تلجأ الدول إلى صندوق الانتخاب لحل مشاكلها وأزماتها السياسية. ما يحصل اليوم من فرنسا وصولاً إلى إيران يعاكس تلك المعادلة، حيث يزيد صندوق الانتخاب الأزمات السياسية تعقيداً وتأزيماً.
تصدّرت “الجبهة الشعبية الجديدة” اليسارية نتائج الانتخابات العامّة في فرنسا وحلّت في المرتبة الأولى.. نجحت في الاستحقاق، لكنّها لن تحكم ولن تستطيع تشكيل حكومة تدير سياسة البلد حتى لو حافظت على وحدتها وتماسكها.
في المقابل جاء “التجمّع الوطني” اليميني المتطرّف في المرتبة الثالثة مخالفاً لكلّ التوقّعات بعدما حقّق مفاجأة كبرى في الجولة الأولى لم يحسن استثمارها. لم يجتَز العتبة الأخيرة ولم يحقّق طموحه في حكم فرنسا، لكنّه مع ذلك لم يخسر. بات منفرداً الحزب الفرنسي الأوّل من حيث الشعبية وصاحب أكبر كتلة من الأصوات وعدد المقاعد النيابية في الجمعية الوطنية بعدما ضاعف في غضون سنتين عدد ناخبيه 3 مرّات إلى نحو 12 مليون صوت، وكذلك عدد نوابه. هو متماسك إلى حدّ كبير. بينما خصومه تنخر صفوفهم بذور التفرقة والخلافات.
الصراع الحادّ بين الأجنحة وعدم وجود خطّ فاصل بين السلطة والمعارضة قد يقودان إلى شلل سياسي ولن يسمحا للحكومة باتّخاذ القرارات الكبرى
الأزمة في فرنسا تتعمّق
الرابح خاسر، والخاسر رابح. الرئيس الفرنسي أقرّ إجراء الانتخابات المبكرة لإخراج فرنسا من مشكلة تنامي المدّ اليميني المتطرّف. لكنّ النتيجة كانت إسقاطها في مشكلة أشدّ عمقاً وخطراً هي الفوضى السياسية وعدم الاستقرار الحكومي. “ليبرالية” الرئيس إيمانويل ماكرون تمنعه من التعاون مع المتطرّفين، أكانوا من اليمين أو اليسار. واليمين المتطرّف لا يستطيع الائتلاف مع الذين لا يشبهونه. وطريق “الجبهة الشعبية” إلى الحكم يمرّ عبر باب واحد هو باب ماكرون الذي أغلقه بوجهها بإحكام. وهذا التحالف مثل تحالف “معاً” الماكرونيّ والتيار الجمهوري معرّض بسبب التصدّع لعمليات شدّ وجذب وربّما تفكّك سريع. حكومة “التعايش” مرفوضة وحكومة الاتّجاه الواحد مستحيلة. وقد تمضي شهور من دون أن تتشكّل حكومة جديدة تستبعد الثنائي المتطرّف أو يرتسم مشهد سياسي جديد. وقد يطول الأمر سنة كاملة حتى يحقّ للرئيس دستوريّاً حلّ الجمعية العمومية والدعوة إلى انتخابات جديدة. وقد يعتبرها فرصة للتحكّم بالسلطة منفرداً لأطول وقت ممكن. وفي الانتظار تبقى الأمور معلّقة وسط انقسام سياسي داخلي حادّ وأزمتَي هويّة وثقافة عميقتين، فضلاً عن تخبّط اقتصادي وضغوط الاتحاد الأوروبي وحروب محتدمة على مشارف القارّة القديمة وتضرب أبوابها بقوّة.
الانتخابات هي وسيلة ديمقراطية للحفاظ على الاستقرار المجتمعي والسياسي. لكن، هذه المرّة في فرنسا، لم تجد حلّاً للمشكلة، بل عمّقتها وكشفت عورات السياسة وعقم النظام الانتخابي ورثاثة الديمقراطية عندما يجري تحويلها إلى ورقة تين لستر عيوب لا يمكن سترها.
إيران والتلطي بالديمقراطية
بعيداً عن فرنسا والقارّة الأوروبية “الديمقراطية”، جرت انتخابات في إيران، وهي دولة ثيوقراطية أتقنت لعبة التلطّي بالديمقراطية لإطالة عمر نظامها وإضفاء شرعية شعبية عليه بطريقة لا تخلو من ذكاء وفنّ ومهارة.
لكنّ هذه الانتخابات أيضاً تظهر أنّ الرابح فيها خاسر والخاسر فيها رابح. أُديرت بدهاء الخبراء لتجاوز مشكلة الشرعية والغطاء الشعبي وتنفيس الاحتقان الداخلي المتأتّي عن أزمات متراكمة، لكنّها أيضاً قد تأتي بنتائج مغايرة تماماً للمراد والتطلّعات والأهداف.
يبدو أنّ الديمقراطية، بما هي وسيلة لبناء النهضة والتطوّر وحلّ المشكلات في صناديق الاقتراع لم تعد تعاني فقط في الشرق، بل وفي معقلها في الغرب
فاز الإصلاحي بزشكيان، لكنّ درب الإصلاح لا يزال شائكاً وطويلاً ومزروعاً بكلّ أنواع الألغام. سجّل الإصلاحيون انتصاراً انتخابياً كبيراً على المحافظين، لكن هل في إمكانهم أن يحكموا كإصلاحيين وأن يقدّموا للإيرانيين ما يريدونه من إصلاحات وتغييرات في جوهر حياتهم ونمط عيشهم تناسب أحلامهم وتطلّعاتهم؟
فور إعلان فوزه، سارع المحافظون الممسكون بمفاصل الحكومة المنصرمة إلى إجراء تغييرات في المناصب الحسّاسة وإدارة المؤسّسات الحكومية والشركات الكبرى لتثبيت مقرّبين منهم حفاظاً على مصالحهم ونفوذهم وتعقيداً لمهمّة الوافد الجديد، وهو ما يجعل أولويّته صراع الأجنحة لا مصلحة عموم الشعب الإيراني، فتضعف قدرته على تنفيذ أيّ إصلاحات حقيقية ويبقى تحت الضغط المستمرّ للتيار المتشدّد. وعلى الرغم من تأكيد الرئيس المنتخب ولاءه للمرشد والخطّ “الثوري”، فإنّ منافسه الأصولي سعيد جليلي، صاحب النفوذ الكبير داخل الدولة العميقة، توعّده بالمراقبة الصارمة والتدخّل لتصحيح “الأخطاء”. الحكومة نظريّاً ستكون مع الإصلاحيين، وأمّا السلطة الاشتراعية الفاعلة، سواء في مجلس الشورى أو مجلس صيانة الدستور أو مجلس الخبراء أو السلطة القضائية، فهي معاقل قويّة للجناح الآخر الذي يشكو بدوره من تنافس في صفوفه على السلطة والنفوذ والموارد.
هذه التناقضات الحادّة في جسم النظام، أضف إليها السلطة المطلقة للمرشد وتجذّر الحرس الثوري في المؤسّسات الأمنيّة والمدنية، هل من شأنها السماح بإجراء تغيير جذري داخل النظام أم تدفع نحو مزيد من القمع لمنع تفشّيها؟ رغبة الشابّات والشباب الإيرانيين عارمة في إجراء تحوّلات اجتماعية تواكب العصر وتتماشى معه، فهل لدى بزشكيان وفريقه القدرة على الاستجابة في ظلّ تعدّد مراكز القوى داخل الدولة العميقة وتضارب المصالح التي استغرق بناؤها عقوداً من الزمن؟ وهل يقبل الناس بالقليل في ظلّ التفاوت الطبقي الذي صار واضحاً بين أغنياء الثورة والنظام وفقراء المدن؟
الانتخابات الأهمّ فهي تلك المنتظرة في أميركا التي تدّعي أنّها أمّ الديمقراطية في العالم وراعيتها، وعلى الأرجح لن يكون حظّها أفضل من حظّ الانتخابات الأوروبية
الصراع الحادّ بين الأجنحة وعدم وجود خطّ فاصل بين السلطة والمعارضة قد يقودان إلى شلل سياسي ولن يسمحا للحكومة باتّخاذ القرارات الكبرى، وهو ما يفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلاد، وتالياً يسعّر الغضب الشعبي ويمدّ الحركة الاحتجاجية بمادّة خصبة للعودة إلى الشارع. وحراك كهذا يستدعي في المقابل العودة إلى القبضة الحديد، وعندها أيّ إصلاح قد يتقدّم إلى الأمام؟
الانتخابات الفرنسية عمّقت أزمة البلاد بدلاً من حلّها، وقد يستغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل إيجاد سبيل التعافي. أمّا الانتخابات الإيرانية لوّحت للإيرانيين ببشائر حلول لا تبدو حتى الآن واقعية، لكنّ مخاطرها كبيرة، ذلك أنّ تكرار الوعد وعدم الالتزام به مرّات ومرّات من شأنهما أن يقودا إلى إحباط شعبي عامّ أو إلى انفجار اجتماعي كبير، وكلتا الحالتين نذير شؤم للنظام.
الانتخابات هي وسيلة ديمقراطية للحفاظ على الاستقرار المجتمعي والسياسي. لكن، هذه المرّة في فرنسا، لم تجد حلّاً للمشكلة
الانتخابات الأميركية: ما حدا أحسن من حدا
أمّا الانتخابات الأهمّ فهي تلك المنتظرة في أميركا التي تدّعي أنّها أمّ الديمقراطية في العالم وراعيتها، وعلى الأرجح لن يكون حظّها أفضل من حظّ الانتخابات الأوروبية والآسيوية، إذ قد تتحوّل إلى محطّة فاصلة في تاريخ الدولة العظمى، وتُخرج ما في داخلها من مصائب وعورات وترهّل وتفكّك وخوف على المستقبل، ذلك أنّ بقاء الرئيس جو بايدن في البيت الأبيض سيكون بمنزلة الصورة الكئيبة والمتهالكة لأميركا، وسيكون الخاسر الأكبر فيها الحزب الديمقرطي، لا سيما أنّه عجز حتى الآن عن إبراز قياديّ واعد يقود الدولة والعالم. أمّا دونالد ترامب فإذا فاز فمصيبة، وإذا خسر فمصيبة أكبر قد تفتح صندوق باندورا الأميركي.
إقرأ أيضاً: أوروبا.. أوطان بلا أجانب وغرباء
يبدو أنّ الديمقراطية، بما هي وسيلة لبناء النهضة والتطوّر وحلّ المشكلات في صناديق الاقتراع، لم تعد تعاني فقط في الشرق، بل وفي معقلها في الغرب. فهي بفعل مرور الزمن وما تعرّضت له من تشويه وعبث على أيدي الأنظمة السياسية بمختلف تلاوينها الأيديولوجية عبر جعلها وسيلة للسيطرة وفرض النفوذ ترهّلت وبدأت تفقد قيمها وجوهرها شيئاً فشيئاً، ولم تعد تمنح المواطنين المكانة التي يستحقّونها، لا بل صارت عدوّة لمصالحهم، وبدلاً من أن تكون مفتاح للعقد صارت قفلاً وجلّابة أزمات، وبات ملحّاً البحث عن مفهوم آخر حقيقي يلامس الواقع ويواكب العصر ويتيح للناس حكم أنفسهم بأنفسهم فعلاً لا قولاً بعيداً عن كلّ أنواع المتسلّطين.