بكين على خطّ التّوتّر العالي: لماذا الآن؟

2024-07-28

بكين على خطّ التّوتّر العالي: لماذا الآن؟

دخلت الصين مجدّداً على خطّ التوتّر العالي في الشرق الأوسط، وأضافت خرقاً سياسياً جديداً لها بالإعلان عن اتفاق فلسطيني جديد وقّعته الفصائل، ومن ضمنها “الإخوة الأعداء” في حركتي “فتح” و”حماس”، سعياً إلى إنهاء الانقسام وتشكيل حكومة وفاق وطني وتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية.

 

 

 

بغضّ النظر عن مآلات الاتفاق وإمكان تحقيق “الحلم” الفلسطيني بالوحدة والتكاتف الداخلي في مواجهة أخطر مرحلة ومنعطف تمرّ به القضية الفلسطينية في تاريخها في مواجهة حرب إبادة فعليّة تشنّها إسرائيل وسط صمت عالمي مريب، فما يجدر التوقّف عنده هو التوقيت وتدحرج الأحداث اللافتة في عواصم القرار الكبرى.

دخلت الصين مجدّداً على خطّ التوتّر العالي في الشرق الأوسط، وأضافت خرقاً سياسياً جديداً لها بالإعلان عن اتفاق فلسطيني جديد وقّعته الفصائل

في موسكو، الحليفة الأقرب لبكين، التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره السوري بشار الأسد بشكل مفاجىء بعد أكثر من عام من انقطاع الزيارات بين الرجلين. لم يجرِ التطرّق علناً إلى اللقاء المحتمل بين الأسد والرئيس التركي رجب طيب إردوغان كما كان الجميع يتوقّع، بل جرى التركيز على خطورة الأوضاع في الشرق الأوسط الذي قال سيّد الكرملين إنّه “يزداد توتّراً ويتّجه نحو التدهور (…) وهذا ينطبق بشكل مباشر على سوريا”.

بينما كان الأسد يغطّ في موسكو، كانت دول في الاتحاد الأوروبي تحضّ مسؤول السياسة الخارجية في التكتّل جوزيب بوريل على البحث عن سبل لتخفيف الضغوط والعقوبات على سوريا وتعزيز العلاقات مع “الأطراف السورية كافّة”.

صحوة ضمير متأخّرة

هل هذه الدعوة هي صحوة ضمير متأخّرة على الوضع الإنساني الكارثي للشعب السوري، أم تعبير عن قلق ضمني من خطر أكبر قد يحلّ في الإقليم ويدفع بملايين جديدة من سكّانه إلى الرحيل إلى أوروبا طلباً للنجاة، وهو ما يفاقم من أزمة اللجوء المتفاقمة أصلاً في القارّة القديمة والتي قد تطيح بكلّ استقرارها السياسي؟

في موسكو، الحليفة الأقرب لبكين، التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره السوري بشار الأسد بشكل مفاجىء بعد أكثر من عام من انقطاع الزيارات بين الرجلين

الإنذار بالمخاطر المحتملة يأتي من كلّ صوب. حرب غزة ترتقي تدريجياً إلى حرب إقليمية على “نار متوسّطة”: جبهة الحدود اللبنانية تحتدم تحت سقف قواعد اشتباك يعلو تدريجياً، الجبهة الحوثية اليمنية ارتفعت وتيرتها ويكاد “تسرّب” صاروخ أو مسيّرة من المضادّات الدفاعية نحو هدف “مدني” أو “عسكري” في إسرائيل أن يشعل حرباً عالمية بعدما جذبت “حرب السفن” كلّ الأساطيل إلى بحور المنطقة ومضائقها.

بنيامين نتنياهو، الباحث عن إطالة أمد الحرب للبقاء في السلطة وتجنّب المحاسبة، لم يعد عدوانه على غزة جذّاباً للشعبية، بل صار عبئاً على إسرائيل وصيتاً سيّئاً لها. ولم يعد لديه من سلاح يصوّبه على الفلسطينيين بعدما جرّب ضدّهم كلّ صنوف البشاعة والتنكيل ولم يركعوا. بات أمامه هدف وحيد هو إيران ومن يصفهم بأنّهم أدواتها. خطابه الصلف والمحشوّ بكلّ أصناف الكذب، لم يرِده لإقناع الأميركيين عموماً والديمقراطيين خصوصاً، بل أراده لإرضاء المتطرّفين في كيانه ولإسماع دونالد ترامب ما يحبّ سماعه: الكره الشديد لإيران.

المرشّح الجمهوري الذي يتوق نتنياهو لرؤيته في البيت الأبيض، يرفض مثله حلّ الدولتين ولو شكلاً، ولا يمانع توسيع المستوطنات، والأهمّ أنّه يريد تدمير قدرة إيران على إنتاج سلاح نووي.

عندما تسعى الصين إلى التوسّط بين “حماس” و”فتح”، فإنّها تغضب إسرائيل التي فعلت ما فعلت لتعميق شقّ الخلاف الفلسطيني وإبعاد الضفة الغربية عن قطاع غزة

منذ عقدين، يدفع نتنياهو إلى مواجهة بين محور “المعتدلين” بقيادة أميركا ومحور “الشرّ” بقيادة إيران، ويتّهم الرئيس جو بايدن بمسايرة طهران وعدم الحزم في مواجهة خطرها النووي، واتّهم إيران في الكونغرس بالوقوف وراء محاولة اغتيال ترامب. وكان له ما أراد عندما ردّ المرشّح الجمهوري على الخطاب مغرّداً: “إذا اغتالوا [الرئيس ترامب]، وهو احتمال وارد دائماً، آمل أن تدمّر الولايات المتحدة إيران، وتمحوها من الأرض. وإذا لم يحدث هذا فسيتمّ اعتبار القادة الأميركيين جبناء”.

المفاجآت المنتظرة الصين ثالث شريك لإسرائيل

لا شكّ في أنّ الشهور المقبلة حبلى بالمفاجآت، ذلك أنّ العالم ليس بخير، وكلّ الاحتمالات واردة، لا سيما في الشرق الأوسط العائم على خطّ زلازل ورمال متحرّكة. لكن ما الذي دفع الصين البعيدة أسوارها عن هذه البؤرة إلى التوسّط في أخطر نزاعاتها وأعقدها؟

عندما تسعى الصين إلى التوسّط بين “حماس” و”فتح”، فإنّها تغضب إسرائيل التي فعلت ما فعلت لتعميق شقّ الخلاف الفلسطيني وإبعاد الضفة الغربية عن قطاع غزة. وعلى الرغم من اعتبار معهد “دراسات الأمن القومي” الإسرائيلي أنّ الطريق إلى المصالحة بين الفلسطينيين “طويل”، فإنّه رأى أنّ إسرائيل تخسر بمجرد وجود محادثات بينهما، ومن شأنها أن تمنح “حماس” الشرعية. وخلص إلى أنّ “الصين تتصرّف بشكلٍ واضح ضدّ مصلحة إسرائيلية أساسية”.

في الواقع انطلقت العلاقة الصينية الإسرائيلية في ظلال ما شهدته العلاقات بين الولايات المتحدة والصين من دفء منذ أربعة عقود ونصف

ليس من عادة بكين اعتماد سياسة الاستفزاز، ذلك أنّها تحاول الابتعاد قدر المستطاع عن الصراعات الإقليمية الحسّاسة، وتسعى في المقابل إلى التوسّط بين المتخاصمين لضمان الاستقرار العالمي الذي هو حاجة ماسّة للحفاظ على سير التجارة مصدر قوّتها العالمية. وانطلاقاً من هذا المفهوم توسّطت بين المملكة العربية السعودية وإيران وتسعى إلى الخطوة نفسها الآن بين روسيا وأوكرانيا.

الصين أيضاً بالنسبة لإسرائيل ليست معادية للساميّة، ذلك أنّ شنغهاي تستضيف متحفاً للّاجئين اليهود يستعيد ذكرى اليهود الذين لجأوا إلى شنغهاي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين عندما لم يكن يستقبلهم سوى قلّة في العالم. كما أنّ إسرائيل لا تمثّل تهديداً للصين، لا بل أقامت معها علاقات تجارية واقتصادية وتكنولوجية تطوّرت باطّراد وبقفزات هائلة في وقت قصير. وارتفعت التجارة البينيّة من 50 مليون دولار عام 1992 إلى 24.45 مليار دولار في عام 2022، أي أنّها تضاعفت 489 مرّة على مدى ثلاثة عقود. وبحلول عام 2022، غدت الصين ثالث أكبر شريك تجاري لإسرائيل بعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأكبر شريك تجاري لها في آسيا.

لكن بالنسبة لإسرائيل، فإنّ الحفاظ على التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة أمر بالغ الأهمّية. ولم يكن أمامها من خيار سوى الرضوخ للضغوط الأميركية والسعي إلى تقييد الاستثمارات الصينية لعدم إغضاب واشنطن التي جعلت بكين عدوّها الأوّل.

روسيا التي عانت من الدعم الكبير الذي منحته إدارة بايدن لأوكرانيا ومن تطويق حلف “الناتو” لأسوارها، تسعى إلى خرق الطوق والردّ بما أُتيح لها من أصدقاء

في الواقع انطلقت العلاقة الصينية الإسرائيلية في ظلال ما شهدته العلاقات بين الولايات المتحدة والصين من دفء منذ أربعة عقود ونصف. لذلك من الطبيعي أن يتبع مسار هذه العلاقة مسار العلاقات الأميركية – الصينية الآخذة في التدهور والمرشّحة لمزيد من التدهور في حال عودة ترامب إلى البيت الأبيض. ولا يبدو أنّ أمام بكين أو تل أبيب خياراً كبيراً لتغيير هذا الواقع. فلذلك ليست الحرب الإسرائيلية على غزة هي التي دفعت بالصين إلى تغيير توجّهها نحو تل أبيب بمزيد من الدعم للفلسطينيين، بل لأنّ إسرائيل الغارقة في المستنقع الحربي تجد نفسها محتاجة أكثر وأكثر إلى أميركا، علماً أنّ بكين وجّهت انتقادات حادّة لحكومة نتنياهو بعد 7 تشرين الأول الماضي وصوّتت ضدّ المقترحات الإسرائيلية في الأمم المتحدة طوال العقود الماضية.

موسكو بعد بكين نحو الفلسطينيّين

خطوة الصين نحو الفلسطينيين ستستكمل بخطوة مكمّلة من حليفها الروسي بوتين الذي دعا الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى موسكو في 13 آب، من أجل دعم المصالحة الفلسطينية وتطويرها. وهما، أي بكين وموسكو، يحاولان الإفادة من فشل بايدن في إقناع نتنياهو بقبول وقف للنار وبوضع خطّة لليوم التالي في غزّة، كي يحقّقا مكسباً سياسياً في منطقة محسوبة على النفوذ الأميركي.

روسيا التي عانت من الدعم الكبير الذي منحته إدارة بايدن لأوكرانيا ومن تطويق حلف “الناتو” لأسوارها، تسعى إلى خرق الطوق والردّ بما أُتيح لها من أصدقاء في سوريا وروسيا البيضاء وإيران وإفريقيا وليبيا وكوبا وفنزويلا وكوريا الشمالية، ولذا لن توفّر الورقة الفلسطينية أو السورية لمزيد من خلط الأوراق بحثاً عن حدّ أدنى من التوازن المفقود أو تسويات تحفظ أمنها القومي. أمّا الصين التي وصفها جي دي فانس، نائب المرشّح الرئاسي ترامب، في أوّل تصريح له بأنّها “أكبر تهديد لبلادنا”.. فإنّها تتوقّع الأسوأ مع وصول الثنائي الجمهوري إلى البيت الأبيض، لذا تعدّ العدّة للمواجهة، بعد تهديدها في عقر دارها، أي في تايوان وبحر الصين الجنوبي. وإذا كانت بكين عاجزة عن بلوغ الحدائق الخلفية لواشنطن فلا بأس من مشاغلة ربيبتها إسرائيل وإيلامها في عقبها الفلسطيني، وحرمان ترامب من تنفيذ وعده بحسم سريع للحرب على الفلسطينيين، ولا بأس أيضاً من إرساء رأس جسر لها في المنطقة الحسّاسة.

إقرأ أيضاً: تحالف ترامب نتنياهو والملالي… حسبهم الله!

من مصلحة الفلسطينيين اغتنام كلّ الفرص لصنع وحدتهم وترتيب بيتهم الداخلي في ظلّ الحرب الكبرى عليهم وتعاظم خطر تصفية قضيّتهم، لأنّه من دون هذه الوحدة فلا حرّية ولا استقلال فلسطينياً بغضّ النظر عن ذهاب المنطقة إلى حرب إقليمية واسعة أو فتح الحرب الحالية أفقاً لتسوية.

مواضيع ذات صلة

هل طوي ملف الصفقة؟

بالتأكيد طوي الملف، أولاً بفعل الخوف الأمريكي من فشلٍ جديد في الأسابيع المتبقية على الانتخابات، وثانياً بفعل عدم التوصل إلى صيغة أكثر توازناً من سابقاتها،…

ما لم يواجهه الحزب من قبل

كان لافتاً غياب الأمين العامّ للحزب عن أربعين القيادي فؤاد شكر. تُركت منصّة الخطابة لرئيس المجلس التنفيذي في الحزب هاشم صفي الدين. الخطابان اللذان ألقاهما…

بزشكيان والعراق: تراجع تكتيكيّ للميدان الكردي.. لمصلحة السّياسة

هل سلّم الميدان الإيراني بحقيقة أنّه غير قادر على إدارة الموقف الإيراني بمفرده؟ وأنّه انطلاقاً من رؤيته الحصرية للأمور، حان الوقت لتقاسم أو توزيع الأدوار…

غزّة: ناخب أساسيّ في الأردن.. ومهمّ في أميركا

تقدّمت جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات النيابية الأردنية على كلّ قوائم الأحزاب التي شاركت في انتخابات البرلمان العشرين. وإلى جانب اعتبارات تنظيمية، تميّزت بها الجبهة…