إذاً يكاد وجدان مَن حول “الحزب” يقول لبكركي: “لا نحتاج الغطاء لسلاحنا منكم. ولا حاجة لغطاء لسلاحنا من أحدٍ أصلاً. فأوقفوا سردية جَميلكم علينا. بل على العكس. نحنا من له عليكم جميل الحماية لكم ولكنائسكم، من سوريا إلى لبنان وصولاً إلى أبعد منهما”.
بالمقابل، يكاد لسان حال مَن حول بكركي يقول لـ”الحزب”: “ومن قال إنّنا نريد حماية سلاحك؟ ومن قال أصلاً إنّنا نقبلها؟!”. وصولاً إلى شطحاتٍ أبعد بلغت كتاباتٍ طَرَفيّة قصوى، من نوع “حلّ الدولتين” في لبنان الواحد.
معادلة صداميّة خطيرة تستند إلى مقاربتين مغلوطتين. وهو ما يجدر بحثه وتوضيحه.
المعضلة الأبرز بين الطرفين تكمن في تظهير مشكلة “بيئة بكركي” وكأنّها مع “المقاومة” ومع سلاح “المقاومة”.
والسبب هو أنّ هذه “البيئة” ترفع احتجاجها واعتراضها، عند وقوع أيّ مواجهة بين “الحزب” وإسرائيل.
وهذا خطأ ترتكبه البيئة المنتسبة إلى الصرح، ولو من دون إذن رسمي منه ولا تنظيم فعليّ.
وهو خطأ في التوقيت والشكل والمضمون. ذلك أنّه يسمح لخصومها كلّ مرّة بالربط بينها وبين “خدمة مصالح العدوّ”.
فيما الواقع والحقيقة أنّ المشكلة ليست مع “المقاومة”، ولا مع سلاح “المقاومة”، ولا حتى مع قرار فعلها ومرجعيّته وتوقيته وأدواته.
المشكلة هي في مكان آخر.
لا تنفكُّ ههنا تحضر معادلة الراحل جبران عريجي. وهي الأكثر توصيفاً للإشكالية القائمة.
كان يردّد أنّ في لبنان، مع “الحزب” وضدّه، فريقين مختلفين في كلّ جهة من الجهتين. ما مفاده بتعبيرات تفصيلية التالي:
– أوّلاً، مع “الحزب”، هناك من يحملُ الصاروخ، ومن يحمي الصاروخ، ليدافع عن لبنان بوجه العدوّ.
لكنّ هناك مع “الحزب” من يحتمي بهذا الصاروخ وبمن يحمله، ليحمل هو مسدّساً أو كاتماً أو خنجراً يستقوي بها من أجل سلطة أو بلطجة، أو من أجل مشروع سياسي أكبر من لبنان. وبالتالي لا يحتمله لبنان.
بعد نصف قرن، لم يصمد إلا لبنان الأصالة والثقافة والإشعاع والفرح. وذهب أبو جمال ونظامه
– ثانياً، وفي المقابل، هناك ضدّ “الحزب” في لبنان، من هو ضدّ ظواهر البلطجة والسيطرة والزعرنة وتدمير الدولة ومفهومها وثقافتها، إيماناً منه بلبنان، وحرصاً على “المقاومة” الحقيقية من هؤلاء، وحفاظاً عليها وعلى وظيفتها من أجل لبنان.
لكنّ هناك ضدّ “الحزب” أيضاً، من يتذرّع بوجود المسدّس وتفلّت الكاتم وتفشّي الخنجر ليستهدف الصاروخ و”المقاومة”، من أجل مشروع سياسي آخر، أصغر من لبنان، وأيضاً لا يتحمّله لبنان ولا يحتمله.
معضلة الفريق المتكوّن في بيئة بكركي، ومجدّداً ولو من دون إذنها ولا موافقتها، أنّه يزجُّ بنفسه وبها في هذه الإشكالية الملتبسة.
فيُظهرَ الصرح بما ومن يمثّل، وكأنّه ضدّ “المقاومة”. في حين أنّ بكركي في عمق موقفها، ضدّ استخدام “المقاومة” لإنهاء لبنان.
وهذا ما على بيئة بكركي أن تبلوره في خطابها: نعم نحن ضدّ إسرائيل. نعم نحن مع فلسطين وغزة والضفة ومع دولة فلسطينية سيّدة. ونعم نحن حتى مع مساندة الفلسطينيين، بكلّ ما يُفيد حقّهم في نضالهم، ولا يؤذي لبنان.
لبنان البلد المعلّق
لكن لكن لكن… ما علاقة هذه القضية بأن يصبح لبنان كلّه بلداً معلّقاً؟
ما علاقة فلسطين بأن تصبح “الدولة اللبنانية” محظورة بكلّيّتها في مناطق كاملة؟
ما علاقة “المقاومة” في أن تصير القوانين اللبنانية ممنوعة من التطبيق؟ قانون السير وقانون الملكية الشخصية وقانون البناء والتنظيم المدني وقانون البيئة والكسّارات وقانون الدفاع الوطني… وكلّ القوانين التي ترعى حياة المواطن اليومية؟
إذاً المشكلة ليست مع “مقاومة” إسرائيل. ولا حتى مع رفض وجودها ككيان غاصبٍ والعمل على إزالتها.
المشكلة في كيف يتجسّد هذا الشعار: اعتداء على مواطنٍ في مقهى في بيروت، ولا من يسأل. وسحلاً لسيّاح عربٍ في جرد جبيل، ولا من يجرؤ على شكوى. وتعدّياً على أملاك خاصة وعامة، ولا من يسمحُ بمراجعة قضاءٍ لاسترداد حقّ!
حتى أكثر من ذلك من أمثلة صادمة تبلغ بكركي كلّ يوم.
المسألة مجدّداً ليست فلسطين. بل لبنان. وليست مقاومة هناك. بل لا أدغال هنا. ولا صواريخ بركان وزلزال وأكثر منهما عبر الحدود
حتى تكوّن انطباعٌ خطير بأنّ المسألة ليست صدفة ولا مصادفة ولا سهواً ولا عفواً ولا عناصر غير منضبطة ولا خللاً في الضابطين وآليّات ضبطهم.
صار البعض يعتقد أنّ ما يجري في بيئة “الحزب” وباسم “المقاومة”، إنّما هو عمل مدروس مخطّط له وينفّذ منهجياً. بحيث تندثر الدولة، مفهوماً وثقافة ومؤسّسات. بعدها، من يؤمن أن لا حماية له إلا الدولة، ييأس ويهاجر.
ومن يتكيّفُ مع مفهوم اللادولة يبقى ويتأقلم ويخضع.
والأسوأ أنّ بعض تعبيرات الذباب الإلكتروني لا يُخفي ذلك. بل يتباهى به ويهدّد بمآلاته.
إذ قد يكتب علي فياض موسوعات ويتكلّم ساعات أكثر، في منتدى إبراهيم نجار أو في مؤتمر “التجدّد”، عن معادلاته الرائعة عن تبادليّة هواجس الوجود لجماعات لبنان، وتكامليّة ضماناتها الميثاقية.
لكنّ رصاصة قاتلة واحدة انطلقت من “أرعن” في الضاحية لتصيب رأس الطفلة الملاك نايا حنا في الحدت… تقول أكثر بكثير!
وهنا تكمن المعضلة الإشكالية الثانية، وأيضاً لدى الطرفين.
بيئة الحزب والايدلوجيا التاريخية
في بيئة “الحزب” أصوات وأبواق تواصلٍ لااجتماعي تحاول الإيحاء بأنّ المشكلة المطروحة ليست حياتية يومية. بل أيديولوجية تاريخية. عنوانها بحسب زعم هؤلاء أنّ المسيحيين في وجدانهم ليسوا ضدّ إسرائيل. بل ضمنياً معها. ولذلك هم ضدّ مقاومتها. ولذلك هم يختلقون أعذاراً وذرائع للتآمر على “المقاومة”، تحت شعار لبنان والدولة.
وفي سياق هذه الاختلاقات، يذهب أصحاب هذا الرأي إلى الاستخفاف بكلّ الكلام السابق.
يقولون إنّه لا يمثّل إلا أقلية محدّدة داخل جماعة، أي المسيحيين، باتت هي نفسها أقلّية في لبنان.
ويرتاح هؤلاء إلى إقناع أنفسهم بأنّهم الأكثرية الساحقة. فمعهم كلّ الشيعة بلا استثناء. ومعهم مجموعات سنّية، يتصوّرونها الآن تتضاعف مع إحياء “الحلف الخمينيّ الإخوانيّ” في قلب بيروت. ومعهم أكثرية درزية بدليل مواقف جنبلاط الأب.
وأيضاً معهم قسم مستردٌّ من التغييريين وثوار 17 تشرين. ذلك أنّ بين هؤلاء إسلاميين ويساريين لا يعاكسون قضية فلسطين. وإلّا يصير مهمّشاً في شارعه وبيئته، معزولاً انتخابياً ومحكوماً بنهاية مبكرة لتجربته النيابية القصيرة الجميلة!
في بيئة “الحزب” أصوات وأبواق تواصلٍ لااجتماعي تحاول الإيحاء بأنّ المشكلة المطروحة ليست حياتية يومية
هذا المنطق هو ما بلغ ربّما لحظة الذروة، حيت ذهب الأمين العام لـ”الحزب” إلى إشارة خفيّة إلى مقولة العدد والتعداد.
وهي إشكالية لا تقلّ خطورة وعطوبة عن الإشكالية الأولى.
رعد يرث أبو جمال..
فالمسألة مجدّداً ليست فلسطين. بل لبنان. وليست مقاومة هناك. بل لا أدغال هنا. ولا صواريخ بركان وزلزال وأكثر منهما عبر الحدود. بل سؤال بسيط: لماذا لا يستطيع نسيبٌ لصيقٌ لأبرز حليفٍ ماروني لـ”الحزب” أن يستردَّ أرضه المحتلّة قرب مطار بيروت؟!
والمثَل منطبقٌ على آلاف الناس والأمثلة والنماذج.
وفي معادلة كهذه، لا أحدَ من المسيحيين، أهل الكيان والسيادة، مع اللادولة. ولا أحدَ من السنّة، أهل الدولة واعتدالها، مع الفوضى. ولا أحد من الدروز، أبناء الانتظام والحدود، مع شريعةِ غابٍ بلا شريعة ولا حدود.
وهنا، حتى لا أحدَ من شيعة الإمام الصدر ومبدأ نهائية الكيان اللبناني، مع انتهاء لبنان والكيان إلى اختزال بدرّاجة نارية، خارقة لكلّ قانون، باسم فلسطين وقدسية فلسطين!
لم يكن ينقص هذا الالتباس بين المنطقين والطرفين غير كلام رئيس كتلة “الحزب” النيابية، محمد رعد، عن “النزقين من اللبنانيين الذين يريدون أن يرتاحوا وأن يذهبوا إلى الملاهي وإلى شواطئ البحار ويريدون أن يعيشوا حياتهم. هذه النفعية الأنانية هي التي تدمّر مصالح الأوطان والمجتمعات، وهي وراء هذه الجرعات والأكاذيب والتلفيقات والشائعات التي تبتل بها وسائل التواصل الاجتماعي”.
كلامٌ أعاد إلى ذاكرة أحد أبرز العارفين بلبنان الأصيل، كلاماً مماثلاً لعبد الحليم خدّام قبل نحو نصف قرن، عن “لبنان الكباريه”، بمواجهة نظام أبي جمال بطل الصمود والتصدّي.
صار البعض يعتقد أنّ ما يجري في بيئة “الحزب” وباسم “المقاومة”، إنّما هو عمل مدروس مخطّط له وينفّذ منهجياً
بعد نصف قرن، لم يصمد إلا لبنان الأصالة والثقافة والإشعاع والفرح. وذهب أبو جمال ونظامه.
أكثر ما يمكن أن يظلم “المقاومة” و”حزبها”، وأقسى ما يسيء إلى محمد رعد شخصياً، والد الشهيد، أن يظهروا في بعض تعبيراتهم غير الموفّقة، وكأنّهم ورثة عبد الحليم خدّام!
ما الحلّ؟!
إقرأ أيضاً: وقائع إشكاليّة “الحزب” وبكركي: لا نحتاج غطاءكم … ولا نحتاج حمايتكم!! (1)
مجدّداً وتكراراً، رئيسٌ للجمهورية فوراً، يُجسّد اقتراع “الحزب” لمصلحة لبنان النهائي، الدولة والمؤسّسات والتوازن والشراكة والقانون والمحاسبة والانتظام العامّ وثقافة العصر وحضارية العروبة والإصلاح الجذري والجدّي والشامل.
وحده لبنان كهذا، برئيسٍ كهذا، يحمي المقاومة ولبنان، ظهراً وصدراً!
كلّ الباقي نحرٌ أو انتحارٌ مقنّعان ومؤجّلان.
لمتابعة الكاتب على X: