ظاهراً، لم يجبر أحد لبنان على دخول حرب وإعداد نفسه لمرحلة يعيش فيها في ظلّ حال طوارئ لا معنى لها ولا أثر لها على أرض الواقع. قد يكون من معنى حقيقي لحال الطوارئ، في حال اتّخاذ إجراءات ذات طابع جدّي وعمليّ تعالج قضية وطنيّة هي قضيّة المودعين، الذين سرقت الدولة اللبنانية أموالهم وجنى عمرهم من مختلف المصارف. عندئذ، يكون هناك ما يدعو إلى أخذ الدولة اللبنانية، أو ما بقي منها، على محمل الجدّ، في حين يعرف الطفل أنّ حال طوارئ لمواجهة إسرائيل لا تفيد في شيء. باستثناء أنّ الكلام عن حال طوارئ يصبّ في خدمة توفير غطاء لمن افتعل حرباً مع إسرائيل انطلاقاً من جنوب لبنان. لا هدف لهذه الحرب سوى خدمة المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة العربيّة وما يتجاوزها، على حساب لبنان، ولا شيء آخر غير ذلك.
في الواقع، هناك من أجبر لبنان على دخول حرب وربط مصير البلد وشعبه بمصير غزّة. علماً أنّ مصلحته في الابتعاد قدر الإمكان عن هذا الربط الذي دفع، وسيدفع، ثمنه غالياً. دفع أهل الجنوب غالياً ثمن توقيع اتّفاق القاهرة في عام 1969. سيدفعون ثمناً أكبر بعد القرار الإيراني بفرض الربط بين حرب غزّة وفتح جبهة جنوب لبنان والمآسي التي ستنجم عن ذلك.
لم يجبر أحد لبنان على دخول حرب وإعداد نفسه لمرحلة يعيش فيها في ظلّ حال طوارئ لا معنى لها ولا أثر لها على أرض الواقع
لا يستطيع لبنان، في غياب اعتراف كبار المسؤولين فيه بأنّ الحزب ومن خلفه إيران افتعلا حرباً مع إسرائيل، سوى لوم نفسه على هذه الجريمة. ستغيّر هذه الجريمة طبيعة البلد والمجتمع وتقضي على ما بقي منه في ضوء الحرب المقبلة التي لم يعد في استطاعة إسرائيل تفاديها للأسف الشديد. هذه حرب يبدو لبنان مصرّاً على خوضها غصباً عنه وغصباً عن إرادة أكثرية اللبنانيين. أعطى لبنان، لبنان الذي يحكمه الحزب، إسرائيل كلّ المبرّرات لشنّ عدوان بعد آخر عليه. يحصل كلّ ذلك في ظلّ غياب تامّ للحكومة اللبنانية ولمجلس النواب… وفي ظلّ الفراغ القائم في رئاسة الجمهورية.
لا يوجد مخرج من هذه الحرب
هل من مخرج للبنان من المأزق الذي أوقع نفسه فيه؟ أو على الأصحّ، الذي أوقعته فيه “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانيّة؟ التي تريد تحويله خطّاً من خطوط الدفاع عنها وعن نظامها وورقة في مساومات مع أميركا وإسرائيل؟
لا وجود لمخرج، أقلّه في المدى المنظور، لا لشيء إلّا لأنّ لبنان ليس لاعباً إقليمياً بمقدار ما هو “ساحة”.
لا يستطيع لبنان، في غياب اعتراف كبار المسؤولين فيه بأنّ الحزب ومن خلفه إيران افتعلا حرباً مع إسرائيل، سوى لوم نفسه على هذه الجريمة
سيكون هناك مخرج عندما يوجد في لبنان رجال سياسة يقولون ما يجب قوله عن طبيعة العلاقة، أو اللاعلاقة مع إسرائيل. بدءاً باتّفاق الهدنة لعام 1949 الذي استمرّ سارياً حتى عام 1969 والذي خرقه لبنان بتوقيع اتفاق القاهرة في تشرين الثاني 1969. لا يوجد في لبنان سوى عدد قليل من السياسيين يعرفون ما طبيعة إسرائيل وما تريده إسرائيل. لا يوجد في لبنان من يتحدّث عن تنفيذ القرار الرقم 1701 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في مثل هذه الأيّام من عام 2006… من منطلق أنّ ذلك مصلحة لبنانيّة وليس مصلحة إسرائيليّة.
من سيسمّي الأشياء بأسمائها؟
ليس كافياً الحديث عن القرار 1701 في غياب الاعتراف بأنّ لبنان يعرف في العمق أنّ الحزب رفض منذ البداية القرار، الذي يعني عودة الجيش إلى جنوب لبنان، وأفرغه من مضمونه. متى يوجد في لبنان من يسمّي الأشياء بأسمائها، يصبح في الإمكان الحديث عن مخرج. مثل هذا الأمر ليس وارداً ما دامت الحكومة القائمة في خدمة الحزب وإيران، وما دام الفارق بين الخطاب السياسي لوزير الخارجية الحالي وخطاب أيّ مسؤول إيراني منعدماً.
لا يمكن لوم الحكومة أو أيّ مسؤول أو زعيم لبناني، مثل وليد جنبلاط، على سبيل المثال وليس الحصر، على التسليم بمنطق الحزب الذي يتحدّث عن اعتداءات إسرائيلية على لبنان ويتجاهل في الوقت ذاته أنّ إعلان الحرب على إسرائيل تترتّب عليه مسؤوليات كبيرة. إسرائيل دولة متوحّشة وليست جمعية خيريّة، خصوصاً في ضوء ما تعرّضت له يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأوّل) الماضي. يومذاك قرّرت “حماس” شنّ هجوم “طوفان الأقصى” من دون مشروع سياسي واضح يعالج النتائج التي ستترتّب على مثل هذا الهجوم الذي هزّ الكيان الإسرائيلي وجعل مستقبل الدولة العبريّة في مهبّ الريح لولا الدعم الأميركي الذي يبدو أن لا حدود له.
سيكون هناك مخرج عندما يوجد في لبنان رجال سياسة يقولون ما يجب قوله عن طبيعة العلاقة، أو اللاعلاقة مع إسرائيل
الفراغ السياسي الكبير
أكثر من أيّ وقت في تاريخه الحديث، بل منذ قيامه، يعاني لبنان من فراغ سياسي. لا يعبّر عن هذا الفراغ أكثر من أنّ مصيره لم يعد مرتبطاً بحرب غزّة وما ستؤول إليه فحسب، بل صار مرتبطاً أيضاً بمستقبل الدور الإيراني في المنطقة. لم يعد من وجود لقوّة لبنانيّة يمكن أن تشارك في تحديد مستقبل البلد في ضوء الغياب السنّيّ المخيف والسقوط المسيحي الذي ليس بعده سقوط والذي جسّده عهد ميشال عون – جبران باسيل الذي لم يكن سوى “عهد الحزب”. يضاف إلى ذلك كلّه الانكفاء العربي والدولي الذي يعكسه اعتبار الدول العربيّة النافذة أنّ لبنان ساقط عسكرياً وسياسياً أمام إيران.
إقرأ أيضاً: هل هناك يوم تالٍ؟؟
ماذا بقي من لبنان عندما لا يوجد مسؤول فيه، أو شبه مسؤول، يقول إنّ تنفيذ القرار 1701 على الأرض مسؤولية لبنانية قبل أيّ شيء آخر… وإنّ لعبة التذاكي والتلاعب بالكلام لم تعد تنفع في مرحلة مطروح فيها بالفعل إقليمياً مستقبل الدور الإيراني، وليس مستقبل لبنان فقط، في مرحلة ما بعد حرب غزّة.