“فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
لا تحظر العفو إن كنت امرأً حرجاً فإنّ حظركه في الدين إزراء” (أبو نواس)
قد يكون ما يلي خارجاً عن السياق الذي أخذته مقالاتي أخيراً بالتركيز على الحدث الإقليمي الغزّيّ، لكنّ الأزمات الكبرى تعيد دائماً الحديث عن حلول انتحارية على أساس أنّ الحلول الأخرى فشلت. ففي ظلّ الاستعصاء في الحلول، ونضوب مصادر الرزق، وانسداد الآفاق، يعود البشر إلى غرائزهم الأساسية الحيوانية في البقاء، وكما تتقوقع الصدفيّات، وتسحب السلحفاة أطرافها ورأسها داخل قفصها، وتلجأ الثعالب إلى وجارها، يلجأ البشر إلى قلاعهم المسوّرة. في لبنان، وعلى الرغم من كلّ التجارب المريرة التي أكّدت العكس، يلجأ البعض إلى الأمان في القلعة المذهبية أو الطائفية.
في المقاربات الشعبية العفوية للأمور تظهر مسألة الأمثال كوسيلة لطرح النصائح، على الرغم من أنّ تلك الأمثال تواجهها عادة أمثال تعاكس مغزاها وتنفيه، مع أنّ تلك الأمثال المتعاكسة قد تُنسب أحياناً إلى “الحكيم” ذاته، الذي قد يكون الجدّ أو زعيم العشيرة أو شخصية ما ذات بعد تاريخي ديني ثقافي أو اجتماعي، هذا مع أنّه لا يوجد أيّ دليل مثبت لتأكيد انتساب المثل لشخصية محدّدة، مع العلم بأنّ معظم الأقوال المأثورة تنسب إلى عدّة شخصيات ذات أهمية دينية أو اجتماعية أو تاريخية أو ثقافية. الحلول الشعبية الأخرى تأتي من خلال جعل الاستثناء قاعدة، أي أن يصبح حدث ما، يأتي خارج سياق المنطق العلمي والعمليّ، قاعدة دائمة يؤمل أن تتكرّر؟
المنطق الشعبي الآخر يأتي من تاريخية حدث ما يعتبره البعض أنّه قاعدة دائمة للتكرار، بغضّ النظر عن المتغيّرات الكبرى التي تجعل من تكرار الحدث المعيّن شبه مستحيل. لكنّ المثل والفكر الشعبي يبقيان أقوى من العلم والتاريخ الموثّق والدراسات المعمّقة، ويتضاعف تأثيرهما عند الأزمات المستعصية على الحلول العقلية والعلمية.
يظهر تهافت الفدراليين الذين يتجاهلون عن قصد وسوء نيّة سبب انهيار الدولة وانسداد الأفق المرتبط مباشرة بثلاثة مواضيع
الأفكار الخلّاقة والبروباغندا الإعلاميّة
من هنا، وفي ظلّ استعصاء الحلول للمعضلات الرابضة على صدورنا، عادت الأفكار “الخلّاقة” للبحث عن حلول تستند إلى أمثلة سويسرية أو بلجيكية أو إماراتية أو أميركية، مزيّنة بخطاب هادئ ورزين و”علميّ”، ومدعومة بشكل كثيف من البروباغندا الإعلامية المكلفة، ومستندة إلى رأي عامّ شعبوي ينادي بالطلاق بين المكوّنات الطائفية اللبنانية، ما دام الزواج فشل بين تلك الشعوب المحشورة في مكان ضيّق بالأساس، وبأنّ التجربة التي فرضها الفرنسيون لعيون البطريرك الحويّك تجاوزها التاريخ، أو ربّما كانت بالأساس غير صالحة للتطبيق.
لن أسعى إلى الجدال في تلك الفرضيات الشعبوية من دون طائل، فمن هو مأخوذ بفكرتها لن يسمع أو يفهم أيّ نقاش حولها، وسيتحوّل الجدل إلى اتّهامات بالطائفية والداعشية، وسيُستخرج ملفّ لعبة “الكلّة” التي تسبّبت بمجازر الجبل قبل أكثر من قرن ونصف، ثمّ الناصرية والعرفاتيّة والأسديّة وحرب الجبل والتهجير واللجوء السوري وداعش والنصرة، وتدخل في خلطة الفتّوش اللبنانية أو البايلّا الإسبانية.
سأركّز فقط على طرح الفدرالية الثقافية لأنّه التعبير الملطّف والبديل عن فدرالية الطوائف. ويستعيض المروّجون لهذه الفكرة بالتعبير الثقافي بدل الطائفي، أوّلاً لأنّنا فعلاً نعيش في فدرالية طوائف بأساس مواثيقنا الوطنية، وهو ما يعني أنّهم إن استعملوا الطوائف فهم لا يطرحون جديداً، وثانياً لأنّ تعبير “ثقافية” أكثر أناقة على السمع من الحديث المستهلك عن الطوائف.
لكنّ الأهمّ أنّ تلك العناصر يتشابك بعضها مع بعض بشكل دينامي، وتتغيّر وتتطوّر لتتلاءم مع الظروف والحقبة التاريخية والمتغيّرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لذلك تبرز ضرورة فهم تلك المكوّنات وكيفية ترابط وتشابك وتلاقح بعضها مع بعض، وهو ما يؤكّد أهمية التعدّدية والتنوّع في إغناء وتنمية الثقافات العديدة من خلال الاحتكاك اليومي والمصلحيّ.
سأركّز فقط على طرح الفدرالية الثقافية لأنّه التعبير الملطّف والبديل عن فدرالية الطوائف
الدين مكوّناً ثقافيّاً
تؤكّد هذه الجملة من المعطيات أنّ الدين ما هو إلا واحد من عدّة مكوّنات ثقافية، لكنّ المعضلة تكمن في أنّ عنصر الدين قد يأخذ بعداً ثانوياً أو أساسياً في المكوّن الثقافي الفردي، وقد يكون غير موجود عند البعض، وأحياناً عند جزء كبير من المحسوبين افتراضياً على دين معيّن. لنأخذ مثلاً مسألة الصلاة أو الصيام: على أيّ دين يحسب حينها من لا يمارسهما؟ أو ما هو دين من يمارسهما فقط كعادة اجتماعية، ويشارك أيضاً آخرين من أديان أخرى بعض العادات؟ أمّا عن شرب الكحول، وهو ما يتردّد دائماً كحجّة لدعاة “الفدرالية الثقافية”، فلو حسبنا شاربي الكحول على طائفة واحدة لتضاعف حجمها لكثرة شاربي الكحول، أو حسبنا من لا يشربون الكحول لأسباب شخصية، فعلى أيّ دين يحسبون؟
كذلك يمكن الحديث على الملبس والمأكل والزواج المدني… في مسائل تختلط الأمور فيها بحيث يتضاءل البعد الثقافي الديني تظهر طائفة جديدة ذات ثقافة متلاحقة في كلّ شيء، بغثّها وسمينها، من التذاكي المفرط إلى الهبل المتمادي، من الثقافة الواسعة وسع الكون إلى التفاهة المنغلقة على الذات، ومن قمّة النزاهة إلى قعر الفساد. كلّها ثقافات مشتركة بين لبنانيين من أديان شتّى ومذاهب لا حصر لها. فكيف لفدراليّي الثقافة أن يرسموا الحدود الجغرافية لكلّ هذا. فهذه الحدود ستمرّ حتماً على جسد كلّ واحد منّا يحمل في حناياه بعضاً من كلّ!
تتمثّل المعضلة في توصيف ماهيّة الفدرالية الثقافية، خاصة أنّ مطلقيها يستندون إلى القيد الطائفي
لهذا وكلّه وأكثر، يظهر تهافت الفدراليين الذين يتجاهلون عن قصد وسوء نيّة سبب انهيار الدولة وانسداد الأفق المرتبط مباشرة بثلاثة مواضيع: أوّلها يتعلّق بالماليّة بحجّة أن بين اللبنانيين من يدفع ما عليه للدولة، في حين أنّ آخرين يصرفونه من دون أن يشارك في الدفع. قد يكون حلّ هذه النقطة ممكناً في تطبيق اللامركزية الموسّعة والبقاء ضمن الدستور. أمّا المعضلتان الأخريان فهما العلاقات الخارجية والدفاع، وهما لن يجدا الحلّ في الفدرالية لأنّهما سيبقيان في الحكم المركزي. وهو ما يعني أنّ استمرار الخلاف سيذهب إلى طرح التقسيم في مرحلة قريبة لاحقة، وهو بالفعل ما يسعى إليه الفدراليون، بعدما ضاق صدرهم بالعيش مع الآخر المختلف.
إقرأ أيضاً: وجهاء “كاليه”: التضحية… بلا موتٍ ولا نصرٍ
أتت المعضلة الإضافية في كلام الحزب عن العددية بدل التعدّدية، والغريب أنّه عندما تكلّم رفيق الحريري الذي اغتاله الحزب عن التوقّف عن العدّ والالتزام بالتعدّد، اتّهم بأنّه يريد أسلمة لبنان، واليوم بعد تكلّم الحزب عن ضرورة العدّ، لم نسمع أيّاً من الفدراليين الأشاوس يدلي بردّه على ما قيل!
لمتابعة الكاتب على X: