بات الحديث عن المصالحة بين حركتَي “فتح” و”حماس” مملّاً لدى العديد من أوساط الفلسطينيين والعرب. عند هذه الأوساط يتساوى امتناع قيادة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية عن إصلاحها، مع جنوح قيادة حماس نحو التفرّد في السياسات والتحالفات.
تتجدّد في الصين اليوم المحاولات اللامتناهية لإنهاء الانقسام الفلسطيني الذي يستفيد منه التمادي الإسرائيلي في سحق غزة. قد لا يحتاج اليمين الإسرائيلي المتطرّف إلى ذريعة الانقسام لإطالة الحرب ولمواصلة القضاء على فرص قيام دولة فلسطينية. لكنّ الحدّ الأدنى من الوحدة الفلسطينية كان يمكن أن يشكّل مرتكزاً لموقف عربي أكثر فاعلية في الضغط لوقف الحرب. وكان يمكن أن يزيل الحجّة الإسرائيلية الأميركية منذ عقدين عن “غياب” الشريك الفلسطيني لأجل السلام. وكان يمكن أن يضع خطّة موحّدة لمواجهة تهويد الضفة بدل التشتّت الفلسطيني.
ينظر متابعو جهود الصين لصناعة مصالحة فلسطينية ببعض الأمل إلى الرعاية الصينية لها للمرّة الثانية خلال حرب إسرائيل على غزة. سبق أن استضافت اجتماعاً بين الفصائل في نيسان الماضي اقتصرت نتائجه على اتفاق على مواصلة البحث. وتطمح بكين إلى تعزيز حضورها الإقليمي من هذا الباب. فيما يرى مراقبون الإصرار الأميركي على الهدنة حافزاً لإنهاء الانقسام. فكلّما تكثّفت المفاوضات ستحتاج القوى الفلسطينية، ولا سيما “حماس”، إلى ملاءمة الوضع الداخلي مع الواقع الجديد الذي يتطلّبه “اليوم التالي”. لكنّ التجارب السابقة خذلت آمال الوسطاء والساعين إلى توحيد الساحة الفلسطينية. ولذلك يتواضع كثر في التوقّعات من جولة الصين الجديدة، ويرجّحون أن تكون نتائجها محدودة.
بات الحديث عن المصالحة بين حركتَي “فتح” و”حماس” مملّاً لدى العديد من أوساط الفلسطينيين والعرب
الليونة الحمساويّة في مفاوضات وقف الحرب
لطالما اتُّهمت “حماس” من قبل واشنطن ودولٍ عربية بالتشدّد بلا أفق في الموافقة على الهدنة وصفقة تبادل المحتجزين والأسرى. منتقدو الحركة في السلطة الفلسطينية و”فتح” اعتبروا أنّها تلكّأت في الإقبال على الهدنة تارة لأسباب إيرانية، وتارة أخرى لإنكار بعض قيادتها للنتائج الكارثية لاستمرار الحرب على الحجر والبشر في القطاع والمكابرة في التسليم بالنتائج المأساوية. كما يتحدّث هؤلاء عن دور التباينات بين قادة الداخل وقادة الخارج وعن تشبّثها بالاحتفاظ بالسلطة في القطاع… إلا أنّها أبدت ليونة حيال العرض الأخير الذي قدّمه الرئيس جو بايدن في 31 أيار الماضي.
في هذا السياق لفت قول ممثّل حماس في لبنان الدكتور أحمد عبد الهادي: “المقاومة ما زالت قويّة جدّاً ولم يستطع الاحتلال كسرها وتطويعها. شعبنا الأبيّ ما زال صامداً متمسّكاً بأرضه رافضاً لمشروع التهجير وحاضناً لمشروع المقاومة على الرغم من الألم الكبير”.
شدّد على أنّ الحركة “قدّمت مرونة وإيجابية في سبيل التوصّل لوقف العدوان بشكل دائم، وذلك من منطلق مسؤوليّتها عن شعبها وحرصها على تحقيق مصالحه الوطنية”. جمع عبد الهادي بين الاعتداد بقدرة مقاتلي “القسام” على إلحاق أضرار بالجيش الإسرائيلي وبين إلحاح وقف المأساة.
