تتدافع التحرّكات هذا الأسبوع في اتّجاه إسرائيل ولبنان من أجل تدارك مخاطر توسيع الحرب. لا استعداد بين الدول الكبرى، الحليفة أو الصديقة للدولة العبرية بمعظمها، لتحمّل كلفتها الباهظة على الأصعدة كافّة. بعد الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، حطّ أمين سرّ دولة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين في بيروت ليمكث 5 أيام. ستتبعه وزيرة خارجية ألمانيا أنالينا بيربوك بعد انتقالها أمس إلى إسرائيل. وزير خارجية بريطانيا ديفيد كاميرون يمهّد لمسعى ما.
يبقى دور قطب دولي وازن هو روسيا، خافتاً، لانخفاض قدرته على الضغط على إسرائيل، فيما يكتفي بالنصائح للحزب. فموسكو رفضت منذ البداية حرب الدولة العبرية ضدّ غزّة، وسعت مرّات لإصدار قرار عن مجلس الأمن بوقف النار فقابلتها واشنطن بالفيتو. فموقفها وردّة فعل الغرب يخضعان لسياق صراعه معها في أوكرانيا.
صرخة الأمين العام للأمم المتحدة بأنّ “العالم لا يتحمّل تحوّل لبنان إلى غزة أخرى”، تختزل المخاوف الدولية. قال غوتيريش: “خطوة واحدة متهوّرة، وسوء تقدير واحد، يمكن أن يؤدّيا إلى كارثة تتجاوز الحدود، وبصراحة، تتجاوز التوقّعات”.
ومثلما تنطبق عبارة “تتجاوز (الحرب) التوقّعات” على هواجس دول غربية، تنعكس أيضاً على المخاوف الروسيّة. والعارفون بما يؤرق موسكو ينقلون عنها موقفها كالآتي:
خوف موسكو من إقحام طهران لسوريا
– أيّ توسيع للحرب مع لبنان يعني فتح إيران جبهات أخرى في اليمن والعراق، إضافة إلى جبهة شمال إسرائيل والجنوب. وهذا يشمل الجبهة السورية.
سيتصاعد الصراع مع إيران على النفوذ الأمنيّ والاقتصادي والديمغرافي الذي تجلّى في محطّات سابقة
– صحيح أنّ موسكو مع دول أخرى (عُمان ودولة الإمارات) نجحت في إقناع بشار الأسد بالابتعاد عن حرب غزة، لكنّها تدرك كما يقول العارفون في دمشق أنّه في حال توسّع الحرب لن تكون الكلمة للأسد بل لإيران وميليشياتها. آخر الأدلّة على ذلك كان في الأسبوع الماضي حين سقطت مسيّرة إسرائيلية في مدينة “البعث” في القنيطرة، فالبيان الصادر في هذا الصدد أنّ الحزب استولى على الطائرة ونقلها إلى أحد مراكزه لدراستها وتحليلها. اللافت أنّ الإعلام السوري نشر الخبر، في ظلّ تجاهل كامل لأيّ دور للسلطات السورية في حدَثٍ وقع على التراب السوري.
– في حال توسّع الحرب سيواجه الغرب استخدام إيران الجبهة السورية. وأميركا وإسرائيل تواصلان استهداف البنية التحتية والبشرية الموالية لطهران في بلاد الشام. آخر الحوادث قصف مواقعها في مدينة البوكمال على الحدود العراقية السورية السبت الماضي، وردّ الميليشيات العراقية بقصف الوجود الأميركي بالتنف.
الخشية من سقوط النّظام والفوضى
– فتح سائر الجبهات من ضمن معادلة وحدة الساحات سيلحق دماراً بسوريا ويتسبّب لها بضربات من إسرائيل ودول التحالف بقيادة أميركا. الخشية هي أن يؤول نظام الأسد الضعيف إلى السقوط مع إقحام بلاد الشام في الحرب، مع مزيد من تفكيك مؤسّسات الدولة. فسوريا ستتحوّل في هذه الحال إلى ساحة حروب بين المجموعات المسلّحة، ويتعمّق تقاسمها بين الدول النافذة، مع انهيار مؤسّسات الدولة. وهذا يمسّ بأمن القوات الروسية الموجودة في مناطق عدّة، منها القنيطرة على الحدود مع الجولان المحتلّ. بذلك يتراجع إمساك روسيا بالميدان السوري.. وهذا يفقد موسكو أهميّة موطئ القدم الذي كسبته على شاطئ البحر الأبيض المتوسط.
روسيا أكثر الدول تأييداً لحلّ الدولتين، وتدعو إلى مؤتمر دولي لهذا الغرض على الرغم من الرفض الإسرائيلي
المنافسة مع طهران والاحتكاك مع أميركا
– سيتصاعد الصراع مع إيران على النفوذ الأمنيّ والاقتصادي والديمغرافي الذي تجلّى في محطّات سابقة. على الرغم من تحالف الدولتين فإنّ روسيا دخلت سوريا لإنقاذ النظام من إرهاب “داعش” والتطرّف وليس لمحاربة إسرائيل كما تفعل طهران. الشركات الروسيّة تتنافس على الدور الاستثماري مع الشركات الإيرانية. تعتبر موسكو أنّ تدخّلها في عام 2015 أعاد دمشق إلى الخارطة الإقليمية والدولية. أمّا إيران فدخلتها لإلحاقها بمشروعها الإقليمي. وتتمايز موسكو في تشجيعها المتواصل لإعادة النازحين السوريين، عن طهران غير المتحمّسة لذلك. وتعارض التغييرات الديمغرافية التي تجريها طهران، نظراً إلى انعكاساتها السلبية على دورها وعلاقتها بالمكوّن السنّي. وهناك اعتقاد في المقابل أنّ الحرب ضدّ لبنان قد تفرض على النازحين الموجودين على أراضيه الهرب من ويلاتها والعودة إلى وطنهم. وهذا بذاته يطرح مشكلة استيعابهم في مناطق السيطرة الإيرانية.
– على الرغم من اعتقاد مطّلعين سوريين أنّ طهران تستوعب صعوبة إقحام سوريا، فإنّ الجانب الروسي يحسب حاجتها إلى إمداد الحزب بالسلاح عبرها. ولهذا محاذير إذا تدخّلت أميركا للحؤول دونه، وأبرزها احتمال حصول احتكاك روسي أميركي تتفاداه الدولتان حتى في أوكرانيا.
حدود الضّغط على إسرائيل
يقابل كلّ ذلك محدودية قدرة موسكو على التأثير لدى فريقَي الحرب:
1- علاقتها مع إسرائيل تراجعت بفعل حرب غزة خلال الأشهر التسعة الماضية، يضاف إليها موقف الدولة العبرية المنحاز إلى أوكرانيا. ومع ذلك تواصل الدبلوماسية الروسيّة دعوة إسرائيل التي باتت تعتبرها طرفاً، إلى وقف الحرب. وتدعوها عبر القنوات الدبلوماسية إلى عدم الإقدام على مغامرة الحرب ضدّ الحزب ولبنان:
– سعت موسكو منذ تشرين الأول الماضي إلى وقف النار في غزة خلافاً لرفض تل أبيب ذلك حتى اللحظة.
المصادر القريبة من دوائر القرار في موسكو تلفت إلى أنّ بوتين لم يقُل إنّه قرّر تزويد خصوم الغرب بتلك الأسلحة
– روسيا أكثر الدول تأييداً لحلّ الدولتين، وتدعو إلى مؤتمر دولي لهذا الغرض على الرغم من الرفض الإسرائيلي. سبق لسفيرة إسرائيل في موسكو أن اعترضت في لقاء في الخارجية الروسية على “المواقف الشخصية” للسفير الروسي في الأمم المتحدة. وانتقدت تضامنه مع الجانب الفلسطيني وتكراره الدعوة إلى قيام دولة فلسطينية. ردّ عليها وزير الخارجية سيرغي لافروف بأنّ السفير في نيويورك “يمثّل الاتحاد الروسي. وتأييدنا للدولة الفلسطينية يعود إلى اعتراف موسكو بها أيام الاتحاد السوفيتي. وبالتالي فإنّه من تقاليد وأدبيّات السياسة الخارجية الروسية”.
– سبق أن دانت موسكو عملية حماس في 7 أكتوبر، “لكنّ ردّ الفعل الإسرائيلي عليها كان ممارسة الإبادة الجماعية”.
استبعاد الأسلحة الرّوسيّة للحزب؟
2- بموازاة معطيات أوساط في محور الممانعة عن تزويد روسيا الحزب بأسلحة دقيقة وصواريخ فعّالة، يستبعد القريبون من دوائر القرار في موسكو ذلك. حتى صواريخ “كورنيت” الروسيّة التي استخدمها الحزب في “مجزرة الميركافا” في حرب 2006 حصل عليها من سوريا حسب هؤلاء. والنسخة من هذه الصواريخ المضادّة للدروع بات يحصل عليها من الصناعة الإيرانية بعدما طوّرتها طهران. ويستبعد هؤلاء التكهّنات بأنّ روسيا زوّدت طهران بأسلحة نقلتها إلى الحزب في المواجهة مع إسرائيل.
استندت التكهّنات في هذا الصدد إلى تلويح الرئيس فلاديمير بوتين بتسليح أعداء الغرب بالصواريخ البعيدة المدى. ردّ بهذا التهديد على تسليم أميركا ودول أوروبية صواريخ تتيح قصف العمق الروسي، كما لمّح بعض الأوروبيين والرئيس جو بايدن. لكنّ المعطيات أفادت بأنّه لم يُسمح لأوكرانيا باستخدام الأسلحة الأميركية سوى ضمن منطقة روسيّة محدّدة على الحدود مع أوكرانيا. واشتكت كييف من ذلك.
المصادر القريبة من دوائر القرار في موسكو تلفت إلى أنّ بوتين لم يقُل إنّه قرّر تزويد خصوم الغرب بتلك الأسلحة، بل قال “سنفكّر في الأمر”. وهذا ما فتح باب التكهّنات.
سعت موسكو منذ تشرين الأول الماضي إلى وقف النار في غزة خلافاً لرفض تل أبيب ذلك حتى اللحظة
“النّصائح لا الضّغوط” لحماس وإيران والحزب
3- يقتصر دور موسكو في شأن حرب غزة على متابعة مفاوضات الهدنة ووقف النار عبر قيادة “حماس” والسلطة الوطنية الفلسطينية. وهي تطّلع على التفاصيل أيضاً من الوسيطين القطري والمصري، وتقدّم النصائح حيث ترى مناسباً. ويتولّى المهمّة لافروف أو نائبه الواسع الخبرة بالملفّ الفلسطيني الإسرائيلي ألكسندر بوغدانوف.
إقرأ أيضاً: الجيش الإسرائيلي يتمرّد على نتنياهو بهدنة جنوب غزّة؟
– حول مخاطر توسيع الحرب على جبهة جنوب لبنان تكتفي موسكو بتقديم النصائح لطهران والحزب بتفادي الانفجار. فهي لا تمارس الضغوط في وقت تحتاج إلى تضامن دول معها في صراعها مع أميركا وأوروبا في أوكرانيا. بل تعتمد لغة المصالح بالتشديد على أن لا مصلحة إيرانية في توسّع الحرب لأنّ لبنان سيتضرّر منها، وكذلك سوريا والحزب. ويجري ذلك في اتصالات الخارجية مع طهران وفي لقاءات السفير الروسي في بيروت ألكسندر روداكوف مع قيادة الحزب. لكنّ موسكو تتابع وتراقب أيضاً مستجدّات الحوار الإيراني الأميركي الجاري عبر عُمان أو بغداد وتطّلع على وقائعه.
لمتابعة الكاتب على X: