اللّبنانيّ الحائر بين ترقّب المصيبة والوقوع فيها

مدة القراءة 7 د

“مرّ الكلام.. زيّ الحُسام.. يقطَع مكان ما يمرّ

أمّا المديح.. سهل ومريح.. يِخدَع لكن بيضرّ

والكلمة دين.. من غير إيدين… بس الوفا عالحُرّ”

أحمد فؤاد نجم

 

قد يكون لسان حال اللبنانيين يردّد سرّاً وعلناً “ربّنا لا نسألك ردّ القضاء، بل اللطف فيه”. هذا ما يعيشه اللبنانيون على الأقلّ منذ صباح الخامس عشر من شباط 2005، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الذي أدخل البلاد في دوّامة جديدة من الانتظار والترقّب لمصيبة جديدة، أو استدامة لمصيبة قائمة، أو تفاقم مصيبة إلى الأسوأ.

هذا على الرغم من تصريحهم بأنّ المصيبة الحاضرة لم يسبق لها مثيل، ليس في تاريخهم الشخصي، ولا الوطني، بل، وكما جرت العادة اللبنانية بتضخيم الأمور، لم تحصل واقعة كهذه منذ عام 1850.

لكن على الرغم من القناعة بأنّ المصيبة واقفة أمام الباب، فإنّ إحياء لحظة ما قبل المصيبة يبقى غالباً، لأنّ تلك اللحظة الهادئة عابرة ولا يجوز تفويتها. فترى المهرجانات والاحتفالات والحفلات العامرة وجنون المفرقعات لأنّ البنين والبنات نجحوا في شهادة الثانوية العامة مع أنّ ما سيفعله الأولاد بشهاداتهم يبقى في علم الغيب، أو في حضن المصيبة المتربّصة بالباب.

قد يكون لسان حال اللبنانيين يردّد سرّاً وعلناً “ربّنا لا نسألك ردّ القضاء، بل اللطف فيه”. هذا ما يعيشه اللبنانيون على الأقلّ منذ صباح الخامس عشر من شباط 2005

الأسوأ هو أنّ الأهل يفترضون أنّ شهادة ما من جامعة قد تكون ضمانة لتأشيرة سفر إلى بلد لا تتربّص به المصائب بشكل دائم، أو أنّهم بالشهادة الجامعية يمكنهم إنقاذ الأولاد في بلد لا تكون فيه المصائب قدراً مرصوداً، بل هي مجرّد احتمالات ليس إلّا، لكنّها لا تمنع من التخطيط والعمل على بناء أحلام ورديّة خالية من المصائب. فالحلم بالتجاوز الدائم هو ما يبقي البشر متمسّكين بالحياة.

من المخابرات السّوريّة ومشروع رفيق الحريري..

سنة 2000، وخلال اجتماع سياسي تحدّثنا فيه عن مستقبل لبنان في ظلّ نجاح رفيق الحريري في الانتخابات وتكليفه بتأليف حكومة، أصيب الحاضرون بالوجوم يوم قلت: “لا أظنّ أنّ من الممكن تحقيق أيّ شيء ما دامت المخابرات السورية مطبقة على القرار السياسي والأمنيّ في لبنان. فنجاح أيّ خطوة لتثبيت وضع الدولة يعني قرب خروج القوات السورية منه، لذلك لن يسمح لرفيق الحريري بتخطّي الخطوط الحمر التي تبقي لبنان في مرحلة ما قبل الدولة”.

ما كنت أعنيه هو أنّ الاستقرار الطويل الأمد، الذي يمكن البناء على أساسه لمشاريع مستقبلية، لا يمكن أن نضمنه ما دام الاستقرار السياسي والأمنيّ يتعارض مع بقاء الاحتلال السوري. فكان من المرجّح أنّ هذا الاحتلال سيسعى إلى تخريب كلّ إمكانية لانتشال لبنان من دائرة الشكّ.

لم تنسحب القوات السورية حسب “الاتفاق الحبّي الأخويّ”، بل انسحبت إلى سورية مجبرة بعد اغتيال رفيق الحريري تحت وطأة القرار 1559

يمكن التذكير كيف انبرى حَمَلةُ السواطير من أتباع أجهزة عنجر والبوريفاج لترهيب المطالبين بتغيير قواعد اللعبة الأمنيّة بعد انسحاب إسرائيل من الجنوب. فقد دفع هذا الأمر إلى المطالبة بتنفيذ اتفاق الطائف بخصوص انسحاب القوات السورية إلى البقاع على الأقلّ.

لم تنسحب القوات السورية حسب “الاتفاق الحبّي الأخويّ”، بل انسحبت إلى سورية مجبرة بعد اغتيال رفيق الحريري تحت وطأة القرار 1559. تساءلت أنا، وسط استغراب الزملاء النواب في كتلة المستقبل، عن كيف يمكن أن يستقرّ البلد، على الرغم من “النجاح الكبير” الذي حقّقته قوى 14 آذار بإخراج الجيش السوري والفوز بالانتخابات النيابية ضمن تحالف هجين ومركّب بشكل يثير الاستغراب أو حتى السخرية.

وصولاً إلى ميليشيات إيران

قناعتي هي أنّ جسماً عسكرياً منفصلاً بالكامل عن سلطة الدولة هو مثل قنبلة موقوتة تنتظر اللحظة المناسبة للانفجار، والضحية عادة تكون الدولة، لأنّها منظومة محدّدة المعالم. في حين أنّ الميليشيات المسلّحة بالعقائد، والمرتبطة بالإمداد والامتداد العابر للحدود، قادرة على البقاء على الرغم من حدوث الانفجار، لا بل قد تسرّع الانفجار لقناعتها بأنّها ستكون بديل الدولة الهشّة لأنّ الأخيرة لا تتمتّع بالمران اللازم لتجاوز الانفجار.

لبنان بطبيعته المنقسمة على ذاتها تمّ عزله عن سابق إصرار وتصميم عمّن يمكن أن يمدّ يد العون له

كما أنّ لبنان بطبيعته المنقسمة على ذاتها تمّ عزله عن سابق إصرار وتصميم عمّن يمكن أن يمدّ يد العون له. في حين أنّ الميليشيا مرنة وقادرة على تحمّل الخسائر، كما يمكنها التعويض عن خسائرها بالدعم العابر للحدود. هذا ما عنى بالنسبة لي أنّنا، على الرغم من نشوة الانتصار وفسحة الاستقرار المنشود، سنعيش في مرحلة ترقّب للمحتوم في حرب جديدة أو انفجار جديد أو اغتيال وهجرة متفاقمة وتهجير وفقدان فرص النموّ والازدهار… لم تكن تلك نبوءة، بل مجرّد تحليل موضوعي غاب عنه التفاؤل الذي يستغبي المنطق، والتشاؤم المتطيّر من فسحات الأمل. لم تمضِ بضعة أيام حتى انطلقت سلسلة من الاغتيالات والتفجيرات، وبدأ معارضو الحزب بالتساقط واحداً تلو الآخر، فسجّلت الجرائم كلّها في سجلّ المجهول مع أنّ الجميع يعلم الفاعل، لكنّ استغباء الذات قد يكون أرحم من تحمّل تبعات الاتّهام لمن هو قادر على الأذيّة.

بقي الجميع في مرحلة الترقّب لمن سيأتي دوره، وصحيح أنّ الاغتيالات طالت مجموعة منتقاة من السياسيين والإعلاميين، لكنّ ترقّب اللبنانيين المتطيّر كان من احتمال كونهم خسائر جانبية في حال صدف وجودهم بالقرب من الضحيّة المنتخبة.

هذا حسبما أذكر، وإن كنت أسعى إلى النسيان، وهو ما جعل أصدقائي يتهيّبون حضوري في مجالسهم… وإن كانت الاغتيالات يمكن التعايش معها، إلا لذوي الضحايا، لكنّ الحرب سنة 2006 أكّدت أنّ قبول وضع الميليشيا ما هو إلا تأجيل للمحتوم. وعاد عندها الكلام عن المصيبة التي حكمت لبنان منذ ما قبل ما سمّي بثورة 1958، وهو الاختيار الصعب بين وقوع الحرب الأهلية أو إبقاء البلد بانتظار حرب جديدة مع ما يرافقها من تحلّل الدولة وتبدّد معالمها.

مع أنّ الحزب أعلن عدم مسؤوليّته عن صاروخ مجدل شمس، لكن لا شيء سيتمكّن من إثبات ذلك

مجدل شمس: ردّ القضاء.. واللطف فيه

في الأيام الماضية، كان اللبنانيين في ترقب محتوم للاعتداء إسرائيلي الذي وقع ليل أمس. والآن هم ينتظرون ردّ حزب الله عليه، ثم الردّ على الردّ ربما. حلقة مفرغة لا رادّ لها إلا بمعجزة، يعود بعدها معظمنا للدعاء لكي يلطف الله بنا. لكنّ الإشكال هو أنّنا، بغضّ النظر عن نتائج ما هو محتوم، سنعود بعد إحصاء الخسائر ولملمة ما بقي من ملابس داخلية من بين ركام غرفة نوم، أو البحث عن طفل ضائع أو احتضان شهيد… ثمّ العودة إلى ترقّب جديد.

قد يقول البعض إنّ قضية مجدل شمس مؤامرة إسرائيلية جديدة، ولا استغراب لذلك. فليست المرّة الأولى ولا الأخيرة التي يخبث فيها الصهاينة في الاستثمار في دماء أبناء جلدتهم كما الاستثمار في مصائب الآخرين.

إقرأ أيضاً: مجدل شمس وكاريش: كيف يتسبّب الحزب بالحرب؟

ومع أنّ الحزب أعلن عدم مسؤوليّته عن صاروخ مجدل شمس، لكن لا شيء سيتمكّن من إثبات ذلك. صحيح أنّ المنطق يقول إنّ الحزب لن يستهدف قرية عربية درزية مقاومة على طريقتها للاحتلال، ليس لحرصه على الضحايا بل لتفادي التداعيات السياسية. وقد نفترض مثلاً أنّ القيادة الإسرائيلية الخبيثة قد تقصّدت حرمان مجدل شمس من غطاء القبّة الحديدية لافتراض أنّ الحزب لن يستهدفها، أو ربّما للسماح باستهدافها وجني محصول النتائج إعلامياً وسياسياً وعسكرياً. وقد يكون العدوّ توصّل إلى طريقة سرّية من عالم الخيال العلمي لتوجيه صواريخ معادية. لكن المؤكّد هو أنّ الأمر ما كان ليحصل لولا قرار الحزب بتخطّي مصالح الناس والدولة من البداية في مشاغلة لم تمنع العدوّ من تدمير غزة بالكامل، ولا حمت طفلاً فلسطينياً من الاختناق في الركام أو النزف من جرح أو الموت بسبب غياب العلاج، ولا من المبيت في العراء بانتظار هبوط المساعدات.

وبقي الفلسطيني واللبناني يترقّبان القضاء، ويأملان اللطف فيه.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@allouchmustafa1

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…