كانت حركة “فتح” طلبت تأجيل اجتماع المصالحة في العاصمة الصينية الشهر الماضي لاعتقادها بغياب مؤشّرات إلى إيجابيات من “حماس”.
يضيء متّصلون بـ”حماس” على مستوى الوفود المتّجهة إلى الصين. فوفد حماس يرأسه رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية. ووفد “فتح” يرأسه نائب رئيسها وأحد القادة الفلسطينيين التاريخيين والجدّيين ميدانياً وسياسياً محمود العالول، القليل الكلام والكثير الفعل.
الدكتور أحمد عبد الهادي: “المقاومة ما زالت قويّة جدّاً ولم يستطع الاحتلال كسرها وتطويعها. شعبنا الأبيّ ما زال صامداً متمسّكاً بأرضه رافضاً لمشروع التهجير
صبغة “الإخوان المسلمين” والأجندة الإيرانيّة
في قراءة الظروف الراهنة المحيطة بإمكان إحداث تقدّم في المصالحة تشير أوساط مواكبة للعلاقات الفلسطينية المعقّدة إلى عوامل تتعلّق بالمعادلة الجيوسياسية:
1- صدرت إشارات واضحة عن بعض الدول الخليجية إلى أنّها لن تموّل إعادة إعمار غزة بعد الحرب ما بقيت “حماس” ممسكة بقرارها. تستند هذه الدول إلى موقفها التقليدي الرافض لسلطة ودور “الإخوان المسلمين” في أيّ من دول المنطقة. وهي دول متمسّكة بتفكيك فروع التنظيم في المنطقة كشرط للتعامل معها.
2- هناك توجّه إقليمي للحدّ من توسّع تنظيم الإخوان بعد عملية طوفان الأقصى. فحتى تركيا حاضنة امتدادات التنظيم منذ سنوات تحرص على تقليص اعتمادها منصّة لنشاطاته، وإن لم تحظرها بالكامل. هذا ما حصل في حوارها مع مصر. وهذا ما يُتوقّع حصوله مع التحضيرات للمصالحة بين الرئيس رجب طيب إردوغان والرئيس السوري بشار الأسد، ويُنتظر أن يكون أحد بنود التفاهم من بين بنود أخرى مهمّة في صدارتها الوجود التركي شمال بلاد الشام. وأبرز ترجمة للتوجّه العامّ لتقويض نفوذ “الإخوان” هي الملاحقة التي يتعرّضون لها في تونس منذ أشهر، وتراجعهم في دول مغربية.
3- هذه الدول تصنّف الحركة على أنّها ملتصقة بإيران، وسط مظاهر تعاون الأخيرة مع “الإخوان”. ففي بعض الميادين العربية والخليجية تتقاطع السياسة الإيرانية، إن لم تتحالف، مع فروع التنظيم. التقاطع يحصل في لبنان مثلاً والتحالف في فلسطين. وفي السياق تحتاج الحركة إلى شيء من التمايز عن الأجندة الإيرانية. هذا على الرغم من اعتقاد قيادتها بأنّها تستفيد من رعاية طهران لـ”وحدة الساحات”.
تزايدت في غزة أصوات انتقاد “حماس” وتحميلها مسؤولية استمرار إسرائيل في قصف المدنيين
4- ارتفاع حظوظ دونالد ترامب بالفوز بالرئاسة في أميركا يطرح على قيادة الحركة مراجعة حسابات ينسبها إليها خصومها. هؤلاء يشيرون إلى أنّ هناك رهاناً “إخوانيّاً” على أن تترك إدارة الديمقراطيين في واشنطن حيّزاً لدور الإسلام السياسي بمستقبل غزة. فإدارة بايدن وريثة التوجّه الذي أرساه باراك أوباما وهيلاري كلينتون بالتعاون مع هذا النوع من الإسلام السياسي. لكنّ هذا الرهان يتبدّد عند دخول ترامب البيت الأبيض مع سياسته المتشدّدة حيال إيران أيضاً.
استعدادات حماس والوعد الصينيّ بالإعمار
تقود هذه العوامل وغيرها إلى ترقّب مدى تأثيرها إيجاباً في تغليب حاجة “حماس” إلى الحاضنة الفلسطينية تحت أجنحة منظمة التحرير الفلسطينية. ولذلك هناك من يراهن على تقدّم ما في اجتماعات الصين الجديدة، لكن بكثير من الحذر حيال التوقّعات لتنازلات حمساوية لمصلحة الشرعية الفلسطينية. فقبل التوجّه إلى بكين شملت التوقّعات موافقة “حماس” على الآتي:
– إدارة توافقية لقطاع غزة تحت سلطة المرجعية الوحيدة، أي منظمة التحرير. وهو أمر ما زال نتنياهو يرفضه.
– الحلّ السياسي للصراع بقيام دولة فلسطينية على أراضي 1967، الذي سبق أن قبلت به الحركة في 2017.
– أن تتولّى حكومة من غير الحزبيين إدارة المرحلة الانتقالية حتى تتوافر ظروف لإجراء انتخابات عامّة.
يتحدّث البعض عن عاملٍ آخر يتعلّق بالوسيط الصيني قد يضيف عنصراً جديداً يدفع حماس إلى تسليف بكين صفة عرّاب المصالحة. فإزاء الامتناع العربي والغربي عن تمويل إعادة إعمار غزة للأسباب المذكورة، تلقّت الفصائل الفلسطينية استعداداً صينياً للقيام بالمهمّة.
مقابل هذا الوعد من الطبيعي أن يتشكّك معارضو الحركة بأهميّة هذا العامل. قال هؤلاء إنّ الأميركيين لن يسمحوا لبكين بمدّ نفوذها الشرق الأوسطي من البوّابة الفلسطينية. ثمّ ذكّروا بأنّها سبق أن وعدت بإعمار سوريا، لكنّ غياب الاستقرار دفعها للانسحاب، إضافة إلى موانع عقوبات قانون قيصر.
قمع المعارضين وتآكل الشعبيّة؟
بموازاة الظروف الإقليمية والدولية المحيطة بجهود المصالحة، ثمّة تساؤلات عمّا إذا كانت الخشية من تآكل شعبية “حماس” ستدفعها نحو المساهمة في ترتيب البيت الفلسطيني جرّاء الوقائع على الأرض:
– ميدانياً، صعّد الجيش الإسرائيلي ارتكابه للمجازر في وقت تنشغل فيه أميركا بتصاعد الحمّى الانتخابية.
إقرأ أيضاً: نتنياهو يبحث عن اغتيال يبرّر به قبول الهدنة؟
– تزايدت في غزة أصوات انتقاد “حماس” وتحميلها مسؤولية استمرار إسرائيل في قصف المدنيين. وفضلاً عن ظهور فلسطينيين على الفضائيات يعبّرون عن نفاد صبرهم ويأسهم من قيادة الحركة، وقعت حوادث عدّة. في 8 تموز الجاري اعتدى ملثّمون بالضرب المبرّح على المدوّن الفلسطيني أمين عابد الذي دأب على انتقاد عملية “طوفان الأقصى”. وتسبّب ذلك بعشرات الكسور في جسمه. واستدعى ذلك صدور إدانة من منظمات مدنية، منها منظمة حقوق الإنسان الفلسطينية (حقوق)، مركز “تطوير” للدراسات في لبنان، ومركز “دراسات الجمهورية الديمقراطية” في فرنسا. حذّر البيان من “خطاب الكراهية الصادر عن سلطة حماس”، ومن أن “يصل الأمر إلى حرب أهلية إن أتيحت ظروفها”. وظهرت إحدى الأسيرات الفلسطينيات اللواتي جرى تحريرهنّ من السجون الإسرائيلية على فضائية عربية وقد كسرت ساقها. تعرّضت للضرب من “حماس” أثناء محاولتها ثني هؤلاء عن الاعتداء على ناشطين يهاجمون الحركة كما قالت. وهي من عائلة استُشهد أفراد لها في القتال مع إسرائيل… ويقول المدوّنون الفلسطينيون إنّ حوادث كهذه تكرّرت كثيراً جرّاء قمع الحركة لمنتقديها، والكثير منها لا يُذكر في وسائل الإعلام.
لمتابعة الكاتب على X: