ليست إيران من تمارس ضبط النفس حيال العدوان الإسرائيلي عليها، بغية إفساح المجال أمام مفاوضات وقف إطلاق النار في قطاع غزة. فالدول العربية هي التي تصنع لإيران، عبر إشراكها غير المباشر في مفاوضات غزة، سلّماً تنزل به عن شجرة التصعيد التي تسلّقتها منذ 7 أكتوبر 2023، وحشرتها في زاوية المواجهة المباشرة المحتملة مع إسرائيل.
يندرج في سياق هذه الجهود، الاتّصال الذي أُعلن بين وزيرَي خارجية قطر وإيران في سياق واحدة من جولات مباحثات وقف إطلاق النار في الدوحة. وتندرج فيه أيضاً زيارة وزير الخارجية الأردني للعاصمة الإيرانية، مستثمراً في حاجة إيران لدور دبلوماسي في الأزمة يبعد عنها مخاطر المواجهة العسكرية المباشرة.
مهما علا إحساس إيران بضرورة استعجال اللحظة المناسبة للردّ على إسرائيل، فهي تدرك أنّ خياراتها الفعّالة محدودة للغاية. ظهر ذلك جليّاً في الردّ الإيراني الاستعراضيّ في 13 نيسان الفائت على استهداف إسرائيل مبنىً قنصليّاً تابعاً للسفارة الإيرانية في دمشق وقتل عدد من كبار ضبّاط الحرس الثوري العاملين في سوريا. لم تحقّق الصواريخ الكثيرة التي أطلقتها إيران وميليشياتها في اليمن والعراق ولبنان وسوريا الردع المأمول، بقدر ما استدرجت ردوداً أقسى. ردّت إسرائيل على الردّ بقصف أهداف إيرانية وصلت إلى أصفهان، وأتبعتها لاحقاً باغتيال هنية في قلب بيت ضيافة تابع للحرس الثوري الإيراني.
مهما علا إحساس إيران بضرورة استعجال اللحظة المناسبة للردّ على إسرائيل، فهي تدرك أنّ خياراتها الفعّالة محدودة للغاية
ردّ إيران كشف ضعفها
في الواقع كشف الردّ الإيراني نقاط ضعف طهران لا قوّتها، وألقى ضوءاً كاشفاً على المبالغات المحيطة بجودة وفاعلية ترساناتها الصاروخية، إذ إنّ عدداً ليس قليلاً من الصواريخ فشل في الإطلاق أساساً. فيما أخطأ العديد منها أهدافه ووجهته. في حين تولّت الدفاعات الإسرائيلية والغربية والعربية إسقاط 99% من المقذوفات، حتى قبل دخولها الأجواء الإسرائيلية.
والحال، تأسيساً على الموقف الإيراني الحرج، تجتهد عواصم عربية عديدة لتقديم مخرج لطهران، عبر إشراكها في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، وإتاحة الفرصة لها لحفظ ماء الوجه واستعراض حدود مقبولة من النفوذ الإقليمي، من دون مغامرة اللجوء إلى عمل عسكري. وبالفعل يشهد الموقف الإيراني تحوّلاً جذرياً من مواقف سابقة للمرشد علي خامنئي، آخرها في حزيران الفائت، دعا فيها إلى عدم الرهان على وقف إطلاق النار، نحو جعل وقف إطلاق النار علامةً من علامات النصر وبديلاً عن الردّ الإيراني الموعود على اغتيال هنية.
كشف الردّ الإيراني نقاط ضعف طهران لا قوّتها، وألقى ضوءاً كاشفاً على المبالغات المحيطة بجودة وفاعلية ترساناتها الصاروخية
إيران تعترف بحدود قدرتها
تمتلك إيران بالطبع ترسانة هائلة من أدوات الدعاية الإعلامية والسياسية التي تتيح لها، على الرغم من موقفها الحرج الآن، الحفاظ على سرديّة المقاومة والاقتدار، وادّعاء أنّ وقف إطلاق النار هو حصيلة صمودٍ هي الأساس في صناعته، وأنّ أيّ تنازلات من إسرائيل هي نتيجة لضغطها الاستراتيجيّ!
مع ذلك، تعترف إيران ضمناً، عبر قبولها بهذا الدور الدبلوماسي، بحدود قدراتها، وتكشف عن إدراك النظام فيها أنّ أيّ مغامرة عسكرية أخرى قد تؤدّي على الأرجح إلى ردّ إسرائيلي أكثر قوّة. لا سيما بعدما استعرضت حكومة بنيامين نتنياهو، نجاحات مذهلة في تصفية شخصيات رئيسية داخل حماس والحزب، وأبدت استعداداً حاسماً لتصعيد الصراع إلى أبعد حدود يمكن تخيّلها.
عليه، وإن حاولت طهران تسويق تأجيل الردّ كجميل للوسطاء والقوى الإقليمية والدولية، وكخدمةٍ للقضية الفلسطينية، إلا أنّ الجميع يدرك أنّ ما يحصل هو تراجع إيراني يتنكّر في شكل انتصار دبلوماسي. أمّا “تواطؤ” العواصم العربية مع إيران بشأن هذا الإخراج وتوفير ممرّ آمن لها وللمنطقة من تصعيد كارثيّ محتمل، إنّما تمليه مصالح الدول العربية المباشرة ومصالح شعوبها بالاستقرار، وإعادة الاعتبار للحلول السياسية وتهميش سطوة الميليشيات ما أمكن.
التجريم الممنهج لمشروع المقاومة هو الضمانة الوحيدة بإزاء طموحات إيران التوسّعية، والمدخل لإعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط
تغليب جاذبيّة الحكم الرّشيد
التحدّي العملاق الماثل أمامنا يتعلّق بتخيّل أفضل الطرق لاستثمار هذا التراجع الإيراني، ومنع طهران من جعله فرصة لإعادة تنظيم صفوفها وصفوف ميليشياتها واستعادة نفوذها الإقليمي. وربّما المدخل الأفضل لذلك، هو إحياء المشروع السياسي لفكرة الدولة الفلسطينية من دون استعجال الدولة نفسها، ودعم الحوكمة المدنية للأراضي الفلسطينية، عبر مشروع إعادة إعمار غزة ومنح الفلسطينيين أملاً يتجاوز سردية المقاومة والكفاح المسلّح. ففي ظلّ تراجع سردية المقاومة، بسبب الألم الخرافيّ الذي استدرجته على الفلسطينيين، معطوفاً على معاناة البيئات المحتلّة من المقاومات العديدة في المنطقة، تبرز فرصة لتضخيم حالة الاستياء من المشروع الإيراني وأدواته وتزخيم دعوات الإصلاح واستغلال مبادرات السلام القائمة لفرض شروط جديدة للاستقرار والتنمية وصناعة المصالح.
إقرأ أيضاً: نتنياهو لا يريد الحرب
الفرصة سانحة لتغليب جاذبية نموذج الحكم الرشيد، على نموذج “الكرامة” المستخرجة حصراً من فوهات المدافع والبنادق والمسيّرات والصواريخ. إنّ المعارضة الممنهجة لمشروع المقاومة هو الضمانة الوحيدة بإزاء طموحات إيران التوسّعية، والمدخل لإعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط على نحو ينهي قدرة إيران على التنمّر الاستراتيجي.
لمتابعة الكاتب على X: