لم يأتِ الكاردينال بارولين الى لبنان بدعوة من الدولة اللبنانية، ولا حتى من الكنيسة المارونية. قرار الزيارة اتّخذه البابا فرنسيس نفسه، وذلك انطلاقاً من قلقه على لبنان دوراً ومستقبلاً. ومع ذلك كان لا بدّ من إيجاد مبرّر شكليّ للزيارة، فكانت الدعوة من “جمعية فرسان مالطة”.
لم يحمل الكاردينال حلّاً ولا حتى مقترحات حلّ. صحيح أنّه كان مستمعاً، إلا أنّه حمل نصائح بالمحافظة على وحدة لبنان ودوره، ولذلك استمع كثيراً، وسجّل الكثير من الملاحظات والآراء والأفكار، وحملها معه إلى الكرسي الرسولي في الفاتيكان. لم تكن الآراء التي استمع إليها جديدة عليه، وهو الملمّ بعمق منذ عهد البابا الأسبق القدّيس يوحنّا بولس الثاني بقضايا لبنان ودوره. وحتى اللقاء الذي جرى ترتيبه على عجل في بكركي مع رؤساء الطوائف الإسلامية والمسيحية (والذي تغيّب عنه المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى) لم يبحث في عمق المشكلة أو في المواقف منها. اتّخذ اللقاء طابعاً اجتماعياً أكثر منه سياسياً. وعرض كلّ مرجع ديني في مداخلة مرتجلة ومحدودة بدقائق معدودة رؤيته للوضع العامّ. تحدّث بعضهم باللغة العربية وبعضهم الآخر بالفرنسية وبالإنكليزية. أمّا الكاردينال الذي يجيد الإيطالية والفرنسية والإنكليزية فقد احتاج إلى مترجم من أركان السفارة الفاتيكانية في لبنان ليترجم له نصّ المداخلات باللغة العربية.
نقد ذاتيّ لـ”لبنان الرّسالة”
استمع الكاردينال بارولين إلى نقد ذاتي يتعلّق بدور “لبنان الرسالة” كما سمّاه البابا الأسبق يوحنّا بولس الثاني. وهو نقد يدور حول الفرص الضائعة التي أوصلت لبنان إلى ما هو عليه اليوم:
– فرصة صدور وثيقة المجمّع الفاتيكاني الثاني (1965) التي فتحت أبواب الكنيسة الكاثوليكية الأمّ على الإسلام وعلى الكنائس الأرثوذكسية والإنجيلية الأخرى. ونظراً للطابع الإسلامي – المسيحي ولتعدّد الكنائس في لبنان، فقد كان مهيّأ ليلعب دور قاعدة انطلاق هذا الانفتاح الجديد، وهو ما لم يفعله، إذ غرق في وحول الصدام مع حركة المقاومة الفلسطينية المسلّحة.
في الوقت الذي تفتح فيه هذه المستجدّات أبواباً واسعة أمام لبنان لأداء دوره كدولة رسالة، ترتفع أصوات الانعزال والانكماش على الذات
– فرصة مبادرة البابا يوحنّا بولس الثاني إلى تنظيم سينودس خاصّ (1993) حول لبنان ودوره في محيطه العربي بمشاركة المرجعيات الإسلامية، وذلك للمرّة الأولى في تاريخ لقاءات السينودس.
– فرصة مبادرة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى تنظيم سينودس حول الشرق الأوسط (2010) نادى بالحرّية الدينية وبالمساواة في المواطنة، وحرص على إطلاق وثيقة الإرشاد الرسولي من لبنان نفسه.
– فرصة صدور وثيقة الأخوّة الإنسانية (2019) عن البابا فرنسيس وإمام الأزهر الشيخ أحمد الطيّب لتكون أساساً جديداً لتجديد الدور اللبناني.
– فرصة صدور الوثائق الإسلامية الجديدة (بعد موجة الإرهاب التي اجتاحت المنطقة) والتي أسقطت شعارات الأقلّية والأكثرية ورفعت شعارات المواطنة والحرّيات الدينية والعيش الواحد.
ارتفاع أصوات الانعزال
في الوقت الذي تفتح فيه هذه المستجدّات أبواباً واسعة أمام لبنان لأداء دوره كدولة رسالة، ترتفع أصوات الانعزال والانكماش على الذات، بما يؤدّي الى التخلّي عن الدور الذي توفّره له هذه المستجدّات والمتغيّرات.
انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية ليس مجرّد حاجة لبنانية داخلية. لكنّه حاجة عربية لمواكبة هذه المستجدّات التي توفّر له مسرحاً لأداء الدور التاريخي المطلوب منه بحكم تكوينه التعدّدي. ومن هنا اهتمام الفاتيكان بلبنان وبدوره ورسالته، وهو الاهتمام الذي عكسته زيارة الكاردينال بارولين.
غادر سكرتير الدولة الفاتيكانية لبنان مثقلاً بأسئلة كثيرة حول أسباب تعثّر انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان. وهو في الأساس لم يأتِ بأجوبة معلّبة وجاهزة حول العديد من هذه الأسئلة.
كلّ ما جاء به هو التمنّيات، وإسداء النصائح، مع محاولة لمدّ جسور الاتصال والتواصل المقطوعة أو المتصدّعة بين أبناء الكنيسة الواحدة، والوطن الواحد. حمل معه إلى الكرسي الرسولي صورة أعمق وأشمل وأكثر موضوعية حول حقيقة الوضع في لبنان وبين أبناء الكنيسة الواحدة.
لم يأتِ بارولين الى لبنان بدعوة من الدولة اللبنانية ولا حتى من الكنيسة المارونية قرار الزيارة اتّخذه البابا فرنسيس نفسه
بعد أن يضع هذه الصورة أمام البابا فرنسيس (الذي يتألّم بسبب عدم تمكّنه حتى الآن من القيام بزيارة رعوية للبنان) تحدّد الخطوة التالية.
هل تكون خطوة مباشرة مع المرجعيات الروحية والسياسية المسيحية؟ أو عبر دول ذات تأثير على الوضع اللبناني؟
إقرأ أيضاً: لا مبادرة فاتيكانيّة وتكتّمٌ على “معطّلي” الرّئاسة!
أيّاً تكن الإجابة، فإنّ الكاردينال بارولين، رجل المهمّات الدقيقة في الفاتيكان، يتمتّع بثقة البابا فرنسيس ومحبّته. وهو يحبّ لبنان ويفهم بعمق طبيعة تكوينه وحساسيّات هذا التكوين. كما يدرك أهميّة رسالته وضرورة إنقاذ هذه الرسالة حتى من اللبنانيين أنفسهم.