كيفما قلّبتها حبّاً أو بغضاً أو تآمراً، هي بيروت دائماً وأبداً مدينة عصيّة على الكسر والقهر والاختزال. كم مرّة هزّها زلزال عبر التاريخ؟ كم جيشاً دخلها محتلّاً وخرج منها تاركاً على سورها قطعة من ثيابه تبرّكاً كأنّها مزار؟ كم انفجاراً عصف بها وقتل فيها ودمّر جدرانها، لكنّها دوماً تولد من قلب الرماد لأنّها مدينة تؤمن بالحياة؟
هي نبوءة رفيق ونداء نزار وحبيبة درويش. تنبّأ رفيق الحريري يوماً فوضع شعاراً لإعادة بنائها “بيروت مدينة عريقة للمستقبل”. ناداها نزار قبّاني في قصيدته الشهيرة صارخاً: “قومي يا بيروت قومي إنّ الثورة تولد من رحم الأحزان”. وبها نثر محمود درويش كلّ حبّه وعشقه قائلاً: “تُفَّاحةٌ للبحر، نرجسةٌ الرخام، فراشةٌ حجريّةٌ بيروتُ”.
بيروت لا تهوى الحياة فقط، بل تهوى قهر وهزيمة الأعداء. تعالوا نَسِر معاً على دربها ونقرأ حكاياتها مع الغزاة. تذكرون جنود فرنسا الأفارقة القادمين من السنغال وهم يتراجعون عام 1943 خائفين في ساحة النجمة أمام هدير أبطال الاستقلال المصمّمين على رفع الراية فوق مبنى البرلمان، والمؤكّدين أنّ الحرّية والديمقراطية لا مكان فيهما للاحتلال. فلنكمل المسيرة على درب عزّ بيروت لنصل إلى عام 1982 عندما صمدت بيروت بوجه الإسرائيلي، ثمّ قاتلته في شوارعها وأزقّتها. ألا تذكرون جثث جنوده على أرصفة المقاهي والطرقات في الصنائع وسليم سلام والحمرا وفردان. ألا تذكرون صورة الشاعر خليل حاوي حاملاً بندقيّته رافضاً الاحتلال.
بيروت لا تهوى الحياة فقط، بل تهوى قهر وهزيمة الأعداء. تعالوا نَسِر معاً على دربها ونقرأ حكاياتها مع الغزاة
بيروت أرعبت الإسرائيلي في ساعات، فحمل مذياعه وتجوّل في الطرقات مناشداً الناس أن أوقفوا إطلاق النار، قائلاً: ها أنا منسحب من مدينة اللعنات والثوّار. لا تسيروا كثيراً، فقط انظروا إلى البعيد القريب في 27 تموز 1988. ألا تذكرون كيف وقفت بيروت رافضة الخنوع والاستسلام وصلّت مع “المفدي” حسن خالد في ملعب بيروت البلدي في العراء صارخة “بيروت لا يمكن أن تهان”.
تقدّموا معي قليلاً رويداً رويداً إلى عام 2005 يوم 14 شباط. ألم تفجّر بيروت بموكب حبيبها رفيق قرب فندق “السان جورج”؟ ظنّوا أنّهم قادرون على قتله وقتلها بطنّ من المتفجّرات، فعادت ووُلدت في ساحة الشهداء في معجزة لم يسبق أن سُجّلت في التاريخ، حيث نبت شجر الأرز على الساحل قرب الشاطئ، فكان ثورة وليس شجرة، وحينها حمل ذاك الشابّ البيروتي مكنسة ووقف بوجه مقرّ الاستخبارات السورية في فندق “البوريفاج”، وكم لنا مع اسم “البوريفاج” من ثارات! وقف ذاك الشابّ شامخاً كمدينته، أراد أن يكنس الهيمنة والاحتلال.
الحرب اليوم لا تبعد أكثر من 100 كيلومتر عن بيروت، والجوع بات في منازل سكّانها بمسافة صفر. إلا أنّها ما زالت متمسّكة بالحياة تتنقّل من مهرجان إلى مهرجان
لا تذهبوا بعيداً وواصلوا السير على درب البطولة والأبطال. احتلّت الميليشيات بيروت في 7 أيار 2008، ومجدّداً ظنّ المحتلّ أنّه قضى على المدينة وأهلها وباتوا من التاريخ والأخبار. نزل البيارتة بعد أشهر في عام 2009 إلى صناديق الاقتراع. كنسوا المحتلّ وميليشياته وقالوا بيروت قادرة على المعاقبة والاختيار. لم تمرّ سنوات طويلة، ثمّ كان انفجار مرفأ بيروت أو قصف مرفأ بيروت، والقصف يتقدّم على الانفجار بالدليل والمشاهدة وقراءة ما يحصل اليوم في غزة من إجرام ودمار. الكلّ وصف التفجير بقنبلة هيروشيما، المدينة التي احتاجت إلى سنوات كي تتعافى من القنبلة الذرّية التي جلبت الدمار. وحدها بيروت تتعافى كما تتعافى الساحرة بلحظات. تقوم معلنة تمسّكها بالحياة، وكالهنود الحمر ترقص على أشلاء الغزاة. النار لا تخيفها، بل هي مناسبة للرقص حولها والغناء وإطلاق الأهازيج. النار في بيروت لا تخيف بل هي مصدر للحياة والاستمرار.
إقرأ أيضاً: حرب لبنان على بُعد خطأ واحد
الحرب اليوم لا تبعد أكثر من 100 كيلومتر عن بيروت، والجوع بات في منازل سكّانها بمسافة صفر. إلا أنّها ما زالت متمسّكة بالحياة تتنقّل من مهرجان إلى مهرجان، ومن احتفالية إلى احتفالية، وكأنّنا نعيش بألف أمان وأمان. هذه هي بيروت، وسرّها لا يعرفه أحد. تهوى قهر وتعذيب الغزاة، ومجدّداً ألا تذكرون ما قاله نزار باسم كلّ العرب والعجم: “نعترف أمام الله الواحد أنّا كنّا منك نغار وكان جمالك يؤذينا… وأهديناكِ مكان الوردة سكّيناً”. بيروت فرحة المدن وكنز الأسرار.
لمتابعة الكاتب على X: