“كان لديه كلّ شيء، كلّ شيء تقريباً: قصر الإليزيه (أمامه) ثلاث سنوات في الحكم، أكثرية، من الأكيد أنّها نسبيّة، لكنّها أكثريّة، حزب يتطوّر، قاعدة ناخبة ضيّقة، لكنّها متراصّة، صورة مشوّهة، لكنّ لديه سلطة لا ينافسه عليها أحد”. تلك كانت حال الرئيس إيمانويل ماكرون قبل التاسع من حزيران كما وصفها رئيس تحرير صحيفة لوفيغارو. في تلك الليلة أعلن حلّ الجمعيّة الوطنيّة وأدخل البلاد في الفوضى والمجهول. الكلّ أجمع على ذلك. أراد ماكرون أن يقول الفرنسيون كلمتهم بعد فوز حزب التجمّع الوطنيّ في الانتخابات الأوروبيّة. قالوها بالأمس. تقدّم 66% منهم إلى صناديق الاقتراع وأعطوا حزب لوبان 34% من أصواتهم. هل سيعطونه أكثر في الدورة الثانية؟ الجواب نهاية الأسبوع!
لم تخالف نتائج الانتخابات الفرنسية استطلاعات الرأي. حصل التجمّع الوطنيّ اليميني على 33% من الأصوات. وحصلت “الجبهة الوطنيّة الجديدة” اليساريّة على 28% منها. وحزب ماكرون وحلفائه حصلوا على 20.7%. وحده الحزب الجمهوريّ، الذي تفجّر قبيل الانتخابات بسبب إعلان رئيسه التحالف مع حزب لوبان، خالف التوقّعات. حصل على 10.5% من الأصوات في حين كانت استطلاعات الرأي تشير إلى حصوله على نحو 6% منها. إلا أنّها ليست النسبة التي يمكن أن تُحدث فرقاً في المشهد الانتخابيّ، ولا في المشهد الفرنسيّ.
قرار ماكرون بحلّ الجمعيّة الوطنيّة كان مغامرة غير محسوبة أدخلت البلاد في مرحلة جديدة ربّما ستُفضي إلى فوضى أو شلل في الحكم
تخويف من تطرّفَين
يتقدّم المشهد في الانتخابات الفرنسية التشريعيّة تطرّفان:
– الأوّل يمينيّ هو “التجمّع الوطنيّ”. وقد تحالف مع رئيس الحزب الجمهوريّ إيريك سيوتي. وانضّمت إليهما ماريون مارشال، التي فصلها إيريك زمّور من حزبه “Reconquête” فعادت إلى حزب العائلة (هي حفيدة جان ماري لوبان).
– الثانيّ يساريّ هو حزب “فرنسا الأبيّة”. فهو يتقدّم المشهد في “الجبهة الوطنيّة الجديدة” على الرغم من انضمام “الحزب الاشتراكيّ – الساحة العامّة” الذي حلّ ثالثاً في الانتخابات الأوروبيّة وحصل على 14% من الأصوات.
أمام هذا المشهد المتطرّف سياسياً كان من الطبيعيّ ارتفاع منسوب الخطاب التخويفيّ من التطرّفَين.
بعد دقائق على إعلان النتائج أطلّت مارين لوبان ودعت الفرنسيين إلى قطع الطريق في الدورة الثانية لمنع وصول جان لو ميلانشون (زعيم فرنسا الأبيّة) و”الإسلام – اليساريّ” بحسب تعبيرها. جوردان بارديلا كرّر الخطاب ذاته مع التركيز على إعطائه الغالبيّة ليكون رئيس الحكومة المقبلة وليتمكّن من تنفيذ ما وعد به الفرنسيين.
من جهتها أحزاب “الجبهة الشعبيّة الجديدة” وأحزاب الوسط طلبت من المرشّحين والناخبين قطع الطريق أمام حصول “التجمّع الوطنيّ” على الغالبيّة. فطلبت من المرشّحين الذين حلّوا ثالثاً في الدورة الأولى الانسحاب لمصلحة المرشّحين المنافسين لمرشّحي “التجمّع الوطنيّ” بغضّ النظر عن الحزب الذي ينتمون إليه.
بعد دقائق على إعلان النتائج أطلّت مارين لوبان ودعت الفرنسيين إلى قطع الطريق في الدورة الثانية لمنع وصول جان لو ميلانشون و”الإسلام – اليساريّ” بحسب تعبيرها
“حماس” في الانتخابات
هل ينجح كلّ من الطرفين في منع الآخر من الحصول على الأغلبيّة؟
“الاتحاد الوطنيّ” الذي يضمّ “التجمّع الوطني” ورئيس الحزب الجمهوريّ قادر على ذلك. فهو كتلة متراصّة. تقدّمه في الدورة الأولى كما في استطلاعات الرأي سيشجّع ناخبيه على التزام التصويت له وعلى الإقبال بكثافة أكبر في الدورة الثانية.
في المقابل استمرّ الجدال والاتّهامات المتبادلة بين فريقي “الجبهة الشعبيّة الجديدة” وأحزاب الوسط على شاشات التلفزة حتى ساعات متأخّرة من اليوم الانتخابي الطويل. وهو ما يجعل من الصعب عليهم حشد قواعدهم الانتخابيّة للإقبال بكثافة على صناديق الاقتراح في الدورة الثانية والتزام التصويت للمرشّح المنافس لمرشّح “التجمّع الوطنيّ”، لسببين:
1- صحيح أن أحزاب الوسط واليسار دعت إلى انسحاب مرشّحها الذي حلّ ثالثاً. لكنّها لم تدعُ ناخبيها صراحة وبوضوح للتصويت للمرشّح المنافس لمرشّح “التجمّع الوطنيّ”. هذا ما فعله جان لوك ميلانشون زعيم حزب “فرنسا الأبيّة”.
2- غبريال أتال وإدوار فيليب، زعيم حزب “آفاق”، دعوَا قواعدهما الناخبة إلى التصويت “à la carte” للمرشّح المنافس للتجمّع الوطنيّ. فهما لا يريدان تجيير أصواتهما الى مرشّحي حزب “فرنسا الأبيّة” الذي رفض تصنيف حركة حماس إرهابيّة واتُّهم بمعاداة الساميّة.
قرار ماكرون بحلّ الجمعيّة الوطنيّة كان مغامرة غير محسوبة أدخلت البلاد في مرحلة جديدة ربّما ستُفضي إلى فوضى أو شلل في الحكم
هل تنقلب النتائج في 7 تمّوز؟
هل يتبدّل المشهد خلال الأيام الفاصلة عن الدورة الثانية في 7 تموز المقبل؟
الدوائر الانتخابيّة التي تأهل فيها ثلاثة مرشحّين بلغ عددها حتى كتابه هذه السطور بين 285 و315 من أصل 577 دائرة. وهي نسبة عالية مقارنة بالانتخابات السابقة. أي أنّ 55% من المقاعد ستشهد جولة إعادة بعد 5 أيّام بين ثلاثة مرشّحين، وفي 32% من الدوائر هناك مرشّحان فقط. أي أنّ 87% من الدوائر ستشهد انتخابات في الدورة الثانيّة. رغم ذلك تبدو إمكانية تبدّل المشهد ضعيفة. وهناك مؤشران على ذلك:
1- تأكيد الفرنسيين لرغبتهم في تغيير الطبقة الحاكمة واستياؤهم من إيمانويل ماكرون. في عام 2017 انتخبوه لأنّهم أرادوا التغيير والخروج من دائرة الثنائي في الحكم، اليمين الجمهوريّ واليسار الاشتراكي. أحبطتهم سياساته في الولاية الأولى. أعطوه فرصة ثانية بانتخابه لولاية ثانية في 2022. لكنّ طباعه الشخصيّة التي برزت خاصّة في إدارته للملفّات الإصلاحيّة جعلتهم ينفرون منه أكثر. “هو إنسان ذكيّ جداً. لكنّه مغرور ويعتدّ كثيراً بنفسه”، قال لي أحد المؤيّدين للحزب الجمهوريّ الذي رفض التصويت للتجمّع الوطنيّ.
2- تبدّل في المزاج الفرنسي تجاه المهاجرين والإسلام والأمن، وهي ملفّات تتصدّر خطاب اليمين المتطرّف في حملته الانتخابيّة. الفرنسيون يلاحظون أكثر فأكثر التبدّل الذي أحدثه المهاجرون في المجتمع الفرنسيّ على المستوى الاجتماعيّ والدينيّ. ولا يتردّدون في التعبير عن ذلك.
إقرأ أيضاً: انتخابات فرنسا: تفوّق اليمين المتطرّف وإنسداد سياسي وتشريعي
فرنسا تتغيّر… وأهلها خائفون
منذ عشرين عاماً لم أكن أسمع من الفرنسيين استياءهم من المظاهر الإسلاميّة في اللباس والعادات التي يظهر بها العديد من المهاجرين الأفارقة (العرب والسود). أمّا اليوم فهم يعبّرون عن ذلك صراحة. وأحياناً بصوت عالٍ. ولم يكن يشكّل الأمن هاجساً لهم. أمّا اليوم فنعم، خاصّة في مدن الضواحي المكتظّة بالطبقة الفقيرة والتي تنتشر فيها تجارة المخدّرات والممنوعات على أنواعها. “مرسيليا لم تعد كما كانت”، يقول العديد من الفرنسيين. وهو ما يقولونه عن مدن أخرى، بمن فيها العاصمة باريس.
قرار ماكرون بحلّ الجمعيّة الوطنيّة كان مغامرة غير محسوبة أدخلت البلاد في مرحلة جديدة ربّما ستُفضي إلى فوضى أو شلل في الحكم. والاحتمالان كبيران في حال عدم حصول أيّ من الأطراف على الأغلبيّة المطلقة. وهذا ما هو متوقّع. يبقى أنّ الخاسر الأكبر هو حزبه وتيّاره السياسيّ. “إنّه كالولد الذي لديه لعبة، فقام بكسرها”، قال أحد الفرنسيين.
لمتابعة الكاتب على X: