الذّهب ومجموعة BRICS يعيدان تشكيل الاقتصاد العالميّ

2024-07-12

الذّهب ومجموعة BRICS يعيدان تشكيل الاقتصاد العالميّ

تأثير الاستثمار في الذهب على السيولة والنموّ الاقتصادي معقّد ويعتمد على عوامل متعدّدة بما في ذلك السياسات الاقتصادية، الاستقرار السياسي، وثقة المستهلك.

 

من الضروري للحكومات والمؤسّسات الماليّة فهم هذه الديناميكيات لتشجيع الاستثمارات الأكثر إنتاجية التي تسهم في الاستقرار والنموّ الاقتصادي. هناك عدّة دوافع وراء التوجّه المتزايد للاستثمار في الذهب، سواء على صعيد المصارف المركزية العالمية أو الأفراد.

المصارف المركزية:

تحوّلت العديد من المصارف المركزية عالمياً من الاعتماد على الدولار الأميركي كخيار أوّل للاحتفاظ بالاحتياطات الأجنبية إلى الاستثمار في المعادن الثمينة، خاصة الذهب. الدافع وراء هذا التحوّل يرجع إلى زيادة وتيرة العقوبات التي تفرضها الخزانة الأميركية على أفراد وكيانات، بما في ذلك مصارف مركزية لدول كبرى مثل روسيا وإيران، والتهديد بعقوبات على دول أخرى مثل الصين. هذا بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل تأسيس مجموعة BRICS، وعدم الاستقرار السياسي في أوروبا بسبب الحرب على أوكرانيا ونموّ اليمين المتطرّف، وهو ما يجعل الدولار الأميركي، على الرغم من استقراره، عملة غير مرغوب بها بسبب مخاطر العقوبات.

تعتبر الولايات المتحدة الأميركية لاعباً رئيسياً في النظام الماليّ العالمي، ويعدّ الدولار الأميركي العملة الرئيسية للاحتياطات العالمية والمعاملات الدولية. ومع ذلك، فإنّ السياسة الأميركية المتمثّلة في فرض عقوبات على الدول الأخرى قد أثارت قلقاً متزايداً بين المصارف المركزية العالمية، لا سيما في ما يتعلّق بتأثير هذه السياسات على استقلاليّتها وسيادتها الماليّة:

يجب على صنّاع القرار تبنّي سياسات ماليّة واقتصادية تتّسم بالمرونة والاستباقية للتعامل مع التقلّبات المستقبلية

– تأثير العقوبات على السيادة المالية: تسبّب فرض العقوبات الأميركية على دول مثل روسيا وإيران، والتهديدات الموجّهة نحو دول مثل الصين، في اعتبار الدولار الأميركي عملة محفوفة بالمخاطر. تعتبر هذه الدول أنّ العقوبات تجاوزت كونها إجراءات تنظيمية لتصبح تدخّلات في الشؤون الداخلية، وهو ما يهدّد سيادتها الوطنية ويقوّض استقلالية قراراتها الاقتصادية. قد تلقي سياسة العقوبات الأميركية بظلالها على العلاقات الدبلوماسية مع الدول المتأثّرة، حيث تُظهر الأخيرة مقاومة متزايدة للهيمنة الأميركية في الشؤون الماليّة العالمية. يعزّز هذا الوضع التحالفات بين الدول الباحثة عن حلول بديلة ويشجّع على إنشاء كتل اقتصادية وسياسية قد تعمل بشكل مستقلّ عن النظام الماليّ الذي تقوده الولايات المتحدة.

– البحث عن بدائل من أجل الاستقرار: ردّاً على العقوبات والمخاوف المتعلّقة بالتدخّل في الشؤون المالية، بدأت المصارف المركزية تنويع احتياطاتها من العملات الأجنبية بالاستثمار أكثر في المعادن الثمينة مثل الذهب، التي تعتبر أصولاً ذات قيمة مستقرّة ولا تخضع لسيطرة دولة واحدة. كما أنّها تسعى إلى استخدام عملات بديلة في المعاملات الدولية لتقليل الاعتماد على الدولار. الدول التي تتأثّر بالعقوبات تسعى إلى استقرار اقتصادي أكبر من خلال تقليل التقلّبات التي قد تسبّبها السياسات الأميركية. الذهب يوفّر هذه الاستقرارية كأصل لا يمكن تجميده أو الحجز عليه بسهولة من قبل القوى الأجنبية، وهو ما يجعله خياراً مثاليّاً للاحتفاظ بالقيمة في أوقات الأزمات السياسية والاقتصادية.

في ظلّ التحدّيات الجيوسياسية والاقتصادية الراهنة، تبرز الحاجة الماسّة للدول والأفراد إلى إعادة تقويم استراتيجيات الاستثمار والحفاظ على الثروات

الأفراد:

ارتفع الطلب على سبائك الذهب، لا سيما في ظلّ الضغوط التضخّمية التي صاحبت جائحة كورونا والحرب على أوكرانيا وما ترتّب عليها من تداعيات سلبية على أسعار الطاقة والغذاء، وأخيراً الحرب على غزة. الفشل المستمرّ للدول الكبرى مثل أميركا وروسيا وأوروبا وبريطانيا في حلّ هذه الأزمات المتفاقمة ومشاكل التضخّم والسياسة والأمن، ساهم في فقدان الثقة بالعملة التقليدية (مثل الدولار أو اليورو)، وهو ما دفع الأفراد إلى اختيار الذهب والفضّة كبدائل آمنة للادّخار. في لبنان، حيث تُعتبر الأزمة الماليّة والمصرفية متفاقمة، أصبحت سبائك الذهب الخيار الأفضل للادّخار بالنسبة للأفراد، وهو ما يمثّل تحدّياً اقتصادياً نظراً للسيولة التي تُستثمر في شراء الذهب بدلاً من توجيهها نحو مشاريع منتجة تسهم في تنشيط الاقتصاد وخلق فرص عمل.

في ظلّ الاضطرابات الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي، أصبح الأفراد يفضّلون الاستثمار في سبائك الذهب كوسيلة للمحافظة على قرشهم الأبيض ليوم أسود قد يأتي. هذا الاتجاه له تداعيات اقتصادية مهمّة قد تؤثّر على النموّ الاقتصادي العامّ وخلق فرص العمل:

– الذهب كملاذ آمن: الذهب يُعتبر تقليدياً ملاذاً آمناً في أوقات الأزمات الماليّة والاقتصادية. في ظلّ التقلّبات الشديدة في الأسواق المالية وعدم اليقين السياسي، يميل الأفراد إلى تحويل مدّخراتهم إلى الذهب الذي يحافظ على قيمته على المدى الطويل، مقابل العملات الورقية التي قد تتأثّر بالتضخّم وفقدان القيمة. الاستثمار في الذهب قد يكون أيضاً نتيجة عدم الثقة بالنظام الاقتصادي والماليّ كما هو الحال في لبنان. عندما يفقد الأفراد الثقة بالعملات الورقية أو المصارف أو حتى الحكومات، يميلون إلى اللجوء إلى الذهب كوسيلة للحفاظ على قيمة مدّخراتهم، وهو ما يعكس حالة من القلق الاقتصادي قد تؤثّر سلباً على الاستهلاك والاستثمارات الأخرى.

عندما يستثمر الأفراد في الذهب، فإنّ الأموال التي يمكن أن تُستخدم في الاستهلاك أو الاستثمار في مشاريع منتجة تُحوَّل بدلاً من ذلك إلى أصول غير مُنتجة

– التأثير على السيولة الاقتصادية: عندما يستثمر الأفراد في الذهب، فإنّ الأموال التي يمكن أن تُستخدم في الاستهلاك أو الاستثمار في مشاريع منتجة تُحوَّل بدلاً من ذلك إلى أصول غير مُنتجة. هذه السيولة المُستثمرة في الذهب لا تسهم في الناتج المحلّي الإجمالي مباشرة، وهو ما يؤدّي إلى تقليص الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري الذي يمكن أن يعزّز النموّ الاقتصادي الذي لبنان بأمسّ الحاجة إليه. بدلاً من توجيه الأموال نحو مشاريع تجارية أو صناعية قد تخلق فرص عمل وتسهم في النموّ الاقتصادي، يؤدّي الاستثمار في الذهب إلى “تجميد” جزء من السيولة في أصول غير متداولة بسهولة.

