لا جدال في معاناة الكويت اختلالات في الميزانية العامّة. ولا نقاش في أنّ اعتمادها التامّ على النفط يشكّل عقبة كَأْداء أمام خلق واقع اقتصادي مختلف. ولا شكّ أنّ القرار الحازم بوقف النزيف اتُّخذ على أعلى المستويات. لكن ما كشفه وزير المالية أنور المضف شكّل صدمة مُدعّمة بالأرقام حين حذّر من أنّ رصيد الاحتياطي العامّ يقترب من النفاد، بعدما صُرف منه حوالي 100 مليار دولار لتمويل العجز خلال آخر 4 سنوات.
منذ ما قبل تولّيه مقاليد الحكم، وتحديداً منذ كان وليّاً للعهد، شدّد أمير الكويت الشيخ مشعل الأحمد مراراً على ضرورة الإصلاح الماليّ والاقتصادي، مؤكّداً أنّ “مصادر الثروة الوطنية لا يجوز التفريط فيها أو استخدامها على وجه يستنزف مواردها ويعطّل مصالح الأمّة عن طريق اقتراحات تهدر المال العامّ ولا تحقّق المصلحة العامّة. وإنّما يجب أن تعمل هذه الاقتراحات في خدمة الاقتصاد الوطني”.
تكمن المشكلة الأساس بالكويت في أنّ الإنفاق الحكومي على رواتب الموظّفين والدعم (كهرباء، ماء، تموين، بدلات…) يلتهم نحو 80 في المئة من الميزانية، وهو ما يعني أنّ الإصلاح يبدأ من هذه النقطة، وتحديداً عبر “الترشيد”، لأنّ التوظيف “غير منضبط”، لا سيما مع النموّ المستمرّ وغير المبرّر في بند البدلات والمكافآت، وفق تعبير وزير المالية أنور المضف، الذي أسهب في مناسبتين خلال الأيام الماضية (مقابلة تلفزيونية وملتقى مخصّص للميزانية) في تشخيص الداء ووصف الدواء، ولمّح إلى قرب انطلاق مرحلة العلاج الذي ربّما يكون مؤلماً.
لا جدال في معاناة الكويت اختلالات في الميزانية العامّة. ولا نقاش في أنّ اعتمادها التامّ على النفط يشكّل عقبة كَأْداء أمام خلق واقع اقتصادي مختلف
بصراحة لافتة، أعلن الوزير، الذي يتولّى أيضاً حقيبة الشؤون الاقتصادية، أنّ رصيد الاحتياطي العامّ على وشك النفاد، بعدما انخفض من 33.6 مليار دينار (حوالي 110 مليارات دولار) في 2015 إلى أقلّ من مليارَي دينار (6.5 مليارات دولار) في السنة المالية الحالية (2023 – 2024).
قال بوضوح إنّ كلّ هذه المليارات “طارت” بسبب السحب المستمرّ لتغطية العجز الماليّ المدمّر في السنوات الأربع الماضية: “نحن الآن في مفترق طرق ونحتاج إلى اتّخاذ قرارات حاسمة لمعالجة هذا الوضع”.
محوران للإصلاح: الترشيد… والتنويع
أمام هذا الواقع، تتّجه الحكومة الكويتية إلى تنفيذ خطّة من محورين كبيرين لتحقيق الاستدامة المالية، هي:
1- ترشيد الإنفاق والسيطرة على نموّ المصروفات.
2- تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على عائدات النفط عبر زيادة الإيرادات غير النفطية.
ليس منطقياً أن ترتفع ميزانية الرواتب بنسبة 50% خلال أقلّ من 10 سنوات دون أن تكون هناك خيارات أخرى لتوظيف المواطنين
في المحور الأوّل، تتعدّد الحلول ومنها التقليل من البدلات التي يتقاضاها الموظّفون، ودفع المواطنين إلى العمل في القطاع الخاصّ لتخفيف الأعباء عن الجهاز الحكومي، خاصة أنّ نسبة الرواتب إلى الناتج المحلّي تبلغ 30 في المئة، وهي الأعلى بين دول الخليج، حيث تراوح نسبة الرواتب إلى الناتج المحلّي بين 7 و13 في المئة، وفق تصريحات الوزير.
إلى ذلك ليس منطقياً أن ترتفع ميزانية الرواتب بنسبة 50% خلال أقلّ من 10 سنوات (من 32.4 مليار دولار في 2015 إلى 48.4 مليار دولار في 2024)، دون أن تكون هناك خيارات أخرى لتوظيف المواطنين، أو زيادة الإيرادات من موارد أخرى.
ترتبط الحلول هنا بشكل وثيق بتوسيع دور القطاع الخاص وإطلاق عجلة المشاريع الكبرى بالتعاون مع شركات أجنبية، في مقدّمها الشركات الصينية، التي يتوقّع أن تلعب دوراً كبيراً في الفترة المقبلة.
من بين الخطط المرصودة أيضاً رفع كفاية الجهاز الحكومي وتعزيز الأداء الماليّ للوزارات ومعالجة الهدر ومكافحة الفساد.
أمّا المحور الثاني فهو أكثر صعوبة من الأوّل لأنّ الميزانية الكويتية اليوم تعتمد بشكل كامل على الإيرادات النفطية، في حين لا تشكّل الإيرادات غير النفطية سوى 4% من الناتج المحلّي، ويتمثّل الهدف بزيادتها إلى 10 في المئة بحلول 2030.
في هذه النقطة، قارن وزير المالية بين الكويت ودول خليجية أخرى، مشيراً إلى أنّ الإيرادات غير النفطية تشكّل 10 في المئة من الناتج المحلّي في السعودية و15 في المئة بالإمارات.
فيما تتّجه الأنظار إلى القرارات المرجّح صدورها قريباً وتدريجياً، تتصاعد المخاوف من عواقب تأخّر الإصلاح لأنّ العجز المتوقّع في السنوات الأربع المقبلة يُرجّح أن يصل إلى 26 مليار دينار
خطوات غير شعبيّة
يقود هذا الواقع ومجمل القرارات الحكومية المتّخذة في الفترة الأخيرة إلى أنّ موعد الخيارات غير الشعبية ربّما يكون قاب قوسين أو أدنى، ومنها:
– إعادة هيكلة الدعم وطرق توزيعه. وهو ما يعني ارتفاع أسعار البنزين والكهرباء وغيرهما الكثير.
– وقف الكثير من البدلات والامتيازات التي يتقاضاها العاملون في القطاع الحكومي.
– إعادة تسعير الخدمات المقدّمة من الجهات الحكومية، وهو ما سيؤدّي إلى ارتفاع الكثير من الرسوم، ومن بينها ما يطال المقيمين العرب والأجانب مثل رسوم الإقامة وغيرها.
– إعادة هيكلة سوق العمل بناء على أسس مختلفة عن تلك الحالية.
– إعادة تسعير إيجارات أملاك الدولة بعد حصرها.
– ضبط الإنفاق على التعليم والصحّة (يشكّلان معاً حوالي 14 في المئة من المصروفات مع بلوغ ميزانيّتهما 3.7 مليارات دينار من أصل 26 ملياراً).
أكّد الوزير عزم الكويت على اللحاق بركب الدول الخليجية، معرباً عن ثقته بأنّ المشاريع المقبلة “ستُغيّر وجه الكويت”.
لكن ما هي العواقب؟
فيما تتّجه الأنظار إلى القرارات المرجّح صدورها قريباً وتدريجياً، تتصاعد المخاوف من عواقب تأخّر الإصلاح لأنّ العجز المتوقّع في السنوات الأربع المقبلة يُرجّح أن يصل إلى 26 مليار دينار (حوالي 85 مليار دولار)، بحسب تقديرات وزير المالية الذي نبّه من أنّ استمرار الوضع كما هو يعني أنّ الدولة ستضطرّ إلى خيارات صعبة.
أوضح الوزير أنّ الإصلاحات الاقتصادية ستعتمد على 3 ركائز أساسية، هي:
– تنمية التجارة.
– تعزيز السياحة.
– دعم الصناعة الماليّة.
أكّد أنّ الحكومة تعمل على إحياء الأسس التي بنيت عليها الكويت في البداية قبل النفط، وهي تميّزها بعمليّات التجارة، الأمر الذي يفتح أمامها المجال لتنويع مصادر الدخل: “لذلك نحن نعمل على الأدوات التي ستحقّق لنا طفرة في النموّ التجاري مثل ميناء مبارك والمطار الجديد ومشروع السكك الحديد، وهي مشاريع ستُعزّز الجانب التجاري للكويت”.
أكّد الوزير عزم الكويت على اللحاق بركب الدول الخليجية، معرباً عن ثقته بأنّ المشاريع المقبلة “ستُغيّر وجه الكويت”.
إقرأ أيضاً: “إعادة ضبط” الخطاب الدّينيّ في الكويت