لم يكن تفكيك البيت السنّيّ نتيجة انشقاق فكريّ أو تضادّ سياسي فحسب، بل الأمر بدأ منذ اغتيال الشيخ صبحي الصالح والمفتي حسن خالد، والغاية كانت فقدان “الأبوّة” وجعل القاعدة الجماهيريّة تنساق إلى لاشعورها بحثاً عمّا يسدّ هذه الفجوة أو من ينظّم انفعالها. وربّما اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2005 قد زاد من هذا الانسياق. فعلى الرغم من محاولة الحريري الأب إخراج الطائفة من ثوبها التاريخيّ والدينيّ نحو المدنيّة والمؤسساتيّة والعلمانيّة إلّا أنّ نقاط ضعف وجروحاً عميقة حالت دون هذا الخروج الكلّيّ، بدءاً من تدخّل النظام السوري في التركيبة اللبنانيّة وتحصين إيران للبيئة الشيعية وصولاً إلى ما نحن عليه من تعدّد للأصوات داخل النّص السنّيّ السياسي الواحد. وما زاد الليل ظلمةً دخول غزّة والعالم الإسلامي بحرب مع الفكر الصهيوني الإلغائي، وهو ما كشف عن ارتباك سنّيّ لبناني وتبلور اتّباع جزئي للحزب، فكيف أعادت فلسطين الحدّة إلى هذا الجرح؟ إلى أيّ حدّ ساهم النظام السوري في وصول القاعدة السنّيّة اللبنانيّة إلى الخلخلة؟ وهل السلوك النقديّ وحده يكفي؟
حرب غزّة… الاتّباع كردّ فعل
صحيح أنّ الفصائل التي تقاتل إسرائيل في حربها الإلغائيّة على غزّة هي ذات طبيعة إسلاميّة سنّيّة في أغلبها، لكنّ نواتها تبلورت على شاكلة اتّباع لمشروع إيران في المنطقة القائم على المدّ الشيعي من جهة، والتسلّح المستدام في دول المؤسّسات والحكم المدنيّ في الشرق الأوسطمن جهة ثانية. وربّما المشهد اليوم في طرابلس وصيدا يلخّص هذه التبعيّة، فانضواء الجماعة الإسلاميّة في عاصمتَي الشمال والجنوب والأطراف المنادية بالخطاب الإسلامي السنّيّ المتطرّف، سواء على المستوى السياسي أو العسكري، تحت جناح الحزب مسوّغةً ذلك بمشاعر قوميّة تجاه القضيّة الفلسطينيّة يعود بالدرجة الأولى إلى سببين:
– افتقاد “الأب” الذي يصوّب رؤية السُّنّة إلى القضيّة ويعطيها الثوب السياسي والفكري المختلف. فالتشرذم الحاصل بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري الذي أوقف العدّ الطائفي من جهة، وخلق خطاباً مقاوماً للانتهاكات الإسرائيليّة في الجنوب وفلسطين في المحافل الدوليّة والعربيّة، أفقد الشارع السنّي قدرته على الاستعانة بذاكرته العقليّة لبناء موقف ووضَعه في خانة الانفعال والغضب الذي بلغ ذروته حين اتّخذ الرئيس سعد الحريري قراره بالتضحية/ التسوية السياسية من أجل فكرة مغيّبة اسمها “البلد”، ثمّ تسديده لفاتورة الغضب “التشرينيّ ” عام 2019 بالعزوف والانكفاء بعد سلسلة أخطاء وانشقاقات داخل البيت الأزرق.
لم يكن تفكيك البيت السنّيّ نتيجة انشقاق فكريّ أو تضادّ سياسي فحسب، بل الأمر بدأ منذ اغتيال الشيخ صبحي الصالح والمفتي حسن خالد
– الجرح التاريخي – السياسي الذي يلاحق السُّنّة كاللعنة على الصعيد القومي العربيّ منذ النكسة التي مُني بها عبد الناصر عام 1967 واغتيال أنور السادات بعد كامب دايفيد، وانتكاسة ياسر عرفات عامَي 1982 و1994 في بيروت وأوسلو، وعلى الصعيد الداخلي حين أخفق رجالات السياسة السُّنّة، لا سيّما الرئيسين سليم الحصّ وعمر كرامي، في إيجاد كيان بديل أو ندّ نقدي متماسك في وجه الحريريّة السياسيّة.
هذان السببان جعلا المحور العربي ينظر فيما بعد إلى الشارع السنّي على أنّه شارع مرتاب مضطرب لا يمكن تشكيل قائد أو قادة في داخله في الوقت الحالي، فكان خيار اتّباع المحور الآخر المبنيّ على “شيعيّة سياسيّة” تبلغ سلطتها الذروة حاليّاً هو الخيار اللاواعي لجمهور شهد ما يسمّى في علم النفس الجماهيري “ذوباناً” لبعض مثقّفيه بعدما صار التغيير والمناداة به من المحال تقريباً.
يحلم الشارع السنّي اللبناني بأن يعود طيف صائب سلام، رشيد كرامي، رفيق الحريري إلى الساحة. وهؤلاء رجالات شكّلوا امتداداً مؤسّساتياً لما عاشته طوائف أخرى كالمارونيّة في عهد فؤاد شهاب. واليوم ينزلق هذا الشارع عبر المشاعر القوميّة الجيّاشة والصادقة تاريخيّاً تجاه غزّة خصوصاً، وفلسطين عموماً، نحو المحور الآخر، فهل هي ردّة فعل ستتحوّل إلى فعل؟ أم الأمور محض آنيّة؟
يحلم الشارع السنّي اللبناني بأن يعود طيف صائب سلام، رشيد كرامي، رفيق الحريري إلى الساحة
البعث السّوريّ وتكريس الجرح
فلنعد إلى تسعينيات القرن الماضي حين رسا الاتفاق السوري بقيادة حافظ الأسد والإيراني بقيادة الخمينيّة السياسيّة على تكوين الشيعيّة السياسيّة بدءاً من جعل زعيم حركة أمل نبيه بري رئيساً لمجلس النوّاب ومروراً بإدخال الحزب إلى الساحتين العسكريّة-الأمنيّة والسياسيّة عبر مقاعد محدودة ومقاعد نيابيّة ذات تمثيل مقبول، فأصبح البعث السوري شريكاً في الوقوف حائطاً بوجه صعود نجم السنيّة السياسيّة التي بدأت تخرج مع الشهيد رفيق الحريري نحو منطق الانفتاح على الغرب والطوائف الأخرى وتكريس إعادة الإعمار، وهو أمر يعدّ واحداً من النقاط التي لا تناسب الكيان الأمنيّ الإيراني – السوري فأطاح بالحريري عبر انفجار ضخم هزّ بيروت وبدّد مشهد لبنان الكتلة الواحدة إلى كتل تتناحر، وكتل تتناحر فيما بينها، ومنها الكتلة السنّيّة.
مشهديّة الثورة السوريّة أعطت الأمل لسنّة لبنان بسقوط نظام الأسد الابن، وكان التعويل على خطوات الدول العربيّة الكبرى مثل تعليق عضويّة سوريا في الجامعة العربيّة وقطع العلاقات الدبلوماسيّة مع سوريا الأسد، إلا أنّ استغاثة الأسد الابن بحليفين متناقضين هما إيران الخمينيّة المحافظة وروسيا القيصريّة العلمانيّة أطاحت بحلم السنّة، فضلاً عن التخبّط في البيت الأزرق بين 2017 و2018. هذا الأفول نتيجة تفكّك المعارضة السوريّة وتسليم الأسد الكيانات المدنيّة السنّيّة للحزب وروسيا كرّس الجرح لدى السُّنّة في لبنان وجعلهم يلتهون بمعيشتهم وشجونهم الداخليّة.
إقرأ أيضاً: دولة فلسطين الموحّدة للقضاء على الدّولة
ليس المطلوب من سنّة لبنان أن يكونوا كتلة مسلّحة تابعة أو مستقلّة أو أن يبحثوا عن قائد جديد يرتّب لهم مشاعرهم القوميّة تجاه غزّة وسواها بقدر ما هو مطلوب منهم أن يفهموا القضايا التي تحيطهم لأنّهم حتماً سيصلون إلى خلاصة واحدة هي البدء بالحوار النقدي عبر المثقّفين والسياسيين، وهو ما يحرّر الطائفة من منطق انتظار التسويات. وإلّا فسيكون حالنا كما قال أبو تمّام: “وعاذل عاذلته في عذله/ فظنّ أنّي جاهل من جهله”.
لمتابعة الكاتب على X:
* ناقد، صحفيّ وشاعر لبنانيّ.