منذ أن استولت حركة “حماس” على السلطة في قطاع غزّة عام 2007 توالت الأسئلة بشأن الأهداف البعيدة المدى التي تنشدها في انتهاجها طريق “الحسم” للتفرّد بالسلطة في القطاع وطرد ومنع أيّ وجود للسلطة الفلسطينية برئاسة الرئيس الفلسطيني محمود عباس. تعتبر السلطة في رام الله “حسم” حركة حماس الدمويّ انقلاباً على الشرعية، ولم ينجح طرفا الصراع مذّاك في ترميم ما تصدّع وولوج أيّ مصالحة تقود إلى وحدة فلسطينية وحكومة شرعية واحدة. وفيما تتكثّف المداولات حالياً لاختيار رئيس للمكتب السياسي يخلف إسماعيل هنيّة، فإنّ “حماس” تبدو منهكة البنيان بسبب زلزال “طوفان الأقصى” انتهاء باغتيال هنيّة في قلب العاصمة الإيرانية طهران.
لطالما بدت “حماس” متأخّرة عن “فتح” وبقيّة الفصائل في التحاقها بالصراع وفي استخلاص دروسه. كان الإسلام السياسي الفلسطيني، بما في ذلك فرع جماعة الإخوان المسلمين، غير معنيّ بالتحرّك الوطني العسكري لتحرير الأرض بالنسخة التي باشرها الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورفاقه عام 1965 قبل التحاق التيّارات اليسارية والقومية الفلسطينية بهذا المسار لاحقاً منتجة “الجبهات” و”المنظّمات” التي بدا بعضها واجهات لأجندات خارجية.
تأسّست “حماس”، وفق التأريخ الرسمي، عام 1987، أي بعد 22 عاماً من انطلاق حركة “فتح”. لم تشهد الحركة “معركة الكرامة” ولا صراع الأردن، ولم تكن جزءاً من صراع لبنان ومحنة اجتياحه عام 1982. ظهرت الحركة بقيادة الشيخ أحمد ياسين ملتحقة بالانتفاضة التي انفجرت عام 1987. قبل ذلك، كان بعض الإسلام السياسي يكفّر نضال “الفدائيين” ولا يصلّي على شهدائه، وبعضه الآخر يتمسّك بالدعوة والإعداد الديني ومهتمّ بـ”حال الأمّة” غير مكترث بنضال من أجل تحرّر وطني لا يقيم حكم الشرع. وإذا ما طوّرت “حماس” مفاهيم النضال وأقرّت شرعية “أرض فلسطين” ساحة للجهاد، فإنّ كثيراً ممّا قيل وكُتب وبات معترفاً به في إسرائيل يؤكّد أنّ الاحتلال ساهم في ولادة “حماس” الإسلامية لتكون نقيضاً وخصماً لـ “فتح” الوطنية.
من مصلحة إسرائيل الموضوعية العمل على رعاية الشقاق داخل الجدار الفلسطيني وزرع العداوات بين فصائله
إسرائيل ترعى الشّقاق الفلسطينيّ
من مصلحة إسرائيل الموضوعية العمل على رعاية الشقاق داخل الجدار الفلسطيني وزرع العداوات بين فصائله. والدور الإسرائيلي ليس وهماً أو “نظريّة مؤامرة”. فحتى المعارضة في إسرائيل وخصوم رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، يحمّلونه مسؤولية تعظيم قدرات “حماس” على تنفيذ “طوفان الأقصى” بسبب تسهيله ورعايته لتمويلات قطرية دائمة للحركة في غزّة. ولئن كانت الحركة مستفيدة من “مؤامرات” إسرائيل المغرضة، غير أنّ الحركة، على الرغم من نضالاتها المتعدّدة المستويات والقابلة لوجهات النظر، لم تفعل شيئاً لإجهاض خطط نتنياهو لتقويض الوحدة السياسية الفلسطينية.
ادّعت إسرائيل دائماً أن لا شريك فلسطينياً لعملية سلام. استفادت من هذا الانقسام لإقناع العالم أنّها حيال مجموعات فلسطينية متفرّقة بعضها موضوع على لوائح الإرهاب في العالم. كان من المفروض ببساطة، ربّما ساذجة، التحاق “حماس” بمنظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثّل الشرعي المعترف به دوليّاً للشعب الفلسطيني، والانضمام إلى هياكل السلطة الفلسطينية، ما دامت قبلت خوض انتخابات تشريعية ودخول برلمان هذه السلطة على الرغم من تحفّظاتها على اتفاقات أوسلو لعام 1993، وحتى رفضها لها، لكنّها لم تفعل. وقد لا تتحمّل وحدها وزر هذا الفشل في تجاوز حدث الحسم/الانقلاب والذهاب إلى المصالحة التي تمّ الاتفاق عليها في العديد من عواصم المنطقة.
“حماس” التي تدفع أثماناً غالية بعد “الطوفان”، بما في ذلك مقتل قادتها واغتيال رئيس مكتبها السياسي، والتي تبحث وتدرس مسألة تنصيب خليفة لهنيّة
الجسم الفلسطينيّ وأجندات العالم
تسرّبت أجندات العالم خلال العقود الأخيرة داخل الجسم السياسي الفلسطيني. كان لبعثيّي سوريا والعراق واجهاتهم ولثوريّة القذافي أجسامها، وللعقائد الماويّة واللينينية أتباع ومريدون. وإذا ما ظهرت الولاءات على شكل تنظيمات منفصلة منقسمة، فهي داخل حركة “فتح” ظهرت على شكل تيّارات ما بين يمين ويسار ووسط. غير أنّ “حماس” بحدّ ذاتها مثّلت وتقاطعت داخلها أجندات متعدّدة متداخلة متناقضة ومتكاملة. فإذا ما أسقطنا غضّ الطرف الإسرائيلي الخبيث عن إنشائها، فإنّ الحركة جزء من الإسلام السياسي الإخواني العامّ وأظهرت الموقف والانحياز والتدخّل لنصرة الإخوان ومعاداة مصر وبقيّة أرجاء المنطقة في موسم “الربيع العربي” عام 2011 وما بعده. وإذا ما ظهر نفوذ قطر وتركيا متّسقاً مع منطق رعاية ذلك الإسلام السياسي، فإنّ حماس بدت ذراعاً من أذرع إيران في المنطقة وخاضعة تماماً لأجندات طهران الإقليمية.
لـ “حماس” منطقها في التقدّم والتراجع والاجتهاد في تطوير وثائقها. عام 2017 أُعلنت وثيقةٌ اعتُبرت لافتة لجهة موافقة الحركة على إقامة دولة “مؤقّتة” على حدود 1967 وحذف البند المتعلّق بإبادة إسرائيل وإسقاط الإشارة إلى جذورها الإخوانية ووصف منظمة التحرير بأنّها “إطار وطني للشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين”. وعلى الرغم من أنّها أغرقت هذه التحوّلات بديباجات مطّاطة قابلة لتفسيرات متعدّدة، غير أنّ كثيرين تساءلوا عن تأخّر “حماس” سنوات في الإقرار بما توصّلت إليه “فتح” وفصائل منظمة التحرير مستغربين إسقاطها الرشيق لخطاب التخوين والتكفير السابق.
في البحث عن خليفة لـ”هنيّة” يتسرّب كلام عن صراع بين تيار قريب من إيران وتيار قريب من الإخوان المسلمين
غربة حماس عن الجسم العربيّ
أنتجت هذه التحوّلات إشارات تأهيليّة موجّهة إلى العالم من دون أن تحدث أيّ فارق باتجاه اللحمة الفلسطينية. ظلّت “حماس” غريبة عن الجسم العربي ملتصقة بتركيا تارة وبإيران تارة أخرى حاملة خطاباً عدائيّاً ضدّ النظام العربي. وفيما كان برّر القيادي خالد مشعل هذا الخيار بأنّه نتاج إقفال الأبواب العربية في وجه الحركة، لكنّ الحركة لم تجرِ أيّ نقد ذاتي بشأن سلوكها وعقائدها المعادية لعواصم عربية، وهو ما يفسّر موقف تلك العواصم شبه الجماعي المتحفّظ على تنظيم فلسطيني بدا أنّه جزء من واجهات إيران المعادية لها، علاوة على انحيازه وتدخّله في صراعات المنطقة الداخلية أو تلك التي نشبت مع تركيا في مرحلة سابقة.
وسط “عقائدية” صراع “حماس” مع دول المنطقة، بدا غريباً أن تطالب الحركة بدعم العرب لخياراتها بصفته حقّاً لها حتى لو ذهبت باتجاه تنفيذ خيارات ذات أجندات تعاديهم. وإذا ما يستنتج الفلسطينيون أنّ “القضية” تحتاج إلى أن تكون من جديد جزءاً من البيئة السياسية العربية الحاضنة وليست خصماً لها، فإنّ “حماس” التي تدفع أثماناً غالية بعد “الطوفان”، بما في ذلك مقتل قادتها واغتيال رئيس مكتبها السياسي، والتي تبحث وتدرس مسألة تنصيب خليفة لهنيّة، تقف هذه الأيام أمام مشهد فلسطيني وعربي ودولي يفرض عليها قراءة صعبة لكن متأنّية للواقع الموجع. يملي هذا الواقع مراجعة بنيوية لا تكون شكلية أو تكتيكية تأخذ بالاعتبار موازين القوى التي لم تتغيّر منذ ما قبل “طوفان الأقصى”، لا بل تأكّد اختلالها، وباتت أكثر شراسة حتى لو أنّ غضب إيران وردّها الموعود انتقاماً لزعيم الحركة يوحيان بغير ذلك ويجرّان الحركة من جديد إلى فخاخ عبثية جديدة.
إقرأ أيضاً: أهداف ثلاثة في 24 ساعة: إيران أمام ما بعد “الطوفان”
في البحث عن خليفة لهنيّة لقيادة حماس يتسرّب كلام عن صراع بين تيار قريب من إيران وتيار قريب من الإخوان المسلمين وتنظيمه الدولي ومرجعياته الإقليمية. والأجدى أن يكون في خيار حماس تحوّلات جديدة فلسطينية تدفع باتجاه مصالحة مع كلّ فلسطين تقيها شرور الأجندات الواردة من خارج “الوطن”.
لمتابعة الكاتب على X: