لم يواجهه الحزب من قبل

كان لافتاً غياب الأمين العامّ للحزب عن أربعين القيادي فؤاد شكر. تُركت منصّة الخطابة لرئيس المجلس التنفيذي في الحزب هاشم صفي الدين. الخطابان اللذان ألقاهما…

بزشكيان والعراق: تراجع تكتيكيّ للميدان الكردي.. لمصلحة السّياسة

هل سلّم الميدان الإيراني بحقيقة أنّه غير قادر على إدارة الموقف الإيراني بمفرده؟ وأنّه انطلاقاً من رؤيته الحصرية للأمور، حان الوقت لتقاسم أو توزيع الأدوار…

غزّة: ناخب أساسيّ في الأردن.. ومهمّ في أميركا

تقدّمت جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات النيابية الأردنية على كلّ قوائم الأحزاب التي شاركت في انتخابات البرلمان العشرين. وإلى جانب اعتبارات تنظيمية، تميّزت بها الجبهة…