الحريريّة السّياسيّة وعودة الابن الضّالّ (1/2)

مدة القراءة 6 د

هل يمكن لوعود بهاء الحريري بشأن مستقبل لبنان الذي تمزّقه الأزمات أن تتحقّق؟

 

في خضمّ الحرب في الجنوب، يتصاعد الجدل الساخن بين مختلف الفصائل السياسية بشأن توزيع السلطة في لبنان، الأمر الذي يثير القلق كثيراً لأنّه يتزامن مع جهود المبعوثين الأجانب والعرب لنزع فتيل التوتّرات ومنع نشوب صراع واسع النطاق في البلاد. وفي مثل هذا السياق المتوتّر، يمكن تفسير الدعوة إلى إعادة تقويم توازن القوى في لبنان على أنها نتيجة لهذه الجهود الدبلوماسية وانعكاس للقوّة العسكرية المتراكمة للحزب منذ حرب تموز 2006.

في الواقع، فإنّ إحدى السمات الثابتة للسياسة اللبنانية هي تباين عائلات النخبة، القديمة العهد إلى حدّ ما، المسؤولة عن الطوائف الدينية المختلفة في البلاد في ما يتعلّق بالولاءات أو التحالفات مع الجهات الفاعلة السياسية الخارجية. لقد انحازت هذه العائلات تاريخياً إلى جانب قوى إمبراطورية أو إقليمية متنافسة، بدءاً من الحرب العثمانية المملوكية عام 1516 وصولاً إلى الصراع الإيراني الغربي المعاصر.

ومن السمات الثابتة الأخرى أنّ ترتيب تقاسم السلطة في لبنان، أو العقد الاجتماعي الطائفي، يقوم على توافق الآراء والمعايير وليس على البيانات العلمية أو التعداد السكّاني. لكي تعمل هذه السلطة بشكل صحيح، لا بدّ نظرياً من تعاون جميع أعضاء النخبة السياسية. ونتيجة لهذه الازدواجية، ينبع خطر نشوب صراع في لبنان من عاملين أساسيَّين: الأوّل هو سياق إقليمي ودولي شديد التنافسية، والثاني هو ترتيبات مشوّشة أو معطِّلة لتقاسم السلطة. ولطالما كانت لدى الجهات الفاعلة المحلّية قدرة محدودة على التأثير في تفضيلات أو أولويات القوى الإقليمية والعالمية. بيد أنّ لها تأثيراً كبيراً على الجبهة الداخلية إمّا من خلال فرض بناء التوافق أو، في بعض الحالات، عن طريق تعمّد توليد الخلافات والتلاعب بالخلافات القائمة.

من هذا المنظور، يمكن فهم سبب اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990). فقد كانت تلك الحرب نتاج سياق إقليمي ودولي متوتّر وقرار بعض الفصائل السياسية مراجعة وإنفاذ صيغة جديدة لترتيبات تقاسم السلطة بعد الاستقلال.

ومن السمات الثابتة الأخرى أنّ ترتيب تقاسم السلطة في لبنان، أو العقد الاجتماعي الطائفي، يقوم على توافق الآراء والمعايير

زعامة رفيق الحريري

كان اتّفاق الطائف، الذي تمّ التوقيع عليه في عام 1989 واعتُبر أنّ له الفضل في إنهاء الحرب الأهلية، أكثر نجاحاً بكثير من غيره من المحاولات السابقة، مثال محادثات جنيف ولوزان في عامَي 1983 و1984، وذلك نتيجة الانفراج الإقليمي والدولي الذي أعقب انهيار الاتحاد السوفيتي وتحسّن العلاقات بين السعودية والنظام السوري. ساعد هذا الاتفاق على إعادة تطبيق العقد الاجتماعي الطائفي لكن بطريقة أكثر توازناً. أدّت سيطرة النظام السوري على لبنان حتى تشرين الثاني 2004 إلى تحييد العوامل الإقليمية والدولية وضمان إنفاذ اتفاق تقاسم السلطة الداخلي المعروف باسم الترويكا. وتمّ اعتبار انتشار الفساد في شكل مكافآت مالية وتعزيز الشبكات الزبائنية من خلال التوظيف في القطاع العامّ بمنزلة شرور لا بدّ منها أو حوافز لضمان الأداء السلس لنظام الترويكا.

لبنان

برز رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري باعتباره الشخصية الأكثر حيوية في فترة ما بعد الحرب، إذ راكم رأسمالاً سياسياً على مرّ السنين من خلال تحويل نفسه من رجل أعمال ناجح إلى محبّ للخير ثمّ زعيم سياسي في وقت لاحق. خلال هذا المسار، جمع ثروة وقائمة واسعة من الاتصالات والأصدقاء على الصعيدين الإقليمي والخارجي.

ظهرت معه الحريرية السياسية كظاهرة اجتماعية وسياسية جديدة أو أسلوب حكم يرتكز على أربع ركائز أساسية:

– مسيرة مهنية ناجحة في مجال الأعمال.

– علاقات شخصية قويّة مع القادة الإقليميين والدوليين.

– رؤية اقتصادية نيوليبرالية.

– شبكة مؤسّسات خيرية أو خيرية اجتماعية وتعليمية وثقافية وصحّية واسعة النطاق.

قُدّرت قيمة الأصول المادّية التي دُمّرت خلال 15 عاماً من الحرب الأهلية بنحو 25 مليار دولار. بين عامَي 1975 و1990، شهد لبنان انخفاضاً كبيراً في نصيب الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي بسبب الآثار المدمّرة للحرب الأهلية. ففي عام 1975، كان نصيب الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي في لبنان حوالي 1,795 دولاراً. وبحلول عام 1990، انخفض هذا الرقم إلى حوالي 703 دولارات، بخسارة نسبتها 61% تقريباً على مدار 15 عاماً.

شهد لبنان انخفاضاً كبيراً في نصيب الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي بسبب الآثار المدمّرة للحرب الأهلية

ارتكزت الرؤية الاقتصادية النيوليبرالية على مشروع تنمية حضرية واسع النطاق لإعادة إعمار لبنان، أُطلق عليه اسم مشروع أفق 2000: من عام 1995 حتى اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في عام 2005، بلغت القيمة الإجمالية للمشاريع المتعاقد عليها في إطار مشروع أفق 2000 حوالي 7.4 مليارات دولار. غير أنّ هذه الرؤية ارتكزت أيضاً على ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، وهو نموذج قائم بشكل كبير على الائتمان لتمويل إعادة الإعمار بعد الحرب وتحقيق استقرار العملة. فكان الاعتماد على التدفّقات المالية من الخارج والبنوك التجارية لشراء أذون الخزانة وسندات اليورو. وفي كثير من الحالات، حلّ المصرف المركزي محلّ المصارف التجارية كمشتري لهذه السندات.

*غداً في الحلقة الثانية: من اغتيال رفيق إلى محاولات بهاء

 

*خليل جبارة هو خبير في الحكم والتنمية المحلّية والسياسة العامة. باحث وأكاديمي ومستشار حكومي. أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية (LAU) ومستشار أوّل لمرصد الأزمات في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB). شغل بين شباط 2014 وشباط 2019 منصب مستشار السياسات والشؤون الدولية لوزير الداخلية والبلديات، وشغل بين عامَي 2010 و2014 منصب رئيس وحدة الحكم الرشيد في مكتب رئيس الوزراء سعد الحريري. وفي كانون الأول 2008، عيّنته الحكومة اللبنانية عضواً في اللجنة الإشرافية الأولى للحملة الانتخابية. كان أيضاً مديراً لجمعية الشفافيّة اللبنانية – فرع الشفافية الدولية في لبنان بين عامَي 2005 و2008. وهو حاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي من جامعة إكستر في المملكة المتحدة.

*المصدر: موقع Now Lebanon  باللغة الإنكليزية، ترجمة إيمان شمص.

 

لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…

مآلات الحرب على كلّ جبهاتها: سقوط المحور

لم تنتهِ بعد حرب الشرق الأوسط المتعدّدة الساحات والتسميات.. طوفان الأقصى والسيوف الحديدية والإسناد إلخ…. لذا لن تكون قراءة النتائج التي أسفرت عنها نهائية حاسمة،…