طهران لواشنطن: نريد حصصنا في المنطقة

2024-06-25

طهران لواشنطن: نريد حصصنا في المنطقة

في نيسان عام 2016 نشر الصحافي الأميركي جيفري غولدبرغ في صحيفة “The Atlantic” الأميركية مقالاً مثيراً للجدل بعنوان “عقيدة أوباما”. اعتمد الكاتب على سلسلة مقابلات كان أجراها في أوقات متفرّقة مع الرئيس الأميركي باراك أوباما استنتج منها العناوين الرئيسية لسياسة الرئيس الديمقراطي في علاقات الولايات المتحدة مع العالم. ولم تكن تلك “العقيدة” نتاج تحليل للكاتب فقط، بل نقلٌ حرفيّ لتصريحات وآراء الرئيس ورؤاه، وخصوصاً في مسائل الشرق الأوسط.

 

نُشرت “العقيدة” بعد 8 أشهر من إبرام مجموعة الـ 5+1 (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، الصين، روسيا) مع إيران اتّفاقاً بشأن برنامجها النووي، في فيينا في 14 تموز 2015 تحت مسمّى “خطّة العمل الشاملة المشتركة”. ولم يكن هذا الاتفاق ليرى النور إلا بعد مفاوضات خلفيّة، عُقد معظمها في العاصمة العُمانية مسقط، بين الولايات المتحدّة وإيران، وهو ما جعل من اتفاق فيينا المتعدّد الأطراف واجهة للصفقة الحقيقية التي أُبرمت بين واشنطن وطهران.

في فيينا كانت البداية

أثار اتفاق فيينا غضباً لدى المنطقة لأنّه جاء فوقيّاً من دون استشارة الدول العربية، لا سيما الخليجية المعنيّة مباشرة بالتهديدات التي يشكّلها البرنامج النووي على أمنها، ومن دون الأخذ بالاعتبار هواجس المنطقة ومخاوفها. كما أنّ اتفاق “تطبيع” علاقات إيران مع الولايات المتحدة والعالم الغربي، وفق روحية الاتفاق، جاء في وقت كانت تتصاعد فيه خلافات المنطقة مع إيران.

لقد ظهر من خلال “فيينا” أنّ الولايات المتحدة باتت تعتبر أنّ علاقاتها الجديدة مع إيران التي تناصبها العداء، على الأقلّ في المواقف المعلنة، منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، هي أولوية في المنطقة ولو على حساب بلدان أخرى ربطتها بها علاقات قديمة وتاريخية واستراتيجية. وبدا من “صفقة مسقط” التي أثمرت الاتفاق النووي أنّ واشنطن تؤهّل طهران لتكون شريكاً أساسيّاً للولايات المتحدة على منوال ما كانت عليه في عهد الشاه محمد رضا بهلوي.

 واشنطن منذ فضيحة “إيران غيت” عام 1985، وصولاً إلى صدمة “11 أيلول” آثرت التعاقد مع طهران والتعامل مع أمرها الواقع

كشفت صفقة فيينا بالنصّ والبنود والشروط تحوّلاً في عقيدة الولايات المتحدة حيال الشرق الأوسط عامّة، وإيران خاصّة. بيد أنّ “عقيدة أوباما” فضحت استناد هذا التحوّل إلى موقف سلبي للرئيس الأميركي من السعودية ودول الخليج من جهة، وإلى إعجاب بالحالة الإيرانية من جهة أخرى. فلم يبذل أوباما أيّ جهد لتبرير “اضطرار” إدارته إلى إهمال مصالح حلفاء الولايات المتحدة في مجلس التعاون الخليجي، لا بل أظهرت آراؤه أحكاماً مسبقة وتبسيطاً في قراءة السّمة المعقّدة للمنطقة.

عندما نهل أوباما من بوش

كان مستغرباً أن يصدر عن الرئيس الديمقراطي اليساري ما يفضح تأثّره بتيارات فكرية حملها المحافظون الجدد في الولايات المتّحدة. راجت في أوساط الفكر السياسي في واشنطن إثر اعتداءات 11 أيلول 2001 تيارات معادية للحالة “السنّيّة” في العالم على اعتبار أنّها مسؤولة عن إنتاج الإرهاب الذي مثّله تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن. وطال هذا العداء السعودية بسبب مشاركة 15 سعوديّاً في العملية الإرهابية. صحيح أنّ مصالح الولايات المتحدة تعرّضت منذ الثمانينيّات لاعتداءات شرسة (تفجير السفارة الأميركية ومقرّ المارينز في لبنان مثالاً) نُسبت إلى “الإرهاب الشيعي”، وفق الاتّهامات الأميركية، الذي تحرّكه إيران، غير أنّ واشنطن، منذ فضيحة “إيران غيت” عام 1985، وصولاً إلى صدمة “11 أيلول”، آثرت التعاقد مع طهران والتعامل مع أمرها الواقع بحيث لعبت دور الشريك المتواطئ في إسقاط نظام طالبان في أفغانستان عام 2001 ونظام صدام حسين في العراق عام 2004.

أثار اتفاق فيينا غضباً لدى المنطقة لأنّه جاء فوقيّاً من دون استشارة الدول العربية لا سيما الخليجية المعنيّة مباشرة بالتهديدات

من تلك الخلفيّة وتلك العقائد الأصولية الأميركية (وبعضها ديني عبّرت عنه مواقف للرئيس الأميركي جورج بوش الابن) نهل أوباما عقيدته. تحدّث غولدبرغ في مقاله عن أنّ “موظّفي أوباما في مجلس الأمن القومي يذكّرون مراراً بأنّ غالبية من قاموا بهجمات 11 أيلول ليسوا إيرانيين، بل سعوديون”. وفي بعض ما تحدّث عنه أوباما لومٌ للخليجيّين وتفهّمٌ للإيرانيين. ولئن بقي يتحدّث عن السعوديين بصفتهم “أصدقاء”، غير أنّه نصحهم بأن “يتشاركوا الشرق الأوسط مع الإيرانيين”. قال بشكل دقيق إنّ “التنافس بين السعوديين والإيرانيين، الذي ساعد على تغذية الحروب بالوكالة والفوضى في العراق وسوريا واليمن، يتطلّب منّا أن نقول لأصدقائنا وللإيرانيين أنّهم يجب أن يجدوا طريقة لمشاركة الجيرة”.

واشنطن

منذ “عقيدة” الرجل عام 2016 جرت مياه كثيرة، منها أنّ واشنطن انسحبت من اتفاق فيينا بعد عامين من تلك العقيدة على يد الرئيس الجمهوري دونالد ترامب. وقبل أكثر من عام أبرمت السعودية وإيران اتفاقاً في بكين برعاية الصين. جرى ذلك في 10 آذار 2023. تحسّن مُذّاك تخاطب البلدين وخفّت الحملات الإعلامية المتبادلة وجرى فتح السفارات وبعث السفراء. غير أنّ الأمر لم يغيّر شيئاً من سياسة التمكين والنفوذ التي تمارسها إيران في المنطقة وتعمل على تمدّدها. والواضح أنّ طهران تنشد تحقيق الجانب الخفيّ من صفقة فيينا حتى لو بدا “الاتفاق حبراً على ورق”، على حدّ تعبير رافائيل غروسي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرّية، لجهة حصولها على الحصص المناسبة داخل الشراكة التي اقترحها أوباما على السعوديين.

تأخذ طهران على الولايات المتحدة انسحابها من الاتفاق النووي، فعملت على إسقاط القيود بشأن برنامجها النووي، وهو ما يقرّبها من القنبلة النووية، لكنّها عملت بدون حرج على تنفيذ ما أتاحه هذا الاتفاق من تمدّد في المنطقة جرى بالشراكة حيناً وبالتواطؤ حيناً آخر مع الولايات المتحدة وفق روحية ما بين سطور “فيينا” و”عقيدة أوباما”.

فيما تطالب طهران واشنطن بحصّتها (ربّما المتّفق عليها منذ فيينا) في المنطقة فإنّها غير معنيّة برأي أهل المنطقة بشأن تلك الحصّة العتيدة

هنا يكمن خلاف واشنطن وطهران. ففي 13 حزيران الجاري شرح وزير الخارجية الإيراني بالإنابة، علي باقري كني، جوهر الأمر وحيثيّاته. أعلن في مؤتمر صحافي جمعه مع مستشار الأمن القومي العراقي أنّ “خلافات أميركا مع إيران ترجع للحصّة التي خصّصوها لنا. نحن لم نقبل بذلك، ونسعى إلى الحصول على حصّتنا في المنطقة”. لم يكن في الأمر زلّة لسان، بل إعلان من قلب العراق عن استراتيجية تفسّر مناورات إيران في امتلاك قدرات لتهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيقَي باب المندب وهرمز وتسخين وتبريد الجبهات في المنطقة. يجري ذلك من دون أن ينقطع التواصل بين واشنطن وطهران، وبعضه معلن ورسمي ومباشر.

إقرأ أيضاً: الجنوب وموطئ قدم إيران في المتوسّط

تمضي إيران في فتح صفحة تقارُب مع دول المنطقة. تحقَّق ذلك مع السعودية والإمارات وبقيّة دول الخليج، وهي في حالة حوار مع مصر. وفيما تطالب طهران واشنطن بحصّتها (ربّما المتّفق عليها منذ فيينا) في المنطقة، فإنّها غير معنيّة برأي أهل المنطقة بشأن تلك الحصّة العتيدة. وإذا ما تقصّد باقري كني بعث رسالة إلى الأميركيين من بغداد تطالب واشنطن بحصص إيرانية، فإنّه يُبلغ بلدان المنطقة أيضاً وبشكل صريح بأنّ إيران تنفّذ نصائح أوباما لهم بمشاركة الشرق الأوسط، لكن وفق حصّص تتحدّد في ومع واشنطن، وما على المنطقة إلا التسليم بهذا القدر.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

سقط بايدن… فاستقبل الحزب وساطة ألمانيّة

يضع الغياب الأميركي، سياسياً على وجه التحديد، إسرائيل و”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران وجهاً لوجه في لبنان. تكرّس الغياب الأميركي مع السقوط الذريع للرئيس جو بايدن…

من أشعل فتنة سوريّة تركيّة.. على مشارف لقاء الأسد – إردوغان؟

بعد ساعات فقط على تبادل الرسائل السياسية الانفتاحية بين تركيا وسوريا، وبين بشار الأسد ورجب طيب إردوغان، تحرّكت أيادٍ خفيّة في مدن تركية، أبرزها قيصري،…

خريف “الماكرونيّة” المبكر: فرنسا تنشغل بنفسها

كان واضحاً منذ اللحظة الأولى أنّ الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة مغامرة غير محسوبة العواقب، خاضها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من دون أن يقدّم تفسيراً…

سلوك الحزب في لبنان وسوريا يمنع شطب تصنيفه إرهابيّاً؟

فوجئ كُثُر بإعلان الأمين العامّ المساعد للجامعة العربية السفير حسام زكي السبت الماضي بأنّ الجامعة لم تعد تعتبر الحزب إرهابياً. فالقرار لم يصدر عن مجلس…