هل وصلت تطبيقات الذكاء الاصطناعيّ التوليدي الحاليّة التي تعتمد على النماذج اللّغويّة الكبيرة (LLMs) إلى حدودها القصوى في ما يخصّ الإبداع والابتكار لننعتها بـ”الذكيّة” فعليّاً؟ أم من الممكن ابتكار تطبيقات لا تعتمد فقط على تكرار وإدارة البيانات التي تدرّبت عليها، كما هو الحال الآن؟
هذا السؤال كنت قد طرحتُه منذ عدّة سنوات في كتاب “دهاء شبكات التواصل وخبايا الذكاء الاصطناعيّ”، في فصلٍ تحت عنوان “لا ذكاء اصطناعيّاً حتى الآن، ولكن…”. وما زلت أطرحه اعتقاداً منّي أنّ النماذج اللّغويّة التي يعتمد عليها الذكاء الاصطناعيّ لبناء الخوارزميّات قد أُشبعت. فالتطوّر الذي سيحصل في السنوات المقبلة يتعلّق بزيادة بيانات التدريب في كلّ اللّغات، مع الاعتقاد بأنّ النتائج ستبقى تقريباً نفسها مع مزيد من تحسين القدرات البلاغية، ومع إضافة إمكانيّات توليد صور وفيديوهات ونصوص بشكلٍ أسرع كما هو الحال مع المحرّك GPT-4o.
من منظورٍ آخر من الممكن القول إنّ الشركات العملاقة قد قامت بتدريب تطبيقاتها بكلّ البيانات المتاحة على الشبكة، وهو ما دفع المبرمجين حالياً إلى البيانات الاصطناعية، التي ليس من المؤكّد أنّها ستزيد من ذكاء الآلات!
التطوّر الذي يحصل الآن بات بطيئاً ومختلفاً بعد إطلاق OpenIA برنامجها “تشات جي بي تي” في أواخر 2022. لهذا يتعلّق السؤال المطروح بإمكانيّة تطبيقات الذكاء الاصطناعيّ أن تقوم بأكثر من ذلك، لأنّ خوارزميّات التعلّم الآليّ والتعلّم العميق المُستخدمة المبنيّة على اللّغة ما زالت هي ذاتها. هذه الخوارزميات تكرّر ما يحصل دون منطق فكريّ محدّد أو أيّ ربط للأفكار بعلاقات ترابطيّة محدّدة وعلاقات سببيّة لما يحصل في الواقع كما هو الحال عند الإنسان.
صعوبة “تقليد” عقل الإنسان
الإنسان عندما يفكّر، وعند قيامه بمهمّات معيّنة، تتداخل العديد من الروابط العصبيّة والأفكار المترابطة فيما بينها داخل دماغه. روابط عصبونيّة ما زالت غير محدّدة، ولا يمكن محاكاتها ونمذجتها شكلانيّاً (formal) بمجموعة خوارزميّات معتمدة في أغلبها على خلايا اصطناعيّة احتماليّة، وسلّم درجات (علامات) مُعتمد حسب تواتر الكلمات بهدف إعطاء نتيجة معيّنة.
بالنسبة للدول العربيّة، فقد بدأت الاستثمار في الذكاء الاصطناعيّ وتطبيقاته الأمر الّذي يتطلّب منها العمل على بناء المحتوى الرقميّ باللّغة العربيّة لمعالجة البيانات
على سبيل المثال، فإنّ العلامة لمفردة “شوكي” ستكون أعلى بكثير من علامة المفردة “بشريّ” بعد مفردة “النخاع”، لأنّ المصطلح “النخاع الشوكيّ” هو أكثر تواتراً من مصطلح “النخاع البشريّ”.
إنّ كلّ ما صُنع حتى الآن يصيب العالم بالانبهار، لكنّ هذا لا يعني أنّ هذه الآلات كما هي عليه ستتخطّى قدرات الذكاء البشريّ. إنّ أفكار البشر المترابطة في الدماغ من الصعب حصرها ببيانات لغويّة أو صور أو فيديوهات. ومهما تطوّر عالم السيليكون وتطوّرت شرائح “إنفيديا” (NVIDIA) و”إي إم دي” (AMD) وغيرها المستخدمة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، يبقى من الصعب بناء كلّ السياق البشري ثقافياً ولغوياً وقيمياً، وغيرها من الأمور الحياتيّة التي لا تُحدّد برموز رياضيّة قابلة للبرمجة بنماذج من قِبَل الآلات.
نهج مختلف… لأنّ الآلات “لا تفكّر”
هذه هي معضلة الذكاء الاصطناعيّ الحاليّ. لذلك يتّجه بعض العلماء في المجال نحو نهجٍ مختلف في محاولةٍ للوصول إلى الذكاء الاصطناعيّ العامّ الذي يُعمل عليه الآن في العديد من المؤسّسات المعروفة عالمياً. وهذا ما يؤكّده “يان ليكون” (Yann LeCun)، رئيس قسم الذكاء الاصطناعيّ في شركة “ميتا”، بقوله إنّ “نماذج اللّغات الكبيرة لديها فهم محدود للغاية للمنطق، ولا تفهم العالم المادّيّ، وليست لديها ذاكرة ثابتة، ولا يمكنها التفكير بالمعنى الصحيح، ولا يمكنها التخطيط بشكلٍ هرميّ”.
يظلّ “يان ليكون” متّسقاً مع اعتقاداته السابقة بأنّ نماذج اللّغة الكبيرة ليس لديها فهم للواقع الأساسيّ للعالم الحقيقيّ لأنّها تدربت فقط على النصّ وكمّيات هائلة من النصوص. ويضيف أنّ “معظم المعرفة الإنسانيّة لا علاقة لها باللّغة. ولهذا السبب فإنّ أنظمة الذكاء الاصطناعيّ الحاليّة لا تأخذ هذا الجزء من التجربة الإنسانية بعين الاعتبار”.
لكنّ “ليكون” يعتقد أنّ الذكاء الاصطناعيّ على مستوى الإنسان يمكن تحقيقه، من خلال محاولة منح الآلات الحسّ السليم، والقدرة على التفكير السببيّ، اعتماداً على نهج نمذجة الحاسوب لإعطائه القدرة على التفكير في “لماذا تحدث الأشياء”.
يتّجه بعض العلماء في المجال نحو نهجٍ مختلف في محاولةٍ للوصول إلى الذكاء الاصطناعيّ العامّ الذي يُعمل عليه الآن في العديد من المؤسّسات المعروفة عالمياً
سنكون هنا أمام مزيج من هذه المكوّنات التي ينبغي أن تؤدّي إلى أنظمة تُزيل قيود نماذج اللّغات الكبيرة. ويمنح رئيس قسم الذكاء الاصطناعيّ في “ميتا” وفريقه أنفسهم حوالي عشر سنوات لتحقيق ذكاء اصطناعيّ على مستوى الإنسان.
هلوسة النّماذج اللّغويّة
بالإضافة إلى أنّ هذه النماذج اللّغويّة تعاني من الهلوسة، ومن عدم ترابط الأفكار فيما بينها، فقد حاولت أن أسأل ChatGPT عن أحد الأكاديميّين، فكان الجواب أنّ “فلاناً” أستاذ في الجامعة اللّبنانيّة، مختصّ في مجال العلوم الإنسانيّة، إلخ… وأضاف أنّ فلاناً هو طبيب يعمل في السويد في مجال الأبحاث الطبيّة. هذه النتيجة مردُّها إلى تشابه الأسماء، وبما أنّ البيانات تحتوي على هذه الأسماء فقد أعطى البرنامج كلّ ما لديه عن فلان بغضّ النظر عن المكان والإختصاص وغيرهما من المعلومات التي ليست لها علاقة ببعضها. وعندما تطلب منه نصّاً حول موضوعٍ محدّد مع مراجع بيبليوغرافيّة، سيعطيك مراجع لكنّها تكون مُفبركة وغير موجودة، في كثيرٍ من الأحيان.
بات الإنترنت بؤرة مليئة بالأخطاء والشائعات وعمليّات الاحتيال. وتكثُر القصص عن هلوسة التطبيقات وبكلّ اللّغات. وعلى سبيل المثال، فإنّ أحد الأساتذة في القانون اتُّهم بالتحرّش الجنسيّ ولم يكن على علم نهائياً بالأمر. فقد سأل أحد الزملاء “تشات جي بي تي” عن المحامين المُتحرّشين بالطلاب فظهر له اسم أستاذ القانون في القائمة. والقصّة جرى تأليفها من الصفر بواسطة “تشات جي بي تي”. كذلك قام أحد المحامين بالاستشهاد بقضايا وهميّة في مستند قانونيّ، وطلب من “تشات جي بي تي” كتابة قضايا له. لكنّه جرى اكتشافه وعُوقِب على ذلك. إذ إنّه في المجال القانونيّ يُحذَّر القضاة من استخدام التطبيقات لأنّ القضايا تتطلّب صرامة ولا يمكن التلاعب بها.
بات الإنترنت بؤرة مليئة بالأخطاء والشائعات وعمليّات الاحتيال وتكثُر القصص عن هلوسة التطبيقات وبكلّ اللّغات
لذلك من المفترض العمل على تطبيقات معياريّة محدّدة يمكنها التمييز بين المهارات اللّغويّة والعالم الحقيقيّ، وإنشاء وتحديث المعرفة بالعالم الحقيقيّ. ومهما تطوّرت الشرائح واستطاعت دمج بلايين الشحنات الرقميّة التي تساعد في تخزين البيانات ومعالجتها، فذلك لن يعطي نتائج ذكيّة أكثر ممّا هي عليه الآن. وطبعاً هذا لا يلغي المشاكل الأخرى المتعلّقة باستهلاك الطاقة والأخلاقيّات وغيرها من المسائل التي من المفترض بصنّاع التقنيّات إدراكها، لكنّهم لم يفعلوا شيئاً حتى الآن سوى بعض “الخطابات” (لكن هذا موضوع آخر).
لا جديد خلال السنوات المقبلة
حالياً، ستتابع التطبيقات في العديد من المجالات نسخ وتقليد الصور والأفراد والأصوات والفيديوهات، وستتّجه نحو التنقيب عن لوائح لِقَوننة هذه التطبيقات والحفاظ على حرّيّة الفرد وحقوق الملكيّة الفكريّة وغيرهما من الأمور التي تهمّ الأفراد والمجتمعات. وسيستمرّ صنّاع التقنيّات بالتنافس فيما بينهم كمؤسّسات تطبيقيّة، وستحتدم المنافسة بين الولايات المتحدة والصين للسيطرة على البيانات، وستحاول الدول الأوروبية اللّحاق بالذكاء الاصطناعيّ، وستتنافس مع الولايات المتحدة من جهة ومع روسيا والصين من جهة ثانية.
بالنسبة للدول العربيّة، فقد بدأت الاستثمار في الذكاء الاصطناعيّ وتطبيقاته، الأمر الّذي يتطلّب منها العمل على بناء المحتوى الرقميّ باللّغة العربيّة لمعالجة البيانات المنتجة عربياً، لأنّه من المفترض بها أن تُعالج الأمور التي يهتمّ بها الأفراد والمجتمعات في العالم العربيّ.
إقرأ أيضاً: انتخابات في 77 دولة خلال 2024: هل يربحها الذكاء الاصطناعي؟
يجب الاستثمار أيضاً في التعليم الذي يؤهّل لبناء تطبيقات ذكيّة، وتوجيه الشباب الّذين يخطّطون للانضمام إلى هذا القطاع نحو الشروع في بناء أنظمة ذكاء اصطناعيّ للمستقبل تُزيل قيود نماذج اللّغات الكبيرة القائمة على التكرار، والتنقيب عن حلول لنماذج تُبيّن كيفيّة حدوث الأمور.