نتنياهو في واشنطن: خيمة دونالد وظِلّ كامالا الثقيل

مدة القراءة 6 د

لم يكن مشهد الكونغرس الأميركي في التصفيق وقوفاً لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الأربعاء، يختلف عن مشهد “الجمعية الشعبية العليا” لكوريا الشمالية حين تصفّق لزعيم البلاد كيم جونغ أون. ليس في الأمر مبالغة. فالتصفيق بدا هستيريّاً مخصّباً برعب مكنون يجري في نهاية كلّ جملة من خطاب المتحدّث أيّاً كان مضمون الهراء الدي يتلفّظ به. وفي سلوك المصفّقين عدوى وبلادة ومزايدة فيما يتبادل بعضهم استراق النظر إلى بعض في تمرين أخجل برلمان بيونغ يانغ البعيد.

 

ليست المرّة الأولى التي يتمكّن فيها نتنياهو من “تقزيم” برلمان الولايات المتحدة وتحويل مجلسَيه (النواب والشيوخ) إلى جوقة مهلّلين. هي المرّة الرابعة التي يتوجّه فيها إلى الكونغرس في سابقة لم يحظَ بها زعيم دولة أخرى. والأرجح أنّ نتنياهو كان يحتاج إلى هذا “المهرجان” لعلّ ذلك يبدّد حقائق أمضى سهل استنتاجها بشأن علاقة واشنطن بشخصه. كتبت صحف الولايات المتحدة عن “استقبال بارد” للضيف، ومنها ما اعتبره “ضيفاً ثقيلاً”. ومن السهل على المراقب أن يلاحظ أنّ نتنياهو وإسرائيل نفسها ليسا مادّة فاعلة على موائد الحملات الانتخابية في البلاد.

قال موقع “أكسيوس” الأميركي إنّ نصف أعضاء الكونغرس من الحزب الديمقراطي قاطعوا خطاب نتنياهو

نتنياهو يكتشف أميركا

قال موقع “أكسيوس” الأميركي إنّ نصف أعضاء الكونغرس من الحزب الديمقراطي قاطعوا خطاب نتنياهو. لم يجد الرئيس الأميركي جو بايدن عجلة لاستقبال نتنياهو عشيّة خطابه أمام الكونغرس، فأجّل الموعد في البيت الأبيض من الثلاثاء إلى الخميس، وكأنّ حصول ذلك اللقاء كان مشروطاً بلغة الخطاب ورسائله. بالمقابل لم ترَ نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، المرشّحة للانتخابات الرئاسية، أيّ ضرورة (حتى انتخابية) لقطع برامجها لحضور خطاب الكونغرس، أو لملاقاة الرجل. حتى ترامب الذي كان أعلن عدم لقائه نتنياهو عاد وأعلن أنّه سيفعل ذلك الجمعة في مقرّه في فلوريدا، مستبقاً اللقاء بموقف: “على هذه الحرب أن تقف”.

اكتشف نتنياهو كم تغيّرت الولايات المتحدة. ما زال الجمع تحت سقف الكابيتول يفرط بالترحيب بالضيف الإسرائيلي، لكنّ الأمر بدا فولكلورياً سخيفاً مثيراً للسخرية لا يشبه ما يجري خارج مبنى الكونغرس من احتجاج واعتراض وغضب ممّا يمثله الضيف الإسرائيلي من جرائم تُرتكب في غزّة منذ 10 أشهر. كانت جامعات الولايات المتحدة قد انتفضت قبل أشهر ضدّ حرب الإبادة هناك، فيما بدا ساسة البلد محرجين مربكين من تحوّلات وظواهر وأمزجة تسلّط المجهر على ما يتطوّر في النسيج الاجتماعي والثقافي لـ”الأمّة الأميركية”. وحين التقى بكامالا هاريس، نائبة بايدن والمرشّحة الصاعدة للرئاسة، سمع كلاماً عن غزّة ووقف الحرب “أزعج نتنياهو”، حسبما نقل موقع “والاه” عن “مسؤول إسرائيلي كبير”.

قدّم نتنياهو حكايته من غير أن يقدّم نهايات لها. ما اقترحه هو التبشير بحرب لا نهاية لها حتى القضاء على “حماس”

يسهل جداً أن يكتشف المراقب الأميركي، حتى ذلك المنحاز للرواية الإسرائيلية، كمّ الأكاذيب وزيف الروايات التي وضعها نتنياهو في خطابه. بدا أنّ سرديّته عن هجوم 7 تشرين الأول الماضي واصطحابه لرهينة سابقة وجنديّ من أصول إثيوبية وآخر من أصول مسلمة وسعيه إلى بناء متخيّل عن إسرائيل، لم تبدّد شيئاً من كذب السيناريو وبلَه الإخراج. حتى المصفّقون بدوا ممثّلين داخل مسرح نتنياهو يلعبون أدوارهم المعدّة بعناية. غير أنّ العالم، ومنه الولايات المتحدة، بات في زمن آخر تجاوز ذلك الحدث متخبّطاً هذه الأيام في السعي إلى الاهتداء إلى سبل وقف كارثة القرن في غزّة وتراجيديّاتها الواقعية التي تفوق أيّ تراجيديات ممسرحة.

قدّم نتنياهو حكايته من غير أن يقدّم نهايات لها. ما اقترحه هو التبشير بحرب لا نهاية لها حتى القضاء على “حماس”. لم يلمّح إلى “صفقة” مقبلة، ولم يسوّق لخطّة لـ “اليوم التالي” في قطاع غزّة. لا مكان لمسار سياسي يقود إلى قيام “دولة فلسطينية” وفق ما تسوّقه واشنطن. أعاد تمجيد نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وهو قرار اتّخذه الرئيس السابق دونالد ترامب، بما فُسّر بأنّه تمجيد للمرشّح الجمهوري على حساب أيّ مرشّح منافس. وبعد ساعات على ذلك الخطاب أطلّ الرئيس بايدن من مكتبه في البيت الأبيض يشرح للأمّة أسباب عزوفه عن الترشّح لولاية ثانية. كان توماس فريدمان كتب في نيويورك تايمز قبل ذلك أنّ بايدن وضع مصلحة بلاده قبل مصالحه فيما تستقبل واشنطن نتنياهو الذي وضع دائماً مصلحته الشخصية فوق مصلحة إسرائيل.

بدا نتنياهو مرعوباً قلقاً. يشكو “افتراءات” محكمتَي العدل والجنائية الدوليّتين. أعاد استدراج مظلوميّات قديمة يراها تتقاطع مع أخطار وجودية راهنة

رعب نتنياهو

بدا نتنياهو مرعوباً قلقاً. يشكو “افتراءات” محكمتَي العدل والجنائية الدوليّتين. أعاد استدراج مظلوميّات قديمة يراها تتقاطع مع أخطار وجودية راهنة ما زالت تهدّد اليهود ودولتهم في قلب الشرق الأوسط. سعى ببلادة إلى تحريض الولايات المتحدة ضدّ أعداء إسرائيل ووضع الدولتين معاً في خندق واحد لمواجهتهم. حتى إنّه قدّم إسرائيل مدافعة في حربها عن أميركا والأميركيين.

كان يفترض بهذا النصّ أن يجد رواجاً لدى الرأي العام الأميركي، إلا أنّ صحافة البلد لم تهتمّ لسطوره، وبدا أنّه ليس من أولويات أميركا هذه الأيام، فيما لخّصت القياديّة الديمقراطية نانسي بيلوسي، الرئيسة السابقة لمجلس النواب الأميركي، الموقف معتبرة أنّ “خطاب نتنياهو أسوأ عرض قدّمته شخصية أجنبية حظيت بشرف مخاطبة الكونغرس”. طوت الخطاب واعتبرته حدثاً قد انتهى، ذلك أنّ “عائلات الأسرى تطالب بصفقة لوقف إطلاق النار وإعادة أبنائها ونأمل أن يخصّص نتنياهو وقته لتحقيق ذلك”.

إقرأ أيضاً: الخطاب الرّابع… بداية سقوط المدلّل

عوّل نتنياهو كثيراً على “رحلته الأميركية” التي أرادها حجّاً طويلاً يستغرق أسبوعاً ليعود إلى إسرائيل محمّلاً بظفر يعينه على مواجهة الواقع. الشارع ضدّه. المحاكم بانتظاره. أهالي الرهائن يطالبونه بإنهاء “الصفقة”. والمعارضة السياسية تعمل على إسقاطه. وفيما يكمن خلاص نتنياهو المتوخّى في مزيد من حرب تتمدّد من غزّة إلى لبنان واليمن وحتى إلى إيران نفسها، فإنّه لم يجد واشنطن ترياقاً لأزماته. سيصعب عليه بيع الرأي العامّ الإسرائيلي هُياماً أميركياً بإسرائيل، وهو الذي لم يستطع في واشنطن انتزاع آمال تخفّف من توتّر علاقاته مع إدارة بايدن. استنتج صعوبة اقتصار تعويله على عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض فيما تغيب الكيمياء في علاقة ترامب مع كامالا هاريس كما غابت قبل ذلك مع باراك أوباما وجو بايدن.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…