مرّة أخرى.. شرقان أوسطان!

2024-08-12

مرّة أخرى.. شرقان أوسطان!

هيمنت مدن مجلس التعاون الخليجي على ثمانٍ من أصل المدن العشر الأُوَل، على مؤشّر أفضل المدن ملاءمة للعيش في الشرق الأوسط. يسلّط هذا التصنيف الدولي الذي نشرته مجلّة “إيكونوميست” البريطانية الضوء على نجاح استراتيجيات التنمية المدينية في هذا الشطر من الشرق الأوسط، لا سيما في أبوظبي ودبي، اللتين تحوّلتا إلى مركزين عالميَّين، على مستوى البنية التحتية والخدمات الصحّية، والتعليم، والتجارب الثقافية.

 

لأجل ذلك صارت هذه المدن مغناطيساً للمواهب والاستثمارات والابتكار، في بيئة تنتهج استراتيجيات التنويع الاقتصادي، والتحوّل الرقمي، وتطبيق أعلى معايير الحوكمة، الرافدة لجودة عمل القطاعين العامّ والخاصّ.

هذا ليس خبراً عابراً بالنسبة للتفكير في أيّ شرق أوسط نريد، لا سيما وسط سعار الحروب وما تنطوي عليه من مخاطر التوسّع نحو حروب إقليمية مدمّرة.

التأرجح بين قوّتين

تتأرجح منطقتنا بين قوّتين متنافستين: شبكة المقاومة، التي تقودها أيديولوجيات دينية جهادية مهووسة بأفكار تبسيطية عن السيادة والكرامة الوطنية ومعادية في العمق لكلّ ما تعتبره نفوذاً غربياً، وشبكة السلام والتكامل، التي تحرّكها طموحات اقتصادية وابتكارية ووعد بالتكامل والاندماج على مستويات آليّات الاستثمار وربط البنى التحتية.

تتجاوز هاتان الشبكتان كونهما مجرّد تحالفات سياسية متنافسة، فهما تنطويان على تجسيد محكم لرؤى مختلفة بشكل جذري لمستقبل المنطقة.

تتصدّر إيران قيادة شبكة المقاومة، التي تضمّ مختلف الجماعات الإسلامية والجهادية وبعض اليساريين، وتعرض على المنطقة مفهوم “وحدة الساحات”، أي تحويل أكبر رقعة ممكنة من الشرق الأوسط إلى جبهة قتال واحدة. تعتمد هذه الشبكة على آليّات ربط ودمج معقّدة لسلسلة متنوّعة من الميليشيات والفصائل والطوائف الدينية والقادة المذهبيين، يجمعها بشكل رئيسي العداء لإسرائيل والولايات المتحدة والغرب عموماً.

حتى صلات هذه الشبكة بآسيا، أو ما يسمّى التوجّه شرقاً، لا سيما تصوّرها عن دور وموقع الصين، لا تتجاوز منطق التحالفات العسكرية واستعارة عناصر القوّة في مقابل “قوّة الأعداء”. فهي تعمل بشكل شبه حصري وفق فرضية أنّ النضال العسكري والنقاء الأيديولوجي هما مفتاح القوّة في المنطقة.

هيمنت مدن مجلس التعاون الخليجي على ثمانٍ من أصل المدن العشر الأُوَل، على مؤشّر أفضل المدن ملاءمة للعيش في الشرق الأوسط

في المقابل، وبدل نظرية وحدة الساحات، تسعى شبكة السلام والتكامل إلى ربط الأسواق العالمية والإقليمية، والبنى التحتية، والنخب، ووسائط المعلومات، وصناديق التحوّط، وحاضنات التكنولوجيا، والمسارات التجارية الرئيسية. تتجاوز هذه الشبكة الحدود الجغرافيّة التقليدية، والرؤيا التبسيطية حول السيادة، وتخلق شبكة من الاعتماد الاقتصادي والتكنولوجي المتبادل، لديها القدرة على إعادة تشكيل هياكل السلطة وقواعد الحوكمة وتوفير مناخات جديدة من الاستقرار الإقليمي.

الكرامة من فوّهة البندقية..

تختصر بيروت سيرة العبور الآثم بين هاتين الشبكتين. رحلة قاسية من بيروت المصارف والملاهي ومركز عقد الصفقات، التي يمقتها السيد محمد رعد، إلى بيروت الدشمة ومقرّ الميليشيات العسكري والإعلامي واللوجستي. ومثلها دمشق القابعة في أسفل مؤشّر المدن الملائمة للعيش، وكذلك صنعاء أو بغداد. نتيجة مأساوية لكن متوقّعة لسنوات من الحرب الأهلية والتعبئة الأيديولوجية والهوس المقاوماتيّ باستخراج الكرامة الإنسانية من فوهة البندقية حصراً.

الشرق الأوسط

التباين بين هذين النهجين لا يقتصر فقط على السياسات الاقتصادية. إنّه صراع أيديولوجي له عواقب واقعية ومباشرة. تبنّي مجلس التعاون الخليجي للأسواق العالمية، والتقدّم التكنولوجي، والنظرة العالمية الكوزموبوليتية وقيم التسامح، خلق مدناً ليست فقط قابلة للعيش، لكنّها أيضاً مختبرات طموحة مشدودة بكلّ تفاصيلها نحو المستقبل ومنخرطة في الصراع على تشكيله وتشكيل أدوات صناعته.

بخلاف ذلك، تقدّم شبكة المقاومة رؤية متجذّرة في الماضي. تقدّم أولوية النضال ضدّ الأعداء، سواء كانوا داخليين أو خارجيين، على تطوير المجتمع نفسه.

تتجاوز هاتان الشبكتان كونهما مجرّد تحالفات سياسية متنافسة، فهما تنطويان على تجسيد محكم لرؤى مختلفة بشكل جذري لمستقبل المنطقة

ليس من باب الصدف أنّ الجمود الأيديولوجي لهذه الشبكة أدّى إلى عزلتها الاقتصادية والركود الثقافي والتخلّف القيمي في المناطق التي تسيطر عليها. لنتأمّل قليلاً في كلّ الصراخ المقاوماتيّ المحيط اليوم بكارثة غزة ونداءات التضامن والتحدّي، ولنعاين نتائج ذلك بصدق في ضوء انسحاق الكرامة البشرية لأهالي القطاع أمام توحّش الهجمة الإسرائيلية المضادّة والعناد القاتل لما يسمّى قادة المقاومة!

إقرأ أيضاً: السّلام العربيّ – الإيرانيّ؟

نموذج مدن معسكر السلام والتكامل، بشهادة تصنيفات الملاءمة للعيش، يشير إلى أنّ خيار السلام ليس مجرّد احتمال، بل هو حقيقة قائمة، بل الحقيقة الوحيدة القادرة على تعميم هذا المستقبل على الجميع، إن أُعطيت الأولوية للتكامل الاقتصادي، والتقدّم التكنولوجي، والتنمية الاجتماعية على النقاء الأيديولوجي والمواجهة العسكرية.

الاختيار بين هاتين الشبكتين ليس مجرّد خيار بين سياسات، بل معركة وجودية سيتقرّر في ضوء نتائجها مصير مئات ملايين البشر في جميع أنحاء الشرق الأوسط الموسّع.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@NadimKoteich

مواضيع ذات صلة

هل طوي ملف الصفقة؟

بالتأكيد طوي الملف، أولاً بفعل الخوف الأمريكي من فشلٍ جديد في الأسابيع المتبقية على الانتخابات، وثانياً بفعل عدم التوصل إلى صيغة أكثر توازناً من سابقاتها،…

ما لم يواجهه الحزب من قبل

كان لافتاً غياب الأمين العامّ للحزب عن أربعين القيادي فؤاد شكر. تُركت منصّة الخطابة لرئيس المجلس التنفيذي في الحزب هاشم صفي الدين. الخطابان اللذان ألقاهما…

بزشكيان والعراق: تراجع تكتيكيّ للميدان الكردي.. لمصلحة السّياسة

هل سلّم الميدان الإيراني بحقيقة أنّه غير قادر على إدارة الموقف الإيراني بمفرده؟ وأنّه انطلاقاً من رؤيته الحصرية للأمور، حان الوقت لتقاسم أو توزيع الأدوار…

غزّة: ناخب أساسيّ في الأردن.. ومهمّ في أميركا

تقدّمت جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات النيابية الأردنية على كلّ قوائم الأحزاب التي شاركت في انتخابات البرلمان العشرين. وإلى جانب اعتبارات تنظيمية، تميّزت بها الجبهة…