إضافة إلى التقصير الرسمي شكّلت تصفية الحسابات داخل البيت البرتقالي عاملاً أساسياً في جرّ لبنان مرّة أخرى إلى العتمة والبهدلة. القصّة لم تنتهِ بشحنة الفيول من الجزائر ولا إعلان الجانب العراقي الالتزام باتفاقية توريد الفيول للبنان ولا التئام مجلس إدارة مؤسّسة كهرباء لبنان واتّخاذه سلسلة قرارات بعد الانفصال الكلّيّ عن الشبكة، بل “كِبرت القصّة” مع طلب الرئيس نجيب ميقاتي من التفتيش المركزي فتح تحقيق فوري بموضوع الانقطاع الكلّيّ للكهرباء “مع كلّ المسؤولين من دون استثناء بغية ترتيب مسؤوليات قانونية بناء على نتيجة التحقيقات”.
وفق معلومات “أساس” على إثر توجيه ميقاتي الكتاب سارعت النيابة العامّة التمييزية لفتح محضر أمس وطلبت الاستماع اليوم إلى وزير الطاقة وليد فياض ومدير عام مؤسّسة كهرباء لبنان كمال الحايك، ولاحقاً ربما كل أعضاء مجلس الإدارة.
تداخلت المعطيات والمسؤوليات بشكل مُعقّد في ملفّ فضيحة الكهرباء الأخيرة. حاول رئيس الحكومة التملّص من المسؤولية بإطلاق سلسلة إدانات مسبقة بحقّ الحايك و”كلّ المسؤولين” عبر كتابه الموجّه إلى رئيس التفتيش المركزي جورج عطية، فيما الهدف الأساس وصول كرة النار إلى القضاء.
تؤكّد مصادر قريبة من ميقاتي لـ “أساس”: “رئيس الحكومة لم يدِن أحداً ولا يستدرج أحداً إلى مَشكل. وفي الكتاب الموجّه إلى “التفتيش” ذكر بشكل مُفصّل مراحل الاجتماعات وتحذيراته وجهوده لمنع العتمة الشاملة. والكتاب هو الطريق القانوني للوصول إلى القضاء وتحديد المسؤوليات”.
الاستماع إلى فيّاض والحايك… وميقاتي
هنا تفيد معلومات “أساس” بأنّ تحرّك النيابة العامّة التمييزية سيكون منفصلاً عن تقرير رئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عطية الذي سيحيله لاحقاً إلى رئاسة الحكومة. ولن يتردّد النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجّار بالحضور إلى السراي للاستماع أيضاً إلى إفادة رئيس الحكومة إذا ارتأى ذلك، كما لا تستبعد مصادر مطّلعة إدّعاء النيابة العامّة على “المقصّرين أو المسؤولين عن وصول انفصال الشبكة نهائياً عن الخدمة بعد انتهاء التحقيقات”.
على ما يبدو فَقَدَ وزير الطاقة ثقة كلّ من ميقاتي وباسيل معاً، خصوصاً أنّ أداءه مع الجانب العراقي كان “مهزوزاً” وأدّى إلى “زَعل العراقيين”
مع ذلك، تقتضي الواقعية السياسية التسليم بأنّ الادّعاءات، إن حصلت، لن تعني شيئاً لأنّ ملفّ الكهرباء بكلّ تشعّباته و”ظلمته” ربّما يكون بحاجة إلى محكمة استثنائية قد تجد نفسها أمام مئات المتورّطين بملفّ الفساد والتقصير والتواطؤ على مرّ العهود. وقد لا ينفع لوم جِهة مسؤولة محدّدة عن فترة زمنية حصل فيها Blackout، لأنّها ليست الحادثة الأولى من نوعها، وقد حصلت ثلاث مرّات سابقاً في عهد حكومة ميقاتي، ولأنّ فضيحة مافيات مولّدات الكهرباء وتسلّطها على الدولة نفسها ومؤسّساتها توازي “جرصة” الكهرباء والأداء التعيس للحكومات المتعاقبة التي “باركت” استيراد ملايين الأطنان من مادّة المازوت بمليارات الدولارات لتغذية المولّدات الخاصة وتغذية جيوب المنتفعين منها.
يُذكر أنّ القاضي عطية كان من ضمن الحصّة العونية في العهد السابق، لكنّ أداءه أثار حفيظة النائب جبران باسيل الذي حاول “قَبعه” من موقعه. وهو حالياً يعتبر أقرب إلى النائب السابق سليمان فرنجية، لكنّ أوساطاً مطّلعة تفيد بأنّ “التقرير سيبنى على وقائع ومعطيات وليس على السياسة، وسيكون منفصلاً عن تصفية الحسابات السياسية”.
السّتّ ندى!
فعليّاً، وبعدما أدلت كلّ الجهات المعنية بفضيحة الكهرباء بدلوها من رئيس الحكومة ونزولاً، ثمّة جانب آخر “مُظلم” من الملفّ أثّر بشكل مباشر على عدم تدارك shutdown الشبكة.
يشير كتاب ميقاتي بشكل واضح إلى مسؤولية “مجلس إدارة مؤسّسة كهرباء لبنان الذي لم ينعقد بسبب غياب المدير العام لا بل قَطَع التواصل مع الجميع ولم يفوّض أيّاً من الأعضاء الصلاحيات المالية. كما لم يبادر مجلس إدارة المؤسّسة إلى القيام بواجباته ولم يجتمع لاتّخاذ القرارات اللازمة بغياب أيّ دعوة من رئيسه حتى تاريخ يوم الأحد 18 آب بعدما حصلت العتمة الكاملة”.
ملفّ الكهرباء بكلّ تشعّباته و”ظلمته” ربّما يكون بحاجة إلى محكمة استثنائية قد تجد نفسها أمام مئات المتورّطين بملفّ الفساد على مرّ العهود
تؤكّد معلومات “أساس” أنّ وزيرة الطاقة السابقة ندى البستاني بالتنسيق مع باسيل طلبت من عضو مجلس الإدارة كمال سابا عدم الحضور في اليوم نفسه لانعقاد مجلس الوزراء الذي اتفق فيه على الصيغة القانونية بين الأمين العام لمجلس الوزراء محمود مكية، بإيعاز من ميقاتي، ووزير الطاقة ومجلس إدارة المؤسّسة خلال غياب الحايك.
قامت الصيغة على أساس دفع “كهرباء لبنان” قيمة الاعتماد الخاص بالمناقصة التي سبق وأجرتها وزارة الطاقة spot cargo لشراء 30 الف طن من الغاز أويل، إضافة إلى دفع جزء من مستحقات الدولة المتراكمة لصالح الجانب العراقي (تتحمّل مؤسّسة كهرباء لبنان قيمة الكمية الإضافية التي طلبها لبنان من زيت الوقود الثقيل وهي 470 الف طن من أصل مليون ونصف بعد تجديد الاتفاق عام 2022)، وإيداعه في الحساب المفتوح لهذه الغاية لدى مصرف لبنان. حصل ذلك مع علم بستاني بأن حتّى لو حضر سابا الاجتماع فإنّه لا يمكن إصدار أي قرار من دون توقيع رئيس مجلس الإدارة على أي إحالة، فيما لم يفوّض الحايك لأحد صلاحية التوقيع المالي.
حرب ندى على وليد
أتت خطوة باسيل والبستاني في سياق حربهما المفتوحة ضدّ وزير الطاقة، حيث سُمِع باسيل أكثر من مرّة يردّد بأنّه قد يعقد مؤتمراً صحافياً “ويفضح ممارسات وليد فياض”.
باختصار يرى فياض أنّ لديه رؤيته الخاصة داخل الوزارة التي لا يرى فيها مكاناً لـ “أوامر” ندى البستاني، لكنّ باسيل فوّض إلى البستاني ملف الكهرباء من ألفه إلى يائه منذ تعيين فياض وزيراً، فيما فوّض وزير الطاقة والدته لتتولّى الجانب الإداري في الوزارة، وهو يعتبرها السند الأوّل له. وصل الأمر إلى حدّ تردّد معلومات عن اتّصال ندى البستاني، كما يقول القريبون منها، برئيس الحكومة طالبة منه عدم الانسياق إلى خطة عمل فياض واصفة إيّاه بـ “المراوغ”.
تفيد معلومات “أساس” بأنّه بعد انتهاء رئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عطية من تقريره سيحيله إلى رئاسة الحكومة
على ما يبدو فَقَدَ وزير الطاقة ثقة كلّ من ميقاتي وباسيل معاً، خصوصاً أنّ أداءه مع الجانب العراقي كان “مهزوزاً” وأدّى إلى “زَعل العراقيين” باعترافه الشخصي. إذ إنّ السبب الأساس لاستخدام العراق مكابح وقف توريد الفيول للبنان في الآونة الأخيرة كان إعلان وزير الطاقة زيادة التغذية ساعتين واستخدام الفائض في شراء الفيول، فيما الديون تتراكم للجانب العراقي.
شكّلت هذه المسألة جزءاً من النقاش بين ميقاتي ورئيس الحكومة العراقي محمد شياع السوداني في اجتماعهما الأخير في بغداد. فعليّاً، لم تكرّر بغداد، على لسان الناطق باسم الحكومة، التزامها اتفاقية الفيول مع لبنان والتأكيد أنّ التأخير حصل لأسباب فنّية لوجستية إلّا بعدما حُلّ جزء من الدين العراقي.
مش قابضو جدّ
في المقابل، هناك مشكلة فعليّة بين فياض والحايك. الأخير يبدو أنّه “مش قابض الوزير جدّ” مع العلم أنّهما درسا جنباً إلى جنب في الجامعة نفسها. وشكّل اجتماع مجلس الإدارة يوم الأحد برئاسة الحايك بعد عودته من إجازته بمنزلة إدانة مباشرة للوزير ولاستخفافه بالمراسلات الموجّهة إليه من مؤسّسة كهرباء لبنان.
إقرأ أيضاً: حكومة الـ Blackout: الكهرباء بعونه تعالى!
حتى الآن يبدو حلف باسيل-البستاني-الحايك، إضافة إلى عضو مجلس إدارة مؤسّسة كهرباء لبنان خالد نخلة وكمال سابا، مسيطراً على الوزارة، فيما يبدو مسألة وقت فقط إعلان باسيل التبرّؤ من وزير الطاقة. أمّا فياض فيقولها علناً: “عقبات من فوق وتحت”، وأمس أشار لوكالة “سبوتنيك” الروسية في معرض تفنيده لمسبّبات أزمة الكهرباء إلى “عامل داخلي يرتبط بالمناكفات السياسية”.
لمتابعة الكاتب على X: