كنت اعتقدت أنّي تخليت عن عادة اصطحاب مَن يستوقفني على الطريق لكثرة ما تلقّيت من تحذيرات وقرأت عن حوادث استفراد وتشليح، غير أنّي لا إرادياً دِست فرامل السيّارة ورجعت عشرات الأمتار لأُقِلّ رجلاً تحت جسرٍ، على طريق بدت لي مقفرة تلك الساعة. رأيته يرفع لي يده بترّدد وخجل، وأكملت طريقي بسرعة 70- 80 تقريباً، وفي جزء من الثانية خُيّل إليّ أنني لمحت على وجهه كل ملامح الإرهاق من مشي طويل، فلم يبقَ في إمكاني متابعة سيري. توقفت بجانب الطريق قائلاً لنفسي سأنقله معي من هذه الصحراء وليكُن ما سيكون. وإذا أراد تشليحي فسأعطيه العشرين دولاراً التي أحملها قبل أن يطلبها متمنياً له التوفيق. والأرجح أنه فوجئ بتوقفي بعدما تجاوزته بمسافة فأخذ يجري نحو سيارتي بينما أعود بها إلى الوراء. وعندما ركب بجانبي أخذ يشكرني ويعتذر للإزعاج. رجل من عمري يسارع إلى التوضيح أن سيارته تعطّلت ووضعها في كاراج لتصليحها ومضطرّ للذهاب إلى مكان عمله رغم أنه يوم عطلة لحدث ضروري. لكنه فجأة توقف عن الكلام بعد دقيقة وحدّق إلى وجهي ملياً ثمّ قال :”أعرِفُك”. أجبته بأنّ وجهه أليف والشعور نفسه يُساورني. ويبدو أننا التقينا قبل زمن طويل. ماذا كنت تفعل في الحرب؟ “كنت أعزِف. وأنت؟”. جاوبته”انا كنت أكتب”. فصَفَنَ لحظة ثم هتف مُتهلّلاً “” وعلى الفور ذكرت اسمه ضاحكاً أنا أيضاً. وكنا مستغربَين المصادفات بينما رُحنا بِسرعة نتذكّر لقاءنا ومن كانوا معنا في سهرة من العمر عند صديقة مشتركة في بيتها الجبليّ، وأنه ظلّ يعزف على العود حتى الفجر، وأننا غنّينا كلنا وكانت أصوات بعضهم، ما عداني، جميلة. كان صعباً علينا معاً تصديق أن 37 سنة على وجه الدقّة مرّت على تلك الليلة الناعمة والتي ما عدنا التقينا بعدها. وأنّنا كبرنا إلى هذا الحدّ ومررنا بأهوال لم تكن لتخطر لنا ببال.
أراد النزول لدى وصولنا إلى طريق عام وأخذ تاكسي كي لا يُثقل عليّ أكثر، فتجاهلت إصراره وألحَحت على معرفة المكان الذي يقصده كي أوصله إليه، ولم يرضخ إلّا بعد تمنّع شديد. كان المكان بعيداً نسبياً، فاتصلت بالمنزل وأخبرتهم أنني سأتأخر نحو ساعة. على العموم لست من الناس المُنَظّمين وفي اعتقادي أن من علامات الحرية أن يكون المرء قادراً على تغيير اتجاهه حين يشاء. وفكرت ربما ليس عن عبث كان أنسي الحاج يُطلق عليّ لقب “سان برنار” الذي كان، في القرن الثاني عشر، يساعد المقطوعين والتائهين في محيط ديره على طريق جبلية وعرة بين فرنسا وسويسرا، وكان يربّي كلاباً لا تزال تحمل اسمه، “فصيلة سان برنار”، قادرة على كشف أمكنة المغمورين بالانهيارات الثلجية وإنقاذهم وحمل أغراضهم.
دائماً أعود إلى أنسي. قالت لي صديقة متخصصة في علم النفس أنني لا أزال في حال إنكار لموته ولذلك لا يمكنني أن أؤلف عنه كتاباً وأقلب الصفحة، وأذكره كلما سنحت لي فرصة كي أتخلص من شعور بالذنب حياله، وحدثتني عن نظرية “استبدال الأب” فأجبتها على ما أذكر بأنّ علاقتي بوالدي كانت ممتازة، ولكن أعترف بأنّي أتساءل كلما اعترضتني مشكلة ماذا كان أنسي سينصح لي. وكم كانت دهشته كبيرة أحد الأيام، في بداية عملي معه في مكتبه في “النهار”، عندما أخبره أحد كتّاب “المُلحق”، أنني رفضت تركه في الجريدة نحو الثانية بعد منتصف الليل في انتظار الصباح كي تقلّه سيارة في منطقة جبيل، واستدرجته إلى مرافقتي في سيّارتي حتى مستديرة الدورة حيث يمكنه ركوب وسيلة نقل، لكنني لم أتوقف هناك بل أوصلته إلى بيته ورجعت إلى بيروت.
“يا ريت يا ريت” كل مؤسسات الدولة يديرها مسؤولون مثل الدكتورة القوّاس
سألني رفيق الدرب الموسيقيّ ماذا فعلت بحياتي، فجاوبته مازحاً لا أعرف، لقد سارت وحدها. وُلِدتُ وكبرت وتكيّفت مع كل الأوضاع وتزوّجت والأولاد كبروا وها قد صرت جَدّاً، وبعد الحرب طلب الأستاذ أنسي مني أن أعمل معه في جريدة “النهار”، أوّل يوم تسلّم فيه رئاسة تحريرها، وعملت أربع سنوات مدير تحرير جريدة في الكويت وعدت إلى “النهار” وتركتها عن حُب ورضا في 2017 بعدما قتلوا جبران تويني وتوفّي والده غسان وتغيّرت أشياء كثيرة. مُذاك قمتُ بأعمال شتّى ولا شيء، أتسلّى بالشغل، كل عمري أتسلّى، ثم أنّي أقرأ بنهم ٍ كتباً ومجلات وجرائد ولا وقت عندي، وأشاهد أفلاماً وأتنزه مشياً في الطبيعة وألتقي أصدقاء وصديقات. آمَل أن نظل نلتقي أنا وأنت. والآن أخبرني عنك.
قال لي إنه مدير في الكونسرفاتوار الوطني، عالمه موسيقيون وأساتذة وطلاب وصفوف وحفلات موسيقى وأغانٍ وطرب، لم يتزوّج وسعيدٌ في مهنته وحياته، ورغم الظروف القاسية السائدة البلاد يعمل باندفاع وفرح لأنه شغوف بالموسيقى وتعليمها. لاحظت أنه أخذ يكثر من شكر الله، “كتّر خيره كتّر خيره” على تسلّم الدكتورة هبة القوّاس رئاسة الكونسرفاتوار. قبلها كانت حالتنا بالويل، أربع سنين مضت كأننا نعبر جهنّم، الكونسرفاتوار كان مشلولاً شبه متوقف والرواتب لا تكفينا حتى للتنقل فكيف نُدرّس، والمُشاحنات والخلافات والطموحات الشخصية والسياسية تضرب أطنابها. والله هبطت علينا كالنعمة يا صديقي. جميعنا في الكونسرفاتوار صرنا نشعر أنّ فوق رأسنا خيمة تحمينا من غدر الفقر والبهدلة. “يا ريت يا ريت” كل مؤسسات الدولة يديرها مسؤولون مثل الدكتورة القوّاس. السياسيّون والمديرون الكبار يمدّون أيديهم ليضعوا في جيوبهم وهي تمِدّ يدها إلى جيبها وتدفع من مُدّخراتها لإنقاذ المؤسسة التي تديرها.
فور تسلّمها المنصب بالوكالة وَضَعَتْ خطّة نهوض وعَرِفَت أنها كي تُطاع عليها- قبل أي شيء آخر- تأمين الحد اللائق من الحياة للأساتذة والموسيقيين
الله يُحبّنا، “كتّر خيره استفقدنا”. صدّقني مهما حكيت عنها قليل. حظّنا يفلق الصخر يا صاحبي أنها تعشق الكونسرفاتوار، تعرف فيه الكبيرة والصغيرة بأدق التفاصيل وصمّمت على انتشاله من الهوّة التي وقع فيها. ما كان في استطاعة أحد غيرها أن ينقذنا. فور تسلّمها المنصب بالوكالة وَضَعَتْ خطّة نهوض وعَرِفَت أنها كي تُطاع عليها- قبل أي شيء آخر- تأمين الحد اللائق من الحياة للأساتذة والموسيقيين، ونجحت في الحصول على تمويل بل فازت فوزاً كبيراً. “الحمدلله الحمدلله”.
امتدّ حديثنا . كنا علقنا في زحمة العائدين إلى العاصمة بعد نهار العطلة. وتسلسل الحديث. قلت إنّي أعرف هبة القوّاس، أذكر عرّفني بها أنسي الحاج عندما اصطحبني إلى سهرة شعر وقراءات أدبية في منزل هدى النعماني، رسّامة وشاعرة، أجواؤها تصوّفية وغريبة عليّ بعض الشيء. كانت هبة بمثابة ابنته ندى. وكانت صديقتها والتقيتهما معاً لاحقاً أكثر من مرّة حين تسّلّمت صفحة “التربية والمدنيّات” التي تعنى بالحركة الفنية والثقافية في البلد. لَم أُطِل بعد ذلك وتركت “النهار”، ولكن حضرت بعض حفلاتها وأتابع أنشطة الكونسرفاتوار عبر “المؤسسة اللبنانية للإرسال” خصوصاً، وأيضاً “الفايسبوك”. وما دمنا في الحديث. انطباعي عن هبة القوّاس أنها ذكيّة جداً تتدفق كلماتها كالرصاص كي تلحق على أفكارها فتضطر المُصغي إلى التركيز كي يتمكن من متابعتها، وأحلامها كبيرة جداً وتمكنت من تحقيق بعضها. لن أنسى أنها كانت تتحدّث عن تأسيس دور أوبرا وفرق أوركسترا موسيقى كلاسيكية في دول الخليج ونيّتها بعث الدراسات المُعمّقة عن الموسيقى الشرقية العربية، من زمن سوق عُكاظ مروراً بالأمويين والعباسيين. كنت أفكر أن في بعض أحلامها هلوسة، ولكن ها هي دور الأوبرا تقوم وتنشط في الدرعية- الرياض وقبلها في مسقِط ودُبَي. أنا واثق أن لها دوراً كبيراً في إقناع حُكّام دول الخليج تلك بمشروعها الفني الثقافي. ما يُميّز هبة القوّاس أنها قادرة على محاورة الحُكّام وكبار المسؤولين. شبكة علاقاتها وعارفيها مُذهلة.
بري جاء به وزيراً ولكنه طموح أخذ يزايد على “حزب الله”، حالِماً بأن يصبح يوماً رئيساً لمجلس النواب
وسألت رفيق الدرب عن سبب الاعتراضات التي ثارت في وجه رئيسة الكونسرفاتوار منذ لحظة تعيينها، ألأنّها ليست أرثوذكسيّة؟ فجاوبني بلِا. وبأنّ المعترضين بعضُهم يغار من نجاحها، بعضهم طموح يريد المنصب لنفسه، وبعضهم ببساطة لا يريد العمل وفق القوانين الموضوعة، وبعضهم تبنّاه أخيراً وزير الثقافة محمد وسام المُرتضى وينفذ توجيهاته بصفته وزير الوصاية على الكونسرفاتوار الوطني.
حكيت هنا بضميري عن وزير الثقافة الذي لم يعرف لبنان له مثيلاً في تاريخه القديم والحديث. هل تعرف أنه المسؤول الرسمي الوحيد في كل العالم الذي أيّد قتل المؤلف البريطاني سلمان تطبيقاً لفتوى الخميني؟ ما يقوله ويفعله هذا الرجل فضيحة تلو فضيحة. تصوّر أنه رفض البحث في فكرة تعليق صورة في المكتبة الوطنية، التي نقل إليها مكتبه من الأونيسكو واحتلّها، لأمين معلوف عند تعيينه سكرتيراً دائماً للأكاديمية الفرنسية، وفي المقابل علّق صورة وخصّص زاوية للصحافية شيرين أبو عاقلة، الله يرحمها، مع أنها لم تؤلف كتاباً في حياتها وليست لبنانية.
“إلى أين يريد الوصول في رأيك؟”، سألني رفيق الدرب فجاوبته أن الرئيس نبيه بري جاء به وزيراً ولكنه طموح أخذ يزايد على “حزب الله”، حالِماً بأن يصبح يوماً رئيساً لمجلس النواب، وبعضهم يقول أن حلمه أصغر : تولّي المديرية العامة للأمن العام. وفي رأيي أن عالم الأمن والمخابرات يليق بشخصيته أكثر من منصب ثقافي. قبيل وصولنا إلى المكان المقصود سألت الرفيق القديم لماذا هاجَمَت “محطة المُرّ MTV” بشراسة هبة القوّاس، وصولاً إلى اتهامها بالسرقة وتبنّي كل مواقف وزير الثقافة الخمينيّ منها، بدون حَدّ من الموضوعية، فأجابني أن السبب هو رعاية محطة LBCI كل حفلات الكونسرفاتوار والأوركسترا الوطنية اللبنانية لقاء حق حصري في بثها مباشرة ولاحقاً. أرادت محطة “أم تي في” التعبير عن استياء وهذا كل ما في الأمر.
– موفّق بالحفلة صديقي. رجاءً لا تشكرني. إلى لقاء، وَدَعنا لا ننتظر 37 سنة أخرى.
*نقلاً عن “النهار”