الذهب

هذا يعني أنّ الأموال المستثمرة في الذهب لن تساهم في تحفيز الاقتصاد محلّياً. ارتفاع الطلب على الذهب قد يؤدّي أيضاً إلى ارتفاع أسعاره، فتزيد تكلفة الاستثمار في هذا المعدن للأفراد والشركات على حدّ سواء. هذا الارتفاع في الأسعار يمكن أن يقلّل من القدرة الشرائية للأفراد، خصوصاً في الدول التي تعتبر الذهب جزءاً أساسياً من الثقافة الاقتصادية مثل الهند وبعض دول الشرق الأوسط.

تأثير تأسيس مجموعة بريكس

لعبت مجموعة بريكس دوراً كبيراً في تعزيز الطلب على الذهب عالمياً. تأسّست بريكس لتجمع بين أهمّ الدول النامية وتتحدّى القوّة السياسية والاقتصادية للدول الأكثر ثراءً. التأثير المحتمل لعملة بريكس الجديدة على الدولار الأميركي يبقى محلّ نقاش، لكن إذا استقرّت هذه العملة، فقد يقلّل ذلك من فعّالية العقوبات الأميركية ويؤدّي إلى تراجع قيمة الدولار. تعدّ مجموعة الـ BRICS واحدة من الكتل الاقتصادية الرئيسية في العالم النامي. تسعى هذه المجموعة إلى تحدّي الهيمنة الاقتصادية والسياسية للدول الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة وأوروبا:

تأثير الاستثمار في الذهب على السيولة والنموّ الاقتصادي معقّد ويعتمد على عوامل متعدّدة بما في ذلك السياسات الاقتصادية، الاستقرار السياسي

– تعزيز التعاون الاقتصادي: تعمل دول الـ BRICS على تعزيز التعاون الاقتصادي فيما بينها من خلال مشاريع مشتركة واتفاقيات تجارية تهدف إلى تسهيل الوصول إلى الأسواق وتبادل السلع والخدمات بشروط أفضل. هذا التعاون يشمل أيضاً تطوير بنى تحتية مشتركة وتمويل مشروعات تنموية كبيرة في الدول الأعضاء. من خلال تعزيز التعاون والتكامل الاقتصادي، تهدف دول الـ BRICS إلى تعزيز سيادتها السياسية والاقتصادية والحدّ من تأثير القوى الغربية على سياساتها الداخلية والخارجية. تسعى الكتلة أيضاً إلى تقديم نموذج بديل للتنمية يتماشى مع مصالح الدول النامية.

– البحث عن بدائل للنظام الماليّ الغربي: تسعى دول الـ BRICS إلى تقليل اعتمادها على النظام الماليّ الغربي من خلال إنشاء مؤسّسات ماليّة بديلة مثل البنك الجديد للتنمية (NDB)، الذي يهدف إلى دعم المشاريع التنموية في الدول النامية من دون شروط تقييدية غالباً ما تفرضها المؤسّسات الماليّة الغربية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. تزداد أهمّية دول الـ BRICS كلاعب جيوسياسي مؤثّر، وهو ما يؤدّي إلى إعادة تشكيل العلاقات الدولية وتوازن القوى العالمي. الدور الذي تلعبه هذه المجموعة يعكس تحوّلاً في القيادة العالمية نحو نظام متعدّد الأقطاب يتّسم بتنوّع أكبر في الأصوات والمصالح. تعتبر دول الـ BRICS من أكبر المستهلكين والمنتجين للذهب في العالم، وتؤثّر بشكل كبير على الطلب العالمي على الذهب والدولار الأميركي.

تعمل دول الـ BRICS على تعزيز التعاون الاقتصادي فيما بينها من خلال مشاريع مشتركة واتفاقيات تجارية تهدف إلى تسهيل الوصول إلى الأسواق

في ظلّ التحدّيات الجيوسياسية والاقتصادية الراهنة، تبرز الحاجة الماسّة للدول والأفراد إلى إعادة تقويم استراتيجيات الاستثمار والحفاظ على الثروات. الاستثمار في الذهب لم يعد مجرّد خيار تقليدي للادّخار، بل أصبح ضرورة استراتيجية تعكس سعي الفاعلين الاقتصاديين إلى ضمان استقلاليّتهم المالية وحماية أصولهم من التقلّبات السياسية والعقوبات الدولية. من ناحية أخرى، تشير الاتّجاهات الحالية إلى تزايد الدور الذي تلعبه مجموعات مثل BRICS في تشكيل مستقبل النظام المالي العالمي، وهو ما قد يؤدّي إلى تغييرات جذرية في ديناميكيات السوق العالمية. وفي الوقت الذي تزداد فيه الضغوط على الدولار الأميركي كعملة احتياطية عالمية، يكتسب الذهب أهميّة متزايدة كأصل آمن، وهو ما يعزّز من مكانته في الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، يجب على الحكومات والمؤسّسات المالية أن تدرك أنّ الاعتماد المفرط على الذهب قد يؤدّي إلى تحدّيات في السيولة ويقيّد القدرة على الاستثمار في المشروعات الاقتصادية الحيوية، وهو ما يتطلّب توازناً دقيقاً بين حماية الأصول وتحفيز النموّ.

إقرأ أيضاً: ما وراء الشّلل السياسيّ: لمستقبل يقوده القطاع الخاصّ

يجب على صنّاع القرار تبنّي سياسات ماليّة واقتصادية تتّسم بالمرونة والاستباقية للتعامل مع التقلّبات المستقبلية، مع الاستفادة من الدروس المستخلَصة من الأزمات الماليّة السابقة والتغيّرات الجيوسياسية الحالية. هكذا يمكن للمجتمع الدولي تحقيق استقرار اقتصادي مستدام يخدم الأجيال المقبلة، مع الحفاظ على التوازن بين الاحتياطات التقليدية والبدائل الاستثمارية الآمنة مثل الذهب.

 

* باحث في الشؤون الاقتصاديّة والمصرفيّة.

مواضيع ذات صلة

موازنة 2025: عودة الموسيقى إلى “التايتنك”

يتهيّأ لوزارة المال أنّ مهمّة إعداد الموازنة العامّة باتت أسهل، بعدما تقلّصت المصاريف وتخلّصت من خدمة الدين، ولذلك تسارع إلى تقديمها إلى مجلس الوزراء في…

“خطّة نحّاس”: تنك… في الوقت الضائع

لم تُحدث خطّة مستشار رئيس الحكومة نقولا نحّاس لحلّ أزمة الودائع وإعادة هيكلة القطاع المالي والمصرفي في لبنان، الصدمة الإيجابية المطلوبة. إذ لم تأتِ بجديد…

مخطّط احتيالي لهيكلة المصارف: مصادرة أموال المودعين

طرح فريق رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي نسخة جديدة من خطة “إعادة هيكلة القطاع المصرفي” هي بأبسط تعبير مصادرة لأموال المودعين، وإخراج الدولة والبنوك…

كيف يتجنّب لبنان اللائحة الرمادية والانهيار الكامل؟

هل يتجنّب لبنان كأس إدراجه على اللائحة الرمادية؟ أم أنّ الأمور خرجت عن السيطرة؟ يواجه لبنان تحدّيات جسيمة ومعقّدة في سعيه إلى الامتثال لمعايير مكافحة…