ازداد ذعر اللبنانيين عندما هدّد زعيم الحزب المسلّح دولة قبرص. ذلك أنّها الدولة الوحيدة في جوار لبنان التي لم تحدث معها أزمة حقيقية من قبل. وقد كانت دائماً ملجأً للّبنانيين ومعبراً إلى العالم. وقبرص المتوسطيّة دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، ولذلك ستزداد دول الاتحاد ابتعاداً عن لبنان، وهناك على أيّ حال أزمة تصاعد بين لبنان والاتحاد الأوروبي بسبب النازحين السوريين الذين ضاق اللبنانيون ذرعاً بأعدادهم المتكاثرة، والذين يحاولون التسرّب إلى أوروبا من طريق قبرص واليونان، وفي زوارقهم لبنانيون كثيرون أيضاً! ويريد اللبنانيون إعادتهم إلى سورية، بينما يريد الأوروبيون شراء بقائهم في لبنان لأجل غير مسمّى.
ما قصدت من هذا التقديم التحدّث عن مشكلات لبنان مع الحزب المسلَّح، فالحديث مكرّر ومعاد. بل أردت كثرة الحديث لدى قلّةٍ منّا عن الدولة الوطنية وضرورة دعم تجربتها أو تجديدها باعتبارها مناط الاستقرار والحياة الإنسانية في الأوطان، والواجهة على العالم. وبلغ بي الأمر بعد عام 2011 أن صرت أختم مقالاتي بالدعوة إلى إحقاق أو إنجاز الأهداف الثلاثة:
1- استعادة السكينة في الدّين.
2- تجديد تجربة الدولة الوطنية.
3- السعي الحثيث إلى علاقاتٍ صحّيةٍ مع العالم.
الدولة الوطنية ومحاولة الحلّ
ما هي الدولة الوطنية؟ هي الدولة ذات السيادة على أرضٍ فيها سكّان يُكوّنون شعباً (= مواطنون) وفيها سلطات تمثيليّة مهمّتها حسن إدارة الشأن العام. وهذه المعالم هي التي قام عليها النظام الدولي (= الأمم المتحدة) بعد الحرب العالمية الثانية. وما اقتنع أحد بصفات الحدّ الأدنى هذه، وكان لا بدّ من التعظيم من شأن الهويّة الواحدة للدولة من لغةٍ وإثنية ودين ومشروع قوميّ. وصارت هذه المعالم شديدة الأهميّة والحساسيّة، وبخاصّة في الأقطار التي كانت مستعمَرة في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. ذلك لأنّ هذه “الدول” كان المستعمرون هم الذين حدّدوا حدودها التي لم تحظَ برضا الأكثريّات أو الأقليّات التي طمحت بدورها إلى إقامة دول خاصة بها. وفي منطقتنا والمشرق نجحت في ذلك الأقلّيات اليهودية والأرمينية والمسيحية، في حين لم ينجح الأكراد.
ازداد ذعر اللبنانيين عندما هدّد زعيم الحزب المسلّح دولة قبرص. ذلك أنّها الدولة الوحيدة في جوار لبنان التي لم تحدث معها أزمة حقيقية من قبل
المهمّ، والحديث عن منطقتنا، أنّ الوعي القومي الهويّاتي اعتبر الدول التي قامت أضيق من طموحاته، وتلوَّن هذا الوعي بألوانٍ شتّى قومية ودينية ومذهبية. وقد كان ديدن السلطات في الدول العربية الجديدة أن تتّخذ إحدى سياستَين: محاولة التوفيق بين المحلّي والقومي أو الديني أو الصرامة في وجه كلّ المعارضات التي تريد الانقسام أو التوسّع. وفي الحالتين كانت النتائج كارثية. فقد سقط لبنان أوّلاً لأنّ المشاعر القومية والدينية لدى المسلمين والقوميين دفعتهم لدعم إطلاق المقاومة الفلسطينية ضدّ إسرائيل من لبنان. وعندما أزالت إسرائيل الخطر الفلسطيني عليها بالغزو عام 1982 حلَّ محلَّ المشروع القومي للتحرير، المشروع الإسلامي الإيراني الذي ما تزال وقائع تخريبه للدول الوطنية تتوالى منذ عقود، وآخرها الحرب من الجنوب، وتهديد دول الخليج وتخريب اليمن وأخيراً تهديد قبرص. والطريف أنّ المشروع العربي كان هدفه تحرير فلسطين، والمشروع الإسلامي- الإيراني يعلن عن الهدف نفسه دون أن تكون معالمه واضحة. إلّا تزعُّم إيران لمجموعةٍ من الميليشيات المسلّحة في عدّة دولٍ عربية منها لبنان.
بعد لبنان ودولته الوطنية الساقطة بسبب الأهداف التي تتجاوز القدرات. بل وتتجاوز إرادة الأكثرية، سقطت دولة العراق الوطنية ذات الطموحات القومية عندما قاتلت إيران واحتلّت الكويت، وحلَّ محلَّها كيان مذهبي… ثمّ سقطت الدولة الوطنية السوريّة في اضطرابات عام 2011 بسبب الطموحات المتناقضة بين النظام والناس، والتدخّلات الإقليمية والدولية. أمّا الدول الوطنية العربية الأخرى الساقطة، وهي عديدة، فتعود أسباب سقوطها مثل سورية إلى عوامل داخلية وأخرى إقليمية ودولية.
لا توسّع باسم القوميّة والدّين
ما كانت الدول العربية ذات التاريخ أو المُنشأة حديثاً مؤهَّلةً للتوسّع باسم القومية أو الدين. وقد أُنشئت الجامعة العربية للتنسيق بين الواقع والطموحات. لكنّ استعمار فلسطين كان مسماراً ضخماً في قلب الوعي المتصاعد بالهويّة والانتماء، سواء أكان عربياً أم إسلامياً. لكن إذا كان الكيان الصهيوني له صلة مباشرة بما أصاب لبنان أو فلسطين، فإنّ الدول الوطنية العربية الأخرى تصدّعت أو سقطت لأسباب داخلية وإقليمية ودولية.
سقطت الدولة الوطنية السوريّة في اضطرابات عام 2011 بسبب الطموحات المتناقضة بين النظام والناس، والتدخّلات الإقليمية والدولية
إيران أرادت تفكيك الدول الوطنية العربية، وتركيا قالت إنّها تريد الحفاظ على أمنها من الأكراد، والولايات المتحدة أرادت إخضاع الجميع في زمن الهيمنة، وبخاصّةٍ بعد الهجوم عليها عام 2001. ومع استضعاف الدول الوطنية العربية من الأطراف الثلاثة ما بقيت جهة قريبة أو بعيدة إلّا وتدخّلت لافتراس الوطن العربي ودوله الضعيفة.. والقوية. وفي كلّ مرّة جرى فيها استضعاف كيانٍ عربي تدخّلت الجامعة العربية التي تزايد ضعفها، ثمّ صارت دول الخليج تتدخّل منفردة أو من خلال مجلس التعاون. لكنّ الانهيار والاستيلاء فاقا القدرات، وهذا فضلاً عن اختلاف المواقف في الكثير من الأحيان.
كيف يمكن استعادة الدولة الوطنية؟ سلطة تحسن إدارة الشأن العامّ، والاهتمام والأولويّة للمصالح الوطنية الداخلية. أمّا المصلحة العربية التي لم يعد يمكن تجاهُلُها بسبب الوعي والواقع. فيتمّ من خلال الجامعة العربية أو مجلس التعاون الخليجي والمنظّمات الدولية.
الدولة الوطنية العربية ليست خائنة ولا قاصرة. لكنّها مهتمّة بالاستقرار والتنمية المستدامة والعلاقة الحسنة مع الجوار والعالم. وقد ثبت بعشرات الأمثلة أنّها لا تقوى على القيام بأكثر من ذلك. وهناك سبع أو ثماني دول عربية تصدّعت أو سقطت لأحد ثلاثة أسباب: المطامح للتوسّع أو القصور في أداء المهامّ الداخلية، أو المطامح الإقليمية والدولية.
من أين نبدأ في الاستعادة أو التجديد، وبخاصّةٍ أنّ الوضع سيّئ في الدول المتصدّعة، وأنّ الدول الوطنية الأخرى مهدَّدة؟!
الدولة الوطنية دولة السلامة والاستقرار والتنمية المستدامة وخدمة المواطنين وقد سقطت تجربتها في الزمن الثوري
لقد اختارت الدولة الواقفة على رجلَيها كما يقال، العودة إلى مخاطبة الدواخل ومحاولة مساعدة الفرقاء المتنازعين هناك على التوافق حتى في فلسطين. وهذه المقاربة هي مقاربة النظام الدولي. وليس صعباً بعد ذلك إقناع الدول الكبرى بفكّ الإسار عن الدواخل المأزومة. فتبقى الخطوة الأصعب إقناع الإقليميين بالانسحاب، ويكاد ذلك يكون مستحيلاً بالنسبة لإيران التي تربط مصالحها الاستراتيجية بميليشيات العراق ولبنان واليمن وربّما سورية أيضاً. والأمر أقلّ صعوبةً بالنسبة لتركيا. ونحن نركّز على دول بلاد الشام، لكنّ هناك ليبيا، والأصعب السودان الذي يتفاقم فيه وعليه التدخّل الخارجي، والصراع الداخلي الشديد الهول.
إقرأ أيضاً: الشراكات والميلشيات ومتغيراتها بين الغرب والعرب
الدولة الوطنية دولة السلامة والاستقرار والتنمية المستدامة وخدمة المواطنين. وقد سقطت تجربتها في الزمن الثوري، ثمّ تفاقم السقوط في زمن الهيمنة الأميركية وصعود الأصوليات العنيفة. ونحن نمرّ بمخاضٍ كبيرٍ والاحتمالات واردةٌ بالاتّجاهين وإن يكن الاتجاه السلبي أكثر ظهوراً. والفرق بين الزمانين الثاني وهذا الثالث ظهور تجارب ناجحة للدولة الوطنية، سواء لجهة تحقيق الاستقرار أو لجهة المواطنة والتنمية المستدامة والشراكات مع دول واقتصادات العالم الكبرى.
لمتابعة الكاتب على X: