ما قبل 2005 ليس كما بعدها في مسيرة الحريرية السياسية. اغتيال رفيق الحريري كان الحدّ الفاصل ما بين جريمة كبرى اغتالت وطن، وما بين مسيرة سياسية عبثاً حاول الأبناء استكمالها. في الجزء الثاني من مقالة الدكتور خليل جبارة، تفاصيل المرحلة الثانية للحريرية السياسية من اغتيال رفيق الحريري إلى محاولات بهاء الحريري.
كان اغتيال رفيق الحريري في شباط 2005 بمنزلة نهاية الانفراج الإقليمي والدولي الذي تمتّع به لبنان منذ عام 1990. وكما حدث مرّات عديدة في تاريخ جبل لبنان حتى عام 1920، وفي وقت لاحق في لبنان ما بعد الاستقلال، انقسمت الفصائل السياسية والطائفية وانحازت إلى القوى الإقليمية والدولية المتعارضة. على الرغم من ذلك، أثبت النظام السياسي اللبناني أنّه أكثر مرونة ونجا من هذا الاستقطاب بشكل أساسي من خلال الإبقاء على ترتيبات تقاسم السلطة المحلّية والحفاظ عليها، وخاصة من قبل سعد الحريري، الذي خلف والده في عام 2005، فحظي حزب والده السياسي، تيار المستقبل، بشعبية واسعة النطاق، وكان ممثّلاً على نطاق واسع في الانتخابات البرلمانية في الأعوام 2005 و2009 و2018.
كان تشكيل حكومات الوحدة الوطنية والتسوية الرئاسية في تشرين الأول 2016 كان بمنزلة محاولات للحفاظ على العقد الاجتماعي الطائفي في سياق إقليمي شديد الاستقطاب، خاصة خلال الحرب في سوريا. ومع ذلك، وقف سعد الحريري ضدّ كلّ التداعيات السلبية للمواجهة الإقليمية، بما في ذلك الحرب السورية على لبنان. ويمكن أن يُنسب إليه الفضل في مواجهة جميع الإغراءات لعكس ترتيبات تقاسم السلطة، التي جاء تنفيذها بتكلفة باهظة على المستوى الشخصي والمجتمعي والوطني معاً.
ما قبل 2005 ليس كما بعدها في مسيرة الحريرية السياسية اغتيال رفيق الحريري كان الحدّ الفاصل
مارست النخبة السياسية المحسوبية على نطاق واسع وانتزعت الريع الاقتصادي لتحفيز تشكيل وعمل الحكومة الوطنية. ارتفع حجم القطاع العامّ من 175 ألف موظّف في عام 2000 إلى حوالي 300 ألف موظف في عام 2017. كما تفاقم رصيد الديون بشكل كبير، وبلغ عجز الموازنة نسبة 11.3% في عام 2018. في الوقت نفسه، تمّ إنفاق 40% من نفقات الموازنة المالية على الدعم المباشر وغير المباشر الذي استفاد منه القطاع الخاص المتحالف مع النخبة. أظهر مؤشّر التنافسية العالمية أنّ لبنان احتلّ المرتبة الـ121 من بين 137 دولة في ما يتعلّق بالمدفوعات غير المنتظمة والرشى، والمرتبة الـ124 من بين 137 دولة في ما يتعلّق بالشفافية في صنع السياسات الحكومية في 2017-2018. وكانت الإيرادات الضريبية من بين أدنى المعدّلات في العالم، إذ لم تتجاوز المساهمة الإجمالية لكلّ الضرائب في الناتج المحلّي الإجمالي نسبة 14% إلى 15% من الناتج المحلّي الإجمالي.
بعبارة أخرى، ومن أجل الحفاظ على الإجماع، انخرطت النخبة السياسية في فورة مشتريات فلكية متعمّدة، موّلها البنك المركزي باستخدام أدوات مشكوك فيها في كلّ مرة أوقفت البنوك التجارية توفير الائتمان.
في الوقت نفسه، أصبحت الخطوط التي تفصل بين الدولة اللبنانية والحزب ضبابيّة، وهو ما أثّر على علاقات سعد الحريري مع دول الخليج والدول الغربية. حلّت رأسمالية المحسوبية محلّ الرؤية الاقتصادية النيوليبرالية، وتمّ تفكيك شبكات الحريري الخيرية، وانهارت شركة سعودي أوجيه ــ شركة البناء العائلية. بمعنى آخر، تبخّرت الركائز الأصلية التي قامت عليها الحريرية السياسية.
منذ الاتفاق الرئاسي الذي أدّى إلى انتخاب ميشال عون في تشرين الأول 2016 حتى خروجه من الحياة السياسية، تشكّك منتقدو سعد الحريري في خياراته وأسلوب حكمه. ألقى العديد من الحلفاء السابقين عليه اللوم في ما يتّصل بالنفوذ المتزايد غير المتناسب للحزب، واشتكوا من تراجع النفوذ والضعف السياسي للطائفة السنّية. وتحدّت شخصيات وجماعات سياسية أخرى، بمن في ذلك شقيقه الأكبر بهاء، قيادته وقدّمت نفسها كبدائل جديرة بالاهتمام.
غير أنّ لبنان تعرّف على مدى الأعوام السبعة عشر الماضية على شقيقه الأصغر سعد، الذي نجح حزبه السياسي في الحصول على الأغلبية البرلمانية
الحريريّة السّياسيّة اليوم
خلال الانتخابات البرلمانية لعام 2022، دعم بهاء الحريري عددًا قليلاً من القوائم الانتخابية في بعض الدوائر، وكان أداؤها سيّئاً جدّاً. وحتى ذلك الحين، لم يكن اللبنانيون يعرفون الكثير عنه باستثناء مناداته للناس العائدة إلى العصور الوسطى خلال تشييع والده: “أيّها القوم”.
أخيراً، عاد بهاء الحريري إلى بيروت لإطلاق سلسلة من اللقاءات والتجمّعات في أحياء مختلفة، مرحّباً بالناس ومستمعاً إلى أفكارهم وهمومهم. ولم يُقَل أيّ شيء علناً سوى التصريح العامّ بأنّ بهاء الحريري موجود في المدينة لمواصلة إرث والده. تمّ تصويره في جميع الاجتماعات في وضع المستمع، وهو يرتدي ملابس رسمية، ويحمل قلماً ودفتراً، ويدوّن الملاحظات. فبدا أشبه بمستشار دوليّ يجري بحثاً ميدانياً ويجتمع مع المستفيدين أو أصحاب المصلحة.
صرّح مراراً وتكراراً في جميع الاجتماعات والاتصالات أنّ هدفه النهائي هو مواصلة إرث والده الخيري. الانطباع الأوّل هو أنّ هناك تعارضاً زمنيّاً. إذ تشير تصريحاته ورسائله إلى أنّ الزمن عنده قد توقّف، وأنّنا ما زلنا في 15 شباط 2005، اليوم الذي تلا تشييع رفيق الحريري.
غير أنّ لبنان تعرّف على مدى الأعوام السبعة عشر الماضية على شقيقه الأصغر سعد، الذي نجح حزبه السياسي في الحصول على الأغلبية البرلمانية في انتخابات 2005 و2009. لا تظهر تصريحات وتحرّكات بهاء الحريري أنّه مستعدّ للخوض في نقاش عميق وشامل يتعلّق بالدروس المستفادة من الرحلة السياسية للسنوات السبع عشرة الماضية. وكان الأجدر أن تبدأ هذه اللقاءات والاجتماعات بمناقشة وتحليل المرحلة السابقة. ما هي الاختيارات والخيارات الخاطئة؟ ما الذي كان يمكن تجنّبه؟ وما هي الأسباب وراء خيبات الأمل والكوارث الماضية؟ هل هي مسألة تتعلّق بالقرارات الاستراتيجية أم انعكاس لسوء الإدارة؟
حتى الآن، لا يوجد ما يشير إلى أنّ إجراء مثل هذا التحليل العميق كان متوقّعاً أو حتى مقصوداً من قبل بهاء وفريقه.
كان اغتيال رفيق الحريري في شباط 2005 بمنزلة نهاية الانفراج الإقليمي والدولي الذي تمتّع به لبنان منذ عام 1990
لذا من الأفضل لبهاء تقويم ركائز الحريرية السياسية التي يمكنه إحياؤها إذا لزم الأمر. لقد كانت نقطة انطلاق الحريرية السياسية هي رعاية إعادة تأهيل بيروت بعد الغزو الإسرائيلي صيف عام 1982، ورعاية حوالي 36 ألف طالب وطالبة داخل لبنان وخارجه. فهل لديه الإرادة والوسائل لتوفير الدعم الإنساني والتعليمي والصحّي للمدارس والجامعات واللبنانيين الفقراء المتعثّرين؟ وهل يستطيع في الوقت نفسه بناء شبكة واسعة من العلاقات السياسية في المنطقة والعالم لمساعدة البلاد على الاستجابة للأزمات المتفاقمة مثل أزمة اللاجئين السوريين؟
المسألة الحاسمة الأخرى تتعلّق بماهيّة الرؤية الاقتصادية التي لديه لاقتصاد قائم على النقد. يعتمد لبنان في الغالب على الاقتصاد النقدي، مع نسبة من الوظائف غير الرسمية تبلغ 60% من إجمالي الوظائف. ارتفع الفقر بنسبة 55%، في حين بلغ معدّل التضخّم 221.3%، وانكمش الناتج المحلّي الإجمالي للفرد بنسبة 60% في السنوات الخمس الماضية، على غرار الانخفاض الذي شهده خلال الحرب الأهلية.
إقرأ أيضاً: الحريريّة السّياسيّة وعودة الابن الضّالّ (1/2)
السياسة هي فنّ الممكن والقابل للتحقيق. وآخر ما يودّ اللبنانيون بشكلٍ عامّ والطائفة السنّية بشكلٍ خاصّ سماعه هو الوعود الفارغة أو غير القابلة للتحقيق”.
*خليل جبارة هو خبير في الحكم والتنمية المحلّية والسياسة العامة. باحث وأكاديمي ومستشار حكومي. أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية (LAU) ومستشار أوّل لمرصد الأزمات في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB). شغل بين شباط 2014 وشباط 2019 منصب مستشار السياسات والشؤون الدولية لوزير الداخلية والبلديات، وشغل بين عامَي 2010 و2014 منصب رئيس وحدة الحكم الرشيد في مكتب رئيس الوزراء سعد الحريري. وفي كانون الأول 2008، عيّنته الحكومة اللبنانية عضواً في اللجنة الإشرافية الأولى للحملة الانتخابية. كان أيضاً مديراً لجمعية الشفافيّة اللبنانية – فرع الشفافية الدولية في لبنان بين عامَي 2005 و2008. وهو حاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي من جامعة إكستر في المملكة المتحدة.
*المصدر: موقع Now Lebanon باللغة الإنكليزية، ترجمة إيمان شمص.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا