لطالما هدّدت إسرائيل رئيس المكتب السياسي في حركة “حماس” إسماعيل هنية باغتياله وإلحاقه بقادة الحركة الإسلامية الفلسطينية الذين سبق لها أن قضت عليهم، على غرار مؤسّس الحركة الشيخ أحمد ياسين وأبرز قادتها: عبد العزيز الرنتيسي وصلاح شحادة وسعيد صيام وإسماعيل أبو شنب وصالح العاروري والعشرات غيرهم… فهل اغتال نتنياهو صفقة تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار؟
قبل 12 عاماً هدّد الرئيس السابق للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي الحالي تساحي هنغبي، إسماعيل هنيّة بالقول إنّه “ليس محصّناً لأنّه منتخب من الجمهور”. وأضاف: “أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي ينتظرانه في حال استمرّ في قتل اليهود”.
وبالفعل أضافت إسرائيل جريمة جديدة إلى سجلّها الدموي الحافل وذهبت بعيداً باغتياله ليل الثلاثاء في طهران، بعد محاولات عدّة فاشلة في غزة. ونجحت قبل ذلك بأشهر عدّة في القضاء على ثلاثة من أبنائه، وأربعة من أحفاده في غارة جوّية إسرائيلية على السيّارة التي كانوا يستقلّونها في القطاع.
قبل 12 عاماً هدّد رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي الحالي تساحي هنغبي، إسماعيل هنيّة بالقول إنّه “ليس محصّناً لأنّه منتخب من الجمهور”
أبو العبد: أوّل رئيس حكومة منتخب
هنيّة الملقّب بأبي العبد اختبر حياة القهر في مخيّم اللاجئين في الشاطىء الذي التجأت إليه عائلته بعد احتلال قريتهم الجورة القريبة من عسقلان. وذاق طعم السجون والمعتقلات الإسرائيلية سنوات عدّة. وعاش حياة المنافي في مرج الزهور على الحدود مع لبنان. لم تنل الصعاب من عزيمته وتعلّقه بالأرض والسعي إلى استعادتها مهما غلا الثمن والتضحية.
تعرّف في سنّ مبكرة على الشيخ أحمد ياسين وصار من مريديه الخلّص ملتحقاً في صفوف الحركة الإسلامية وناشطاً في الحركة الطالبية والحزبية والسياسية. وكان من أوائل المطالبين بدخول حماس معترك السياسة وتحويلها إلى حزب. وكان له ما أراد حتى صار أوّل رئيس حكومة منتخب للسلطة الفلسطينية قبل الشرخ الدامي بين حركتي “فتح” و”حماس”، وابتعاد قطاع غزة عن الضفة الغربية.
بقي رئيساً لحكومة غزة حتى رئاسته المكتب السياسي لـ”حماس” عام 2017.
تخصّصه الجامعي بالأدب العربي وثقافته الإسلامية جعلاه خطيباً مفوّهاً. وعلى الرغم من اللهجة الصارمة التي يستخدمها في تصريحاته، فإنّ محاوريه والمقرّبين منه يعتبرونه براغماتيّاً وأكثر قادة الحركة اعتدالاً، وصاحب خطاب “رصين ومنفتح” على مختلف الفصائل حتى تلك المنافسة لحركته.
هنيّة الملقّب بأبي العبد اختبر حياة القهر في مخيّم اللاجئين في الشاطىء الذي التجأت إليه عائلته بعد احتلال قريتهم الجورة القريبة من عسقلان
تهديد الغرق في رمال غزّة
توعّد هنية جنود الجيش الإسرائيلي بأنّهم سيجدون أنفسهم “غرقى في رمال غزة”. لكنّه في الوقت نفسه قام بجولات مكّوكية في عواصم عدّة لإجراء محادثات بغية التوصّل لاتفاق مع إسرائيل يفضي إلى وقف النار وإطلاق المحتجزين مقابل الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، وإدخال المساعدات لغزّة. وكان المفاوض الفلسطيني الأبرز في محادثات وقف النار غير المباشرة الجارية بين “حماس” وإسرائيل بوساطة أميركية قطرية مصرية.
تجمع المصادر المختلفة على أنّ هنية كان “الواجهة السياسية والدبلوماسية” لـ”حماس”. ذلك أنّه يرتبط بعلاقات وثيقة مع قادة كبار وحكومات وشخصيات في قطر وتركيا وإيران ومصر وغيرها من دول المنطقة. كما كان حلقة الوصل الأساسية بين جناحَي “حماس” السياسي والعسكري.
على الرغم من دوره الفعّال في بناء القدرات القتالية لـ”حماس” عبر طرق عدّة، منها تعزيز العلاقات مع إيران التي لا تخفي دعمها المادّي والعسكري والسياسي للحركة، لم يتّضح ما إذا كان على علم مسبق بعملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها “كتائب القسّام” ضدّ إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023. ذلك أنّ الخطّة، التي وضعها المجلس العسكري في “القسّام”، كانت سرّية للغاية لدرجة أنّ بعض مسؤولي الحركة بدوا متفاجئين من توقيتها وحجمها. وحتى إسرائيل ركّزت في اتّهامها على رئيس المكتب السياسي للحركة في غزة يحيى السنوار والقائد العسكري محمد الضيف ومساعده مروان عيسى. ومع ذلك بقي هنيّة هدفاً رئيسياً على قائمة الاغتيالات الإسرائيلية. مع استبعاد عملية التنفيذ في مقرّ وجوده في قطر لأسباب عدّة أبرزها أنّ الدوحة وسيط رئيسي بين الجانبين وحليف قريب لواشنطن وتستضيف أبرز قواعدها العسكرية في المنطقة.
تجمع المصادر المختلفة على أنّ هنيّة كان “الواجهة السياسية والدبلوماسية” لـ”حماس”.
قتل المُفاوض؟
أما وقد جرى تنفيذ الاغتيال في قلب المنطقة المحميّة في طهران وبضيافة القيادة الإيرانية العليا في ذروة الاحتفالات بتنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان… وتزامناً مع اغتيال المسؤول الكبير في الحزب فؤاد شكر “الحاج محسن” في قلب الضاحية الجنوبية في بيروت، والهجمات الكبيرة واللافتة على مواقع للحشد الشعبي في العراق… فإنّ العملية تأخذ بعداً آخر شديد الخطورة يتعدّى حدود غزة والردّ على “طوفان الأقصى”، إلى منزلقات أخرى تهدّد ما بقي من استقرار في المنطقة برمّتها. لقد جمعت إسرائيل كلّ أسباب اندلاع حرب واسعة في ليلة واحدة.
فلسطينياً، حيث العدوان لم يتوقّف، يتوقّع أن تكون المحادثات حول صفقة تبادل الأسرى العالقة منذ أسابيع عند المواقف الإسرائيلية المتشدّدة، أوّل المتضرّرين. لأنّ الاغتيال في طهران قضى على المفاوض الفلسطيني الأوّل، وتالياً قصم ظهر الصفقة. فقد اعتبر رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أنّ نهج الاغتيالات السياسية والتصعيد المقصود ضدّ المدنيين في غزة في كلّ مرحلة من مراحل التفاوض يدفع إلى التساؤل: كيف يمكن أن تجري مفاوضات يقوم فيها طرف بقتل من يفاوضه في الوقت ذاته؟
لبنانياً، فإنّ الحزب سينظر إلى استهداف قائده في قلب ضاحية بيروت الجنوبية تجاوزاً للخطّ الأحمر، وينبغي الردّ عليه بطريقة مماثلة ومتوازنة
سيعمد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صاحب القرار الأوّل بتنفيذ الاغتيال إلى تسويق عمليّته على أنّها في إطار الضغط على “حماس” لتقديم تنازلات تسهّل الصفقة بالشكل الذي يريده. وهو ما يسمح له بـ”إعلان النصر”. علماً أنّ تصفياتٍ كهذه تقود إلى نتائج عكسية وتعزّز التطرّف وتقوّي المتشدّدين لدى الطرف المستهدف. فسلسلة الاغتيالات التي نفّذتها إسرائيل ضدّ قادة “حماس” هي التي أفسحت في المجال أمام وصول قادة صارمين أمثال السنوار ومحمد ضيف. كما من شأن عملية كهذه أن تنهي الاستقرار الهشّ القائم حالياً في الضفة الغربية وتدفع بالأمور نحو انتفاضة جديدة في أكثر مناطق إسرائيل حساسيّة.
ردّ الحزب سيشعل الجبهة
لبنانياً، فإنّ الحزب سينظر إلى استهداف قائده في قلب ضاحية بيروت الجنوبية تجاوزاً للخطّ الأحمر، وينبغي الردّ عليه بطريقة مماثلة ومتوازنة. وعليه حتماً سيزيد ردّ الحزب، حتى لو لم يؤدّ إلى حرب شاملة، من اشتعال الجبهة. وسيُبقي مئة ألف مستوطن في شمال الأراضي المحتلّة خارج منازلهم لفترة طويلة. على عكس ما تشتهي إسرائيل. ومع دخول الولايات المتحدة فترة الغيبوبة الانتخابية بعد أشهر، تصير الجهود الأميركية لتهدئة الجبهة اللبنانية وعودة مستوطني الشمال دون جدوى. وكذلك حال فكّ الارتباط بين جبهة غزة وجبهة الجنوب اللبناني. وفي ظلّ التأزّم الذي صنعه نتنياهو على الجبهتين يصير الوضع أشبه ببرميل بارود في انتظار عود كبريت لتفجيره.
إيران اليوم، أكثر من لحظة استهداف قنصليّتها في دمشق، هي جزء مركزي من اتّخاذ القرارات في شأن الردّ
إيرانياً، ليس استهداف هنيّة في وسط طهران استهدافاً لـ”حماس” فقط، بل ربّما الصفعة الأقوى لنظام الجمهورية الإسلامية. وقد تكون نقطة التحوّل العكسي في مسار توسّع النفوذ الإيراني في المنطقة الذي بلغ ذروته عندما احتفى قائد فيلق القدس الراحل قاسم سليماني بالانتصار في سوريا. فأيّ ردّ إيراني كبير بحجم التحدّي الذي فرضته إسرائيل على طهران قد يؤدّي إلى حرب شاملة لا تريدها إيران في هذه اللحظة بالذات. كي لا تتورّط بمواجهة مباشرة مع واشنطن. أمّا تجاهل الضربة وتمريرها بردود غير مقنعة، فلن تكون تداعياتها بسيطة على المحور الذي تلقّى سلسلة لكمات مؤذية في يوم واحد.
إقرأ أيضاً: التصفيات مقدّمة لحرب كبرى.. أم تسوية كبرى؟
إيران اليوم، أكثر من لحظة استهداف قنصليّتها في دمشق، هي جزء مركزي من اتّخاذ القرارات في شأن الردّ… فهل تحتوي إيران الحرب الشاملة باستبدالها بحروب صغيرة تترك للحلفاء تدبير أمورهم بأنفسهم؟ أم تنخرط في حرب كبرى تكون أوزارها ثقيلة على الجميع ومكلفة للغاية؟