هكذا جعلنا نتنياهو “شهيد مجدل شمس” الحيّ!

مدة القراءة 7 د

لا يُلدغ مؤمنٌ من جُحر مرّتين؟!

بلى يمكن. وقد لُدغ. وقد حصل ذلك في قلب بيروت.

فبين غارة حارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبية، وتصفية فؤاد شُكر المسؤول العسكري الأوّل في “الحزب”، وبين ضربة طهران والقضاء على إسماعيل هنيّة، المسؤول السياسي الأوّل في “حماس”، كانت أكثر من لدغة، وأكثر من خطأ، وأكثر من تقصير.

وهو ما يقتضي كلاماً صريحاً ومباشراً.

وقعت مأساة مجدل شمس في توقيت شيطاني بامتياز، توقيت رائع مروّع. وهو رائع بالنسبة إلى رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو وجنونه وتوحّشه، ومروّع لكلّ ما عداه، أو من عاداه. هذا التوقيت جمع اللحظات التالية:

  • بعد زيارته واشنطن وما “أنجزه” نتنياهو هناك. قيل إنّه بعيداً عن مسرحية خطاب الكونغرس، وبمعزل عن بروتوكوليّة لقاءاته الثلاثة مع الرئيس جو بايدن ومرشّحته كامالا هاريس وغريمهما دونالد ترامب، التقى الرجل من يصنعون القرار في الماكينة الأميركية الضخمة والمعقّدة، وبحث معهم ملفّات أربعة تهمّ الجانبين:
  • غزّة واليوم التالي.
  • جنوب لبنان في ظلّ احتمالَيْ سير “الحزب” بمساعي الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين أو عدمه.
  • إيران ومستقبل العلاقات معها، بنوويّها وبنفوذها في المنطقة.
  • وأخيراً الاتفاق الاستراتيجي الأميركي – السعودي، خصوصاً في الشقّ المرتبط بفلسطين وإسرائيل، على قاعدة تطبيعٍ كاملٍ مع الثانية، بشرط التزام مسارٍ ثابتٍ لا عودة عنه لقيام دولة الأولى.
  • عشيّة وصول المفاوضين حول تسوية غزة إلى روما. طار اللقاء وربّما تكاد تطير المفاوضات أو حتى مشروع التسوية.
  • عشيّة نيّة نتنياهو حسم أمره بخصوص عزل وزير جيشه، غالانت، وإسناد حقيبته إلى جدعون ساعر، بعد عودته من واشنطن يوم الأحد تماماً. وهو واحد من جملة مؤشّرات إلى صعوباته الداخلية في مختلف حلقات داخليّاته، وصولاً إلى قلب حكومته “وكابينته”.
  • بشكل متزامن مع ما يحصل في سوريا، من عودة عربية وتركية وأوروبية. في المقابل تصفيات على الأراضي السورية، قيل إنّها إيرانية – روسية متبادلة. تصفية لونا الشبل بحادث سير عرضيّ، قابلتها تصفية براء القاطرجي بغارة سير اعتراضية… ومجدل شمس، للتذكير فقط، بلدة سورية أرضاً وشعباً مفترضَيْن.

في هذا التوقيت الشيطاني لمصلحة نتنياهو، وقعت المأساة في مجدل شمس: 12 طفلاً شهيداً بعمر نورها. فوقعنا نحن في الأخطاء والعجز وانعدام الرؤية والمبادرة والقرار.

وقعت مأساة مجدل شمس في توقيت شيطاني بامتياز، توقيت رائع مروّع. وهو رائع بالنسبة إلى رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو وجنونه وتوحّشه

خطآن قاتلان في لبنان…

أدار نتنياهو فوراً محرّكات طائرته للعودة من واشنطن. وأدار معها ماكينته الإعلامية والسياسية والدبلوماسية والعسكرية والأمنيّة. فيما غرق لبنان والمعنيّون فيه بالمأساة في خطأين قاتلين:

  • تُرك نتنياهو على مدى أربعة أيام كاملة يتصرّف وكأنّه “وليّ دم” الأطفال الشهداء. في الإعلام والسياسة والدبلوماسية والمحافل الدولية وعلى كلّ مستوى ونطاق.

فأُعطيَت لجنونه وتوحّشه 96 ساعة كاملة ليظهر هو بمظهر الضحيّة والمعتدى عليه وصاحب الحقّ في الردّ والثأر.

هي مفارقة صارخة لا يمكن تصوّرها أن قدّمنا لهذا الرجل كلّ الفرص والظروف ليبدو رئيس سلطة احتلال مجدل شمس والمسؤول عن تدمير غزة وإيقاع أكثر من مئة ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، ليبدوَ هو نفسه من يسلّم له العالم، ونحن ضمناً، بضرورة الانتقام لاثني عشر طفلاً درزياً سوريّاً عربياً، سقطوا شهداء مذبحةٍ، نقول نحن إنّه هو من ارتكبها… وسكتنا!

أدار نتنياهو فوراً محرّكات طائرته للعودة من واشنطن. وأدار معها ماكينته الإعلامية والسياسية والدبلوماسية والعسكرية والأمنيّة. فيما غرق لبنان والمعنيّون فيه بالمأساة

“نتنياهو” شهيد مجدل شمس الحيّ

لا اجتماعَ فوريّاً لحكومة لبنان. لا استدعاء بعده مباشرةً لسفراء الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن. لا تنسيق مع دمشق لدعوتها، والتمنّي عليها والإلحاح والإصرار، لتقديمها شكوى إلى المنظمة الأممية، حول قتل 12 طفلاً من شعبها، يضافون إلى مئات آلافٍ سقطوا خلال عقد ونيّف على أرضها وغير سلطتها.

لا استنفارَ إعلاميّاً أو دبلوماسياً أو سياسياً أو شعبياً في العالم. لا تظاهرة لعشرة أشخاص في مكان ما على الكوكب للقول: ها هو المرتكب يتحضّر لاستغلال ارتكابه لتنفيذ ارتكابٍ آخر،

وخصوصاً خصوصاً، لا لجوءَ من لبنان، حكومةً وممانعةً أو فريقاً واحداً كما أراد وليد جنبلاط تبديداً لغموض من يحكم البلد ويتحكّم به وبمصيره، لا لجوء من هذا الحاكم المتحكّم إلى أبسط إجراءٍ ممكن دولياً لمقاضاة نتنياهو بالذات، ولو كلامياً، عن مذبحة مجدل شمس.

والآليّات لذلك موجودة وكثيرة. كان يكفي الاستناد إلى الرأي الاستشاري الذي أعلنته محكمة العدل الدولية قبل نحو أسبوعين، برئاسة اللبناني المتميّز نوّاف سلام بالذات، حول عدم شرعية ممارسات إسرائيل في الأراضي المحتلّة وعواقبها، ومجدل شمس محتلّة، لفتح الباب أمام سلسلة لا تنتهي من ملاحقات لبنانية للكيان الصهيوني، ولنتنياهو بالذات، أمام سلسلة من محافل المحاكم الدولية.

لم نفعل شيئاً من ذلك كلّه، فظهرنا في مظهر “كادَ المريبُ…”، وتركنا نتنياهو يلبس زوراً قناعَ “شهيد مجدل شمس الحيّ”، حتى استعدَّ وعبّأ واستكمل وسدّد!

اطمأنّ لبنان خلال 96 ساعة إلى تحييد بيروت. ونام عن مسؤولية وطنية كبرى في ملاحقة المرتكب، بدل إعطائه الذريعة لتكرار ارتكابه

الخطأ الثاني: تصديق هوكستين

  • خطأٌ ثان ارتكبناه لا يقلّ جسامةً عن الأوّل. ففيما بدونا كأنّنا لم نصدّق اتّهامَنا نحن بالذات لنتنياهو بأنّه هو المرتكب ونحن الضحايا، صدّقنا في المقابل كلامَ هوكستين.

إذ نجح الرجل في نقل رسالتين اثنتين على الأقلّ. والرسالتان للدقّة لم ينقلهما رئيس المجلس ولا رئيس الحكومة. وهذا ما جعل ميقاتي يحرص في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة على التأكيد والتشديد على أنّه لم يُخدع لحظة بأيّ تطمين، ولم يتلقَّ أصلاً أيَّ تطمين لينقله إلى أيّ جهة.

رسالتان مفادُهما الزعمُ بأنّ “الأخ المجاهد آموس” قد نجح فعلاً مع العدوّ في مسعاه لتحييد بيروت والضاحية الجنوبية!

وعلى الرغم من كلّ النفي والتكذيب وردود الجميع بأنّهم لم يصدّقوه، يظلُّ ثابتاً أنّ الجميع تصرّف وكأنّه صدّقه.

مرّة ثانية بدا كأنّنا بلعنا الاطمئنان نفسه، في ترسيم ردعيّ لمصلحة إسرائيل، تماماً كما سقطنا في الترسيم البحري لمصلحتها

من استئناف حركة مطار بيروت، إلى استئناف اجتماع حارة حريك، بين شخصين من الأكثر سرّية وتكتّماً، فوق سطح الأرض، وفي مبنىً، كان الناس المتهافتون إلى مكان الغارة يصرخون: إنّه مبنى “الشورى”!

لا يُلدغُ مؤمنٌ مرّتين؟!

بلى حصل. حصل مرّةً أولى عند الترسيم البحري قبل سنتين. يوم جاء هوكستين نفسه وخنقناه عناقاتٍ ومدائحَ وتسمياتٍ تاريخية باسمه.

إقرأ أيضاً: نحنُ وحسن وأميرة: خطواتُنا الأخيرة… قبل الموت

ويومها إذ خَدع الرجل صغارَ من تعاطوا معه، تولّى هؤلاءُ نقل انخداعهم وأوهامهم إلى الأمين العام للحزب، وهو ما جعله ذاتَ يوم من تشرين الأول قبل عامين يبشّر ناسه “ببداية كسر الحصار الأميركي والغربي على لبنان”، وأنّ ما أُنجز بوساطة هوكستين “يحطّ لبنان على طريق الاقتصاد”، مستدلّاً بأنّ “هوكستين تكلّم هكذا. ووزير خارجية أميركا أنتوني بلينكن تكلّم هكذا. وبايدن تكلّم هكذا أيضاً”، مؤكّداً مطمئناً بأنّ “غداً لناظره قريب”!!

مرّة ثانية بدا كأنّنا بلعنا الاطمئنان نفسه، في ترسيم ردعيّ لمصلحة إسرائيل، تماماً كما سقطنا في الترسيم البحري لمصلحتها. اطمأنّ لبنان خلال 96 ساعة إلى تحييد بيروت. ونام عن مسؤولية وطنية كبرى في ملاحقة المرتكب، بدل إعطائه الذريعة لتكرار ارتكابه.

الآن بتنا هنا. فماذا بعد؟!

 

لمتابعة الكاتب على X:

@JeanAziz1

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…