قبرص نجمتنا وخيمتنا

مدة القراءة 6 د

لم تعد بيروت نجمتنا أو خيمتنا كما قال الشاعر محمود درويش في قصيدته “مديح الظلّ العالي”. صارت قبرص اليونانية هي نجمة “الإمبراطورية” التي أعلنها الأمين العام للحزب حسن نصر الله، في خطابه الأخير. اشتهاء قبرص وضمّها إلى الجغرافيا العربية كانا قد بدآ مع “زعيم” الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة. الأخير اختارها نجمةً “للهلال الخصيب”… فهل يجعلها نصر الله “نجمة” لـ”إمبراطورية لبنان” المتوسّعة؟

 

مجدّداً صعدت قبرص إلى واجهة الأحداث بعد ما قاله فيها وعنها الأمين العام للحزب. لقد لوّح السيّد بضمّها إلى الحرب الدائرة في المنطقة إن هي فتحت مطاراتها وأراضيها وموانئها للإسرائيليين. بدت قبرص في خطاب نصر الله دولةً صغيرةً مهدّدةً بالزوال، وربّما سريعة الانصهار في إمبراطوريته، أو هدفاً عسكرياً إلهيّاً مقبلاً. ولم ينسَ طبعاً الخوض في الأعداد والتلويح بها.

إعلان الإمبراطوريّة

اليوم، بعد تسعة أشهر إلّا نيّفاً من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة وجنوب لبنان، رسم “زعيم جبهة الإسناد والمشاغلة” الأمين العام للحزب حدود إمبراطورية الحزب العظمى، أو الإمبراطورية اللبنانية الصاعدة.

للدقّة، ليس لإمبراطورية “السيّد” حدود نهائية بعد، فربّما تكون على غرار إسرائيل بلا حدود. وعليه فالاسم ليس نهائياً بعد في انتظار الخطابات المقبلة. لم يعد الحزب دولةً أو دولةً داخل الدولة اللبنانية، منذ زمن بعيد، بل منذ حربين أو ثلاث على الأقلّ.

مجدّداً صعدت قبرص إلى واجهة الأحداث بعد ما قاله فيها وعنها الأمين العام للحزب. لقد لوّح السيّد بضمّها إلى الحرب الدائرة في المنطقة

ترسيم حدود الإمبراطورية المبدئي تمّ في خطاب نصر الله الأخير، عبر الإعلان عن خطوات عدّة:

– أوّلاً، حدّد أعداء إمبراطوريّته، فأعلن إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وقبرص دولاً عدوّةً وحذّرها من مغبّة مساعدة إسرائيل، متوعّداً إيّاها بالحرب إذا اعتدت الأخيرة على لبنان أو على إمبراطوريّته.

– ثانياً، حدّد حلفاءه وأصدقاءه، وهم من إيران، مروراً بالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين، وصولاً إلى الحوثيين في اليمن. قد يكون طلاب الجامعات الأميركية المناهضون لحرب إسرائيل منهم!

– ثالثاً، أعلن جهوزيّة إمبراطوريّته لأيّ حرب واسعة، برّاً وبحراً وجوّاً.

– رابعاً، أعلن مصانع إمبراطوريّته العسكرية وأعداد جيوشه.

– خامساً، رسم حدود الحرب والسلم، وأعلن شروط وقف الحرب التي لا سلم من دونها.

– أخيراً والأهمّ، نادى بالعدّ والاستفتاء لمعرفة من مع “مقاومته”، ومن ضدّها.

ما قاله نصر الله في خطابه ليس مجرّد أقوال أو شعارات. الرجل خاض سابقاً ويخوض اليوم حروباً كبيرةً في أرجاء إمبراطوريّته، للدفاع عن حدودها

مشوار البدء

ما قاله نصر الله في خطابه ليس مجرّد أقوال أو شعارات. الرجل خاض سابقاً ويخوض اليوم حروباً كبيرةً في أرجاء إمبراطوريّته، للدفاع عن حدودها. وحدودها كما بات معروفاً تمتدّ من معقله في الضاحية، أو من معقل مرشده ووليّه في إيران، وتنتهي عند آخر مؤيّد للمقاومة، بعد العدّ طبعاً، وعلى أسس غير دينية وغير طائفية كما لا يخفى على الجميع، فالرجل ليس طائفياً كما أكّد في خطابه الأخير. هو إمبراطور فوق الطوائف والأديان… والحدود.

أمّا حدود إمبراطوريّته فلم نعد نعرف عند أيّ صراع أو حرب تبتدئ، ولا عند أيّ حرب أو صراع تنتهي. فهو ساعةً يقاتل في البوسنة، وساعةً في العراق، وثالثةً في سوريا التي لم ينسحب منها بعد، واليمن ووو… إلخ.

العدد لا العُدّة سلاح الحزب

يظنّ كثرٌ أنّ الجبهة الرئيسة للحزب هي عند الحدود مع إسرائيل وعليها، وأنّ الصواريخ والمسيّرات هي سلاحه الأقوى. لكنّ الحقيقة في مكان آخر. الجبهة الرئيسة لنصر الله وحزبه هي في الداخل اللبناني مع الآخر المختلف معه وعليه. وخارج لبنان أيضاً، مع كلّ آخر أو مختلف معه أو مع حلفائه. أمّا سلاحه الأقوى فيها فهو العدّ.

الحزب عدد وعُدّة

يرى كثر أنّ العُدّة هي سلاح الحزب الأقوى، بينما يرى هو أنّ العدد رأس كلّ سلاح. لا يبارح السيّد لغة الأرقام. لكنّها لغة يستعملها بلهجات عدّة. فهو يصبغ العدد بالصبغة التي يريد. تارةً يشي بأنّه يقصد به أعداد الشيعة. وتارةً المسلمين. وتارةً أخرى يقصد المقاومين أو الممانعين أو مؤيّدي المقاومة. فُهم أنّ المقصودين من العدد في خطابه ما قبل الأخير هم الشيعة، بينما أوضح هو في خطابه الأخير أنّه يقصد جمهور المقاومة. أضاف بلغة واثقة، وهو يرتدي زيّه الديني وعمامته السوداء، أنّه ليس طائفياً ولا يستخدم لغةً طائفيةً. قبل ذلك تحدّث عن أعداد تفوق مئات الآلاف من المتطوّعين الراغبين في الانضمام إليه في حروبه، وهذه الأعداد ليست من نسج خياله، فقد رأيناها في العراق وسوريا واليمن وغيرها، تقاتل جنباً إلى جنب مقاتليه الخاصّين، حتى إنّه وزّع بعض المهامّ والمناطق والحدود عليهم، “ليقاوموا فيها ويجاهدوا”.

لغة الأرقام هذه ليست قديمة الاستعمال في أدبيات نصر الله وحزبه، بل هي حديثة نسبياً بدأ استعمالها بُعيد اغتيال الرئيس رفيق الحريري

عدد وسلاح… وفلسطين

لغة الأرقام هذه ليست قديمة الاستعمال في أدبيات نصر الله وحزبه، بل هي حديثة نسبياً بدأ استعمالها بُعيد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أي بعد استشعار الحزب أنّ خطراً يحيق به، خاصةً بعد انسحاب حليفه السوري من لبنان.

قبل ذلك التاريخ، كان العدد تعبيراً عن أقليّة دينية. بعده صار تعبيراً عن أكثرية راحت تتمدّد في السنوات الأخيرة وتنسج تحالفات وتخوض حروباً وتفتعل مشكلات وحروباً مع دول عربية وغير عربية كثيرة، حتى صارت إمبراطوريةً، انتهى للتوّ الإمبراطور فيها من تهديد دولة صغرى، اسمها قبرص.

حدود كلّ إمبراطورية هي حدود الحروب التي تخوضها، وحدود إمبراطورية السيّد هي حدود الصراع مع إسرائيل، ونجمة هذا الصراع منذ الأمس، بل منذ أنطون سعادة، قبرص. لا شكّ سيلتصق السوريون القوميون به، بعد الخطاب الأخير، أكثر فأكثر. لا ضير في ذلك، فهم من أعمدة إمبراطوريته، أو ديكوراتها.

اليوم باتت مقوّمات الإمبراطورية كاملةً بيد حسن نصر الله، ومعطياتها أمامه:

– الأعداد الكبيرة التي لا ينفكّ يلوّح بها، أي المقاتلون والمؤيّدون والبيئة الحاضنة.

– السلاح من صواريخ ومسيّرات وغيرها.

– الحلفاء والأعداء.

– اقتصاد موازٍ لاقتصادات الدول التي ضمّها إلى إمبراطوريته، يسير جنباً إلى جنب معها، ويقتات عليها.

إقرأ أيضاً: “السّيّد” هدّد قبرص… لتسمع بريطانيا

– ميليشيات تشكّل جيوشاً رديفةً لجيوش تلك الدول، وتتفوّق عليها عدداً وعُدّةً وعتاداً.

– والأهمّ القضيّة. وقضيّة قضايا الإمبراطورية التي ترفد كلّ ما سبق، فلسطين. فلسطين قضيّة الأمّتين العربية والإسلامية، وقضيّة السنّة والمسيحيين والعرب، وسلاح طروادة الخاصّ بإيران لمزيد من الأعداد والأراضي والأوراق التفاوضية.

عليه، السؤال بعد الخطاب الأخير للأمين العامّ للحزب لم يعد متى تنتهي الحرب، بل: على مَن الحرب المقبلة؟

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…