وضع صعود اليمين القومي الأوروبي بعد نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة مسار العلاقات التركية الأوروبية أمام امتحان جديد أكثر صعوبة وتشدّداً، إذ سيشهد الكثير من القلق والغموض ويترك حلم العضوية التركية في الاتحاد أمام ورطة السير في المجهول.
كانت أوروبا تعوّل على وصول المعارضة التركية للحكم لتسجيل اختراق سياسي في العلاقات. فكيف ستتصرّف بعد الآن مع ظاهرة صعود اليمين القوميّ الأوروبي المتشدّد الذي سيقوّي حجّة أنقرة في أنّ الاتّحاد الأوروبي غير جادّ في الحوار معها ولا يريد فتح أبواب التحاقها بالمجموعة؟
يوصف البرلمان الأوروبي بأنّه الأكثر تشدّداً حيال تركيا ومواقفها وسياساتها، وبأنّه العقبة الكبرى أمام عضويّتها في الاتّحاد. فكيف سيكون شكل العلاقة مع تركيا بعد نجاح الجناح اليميني الأوروبي المتشدّد في انتزاع المزيد من المقاعد تحت سقف هذا البرلمان؟
ما الذي سيقوله الرئيس التركي رجب طيب إردوغان هذه المرّة؟
حين دعا تقرير البرلمان الأوروبي إلى “استكشاف إطار موازٍ وواقعي للعلاقات مع أنقرة غير العضويّة الكاملة” العام الماضي، أجاب الرئيس التركي بأنّ “الاتحاد الأوروبي يحاول الانفصال عن تركيا. سنجري تقويماتنا على هذا الأساس، وإذا لزم الأمر فبمقدورنا نحن أيضاً أن نبتعد عن هذا الهدف”.
يوصف البرلمان الأوروبي بأنّه الأكثر تشدّداً حيال تركيا ومواقفها وسياساتها، وبأنّه العقبة الكبرى أمام عضويّتها في الاتّحاد
جاء هذا الحوار غير المباشر بعدما جمّدت المؤسّسات الأوروبية الحوار مع أنقرة في موضوع العضويّة الكاملة في الاتحاد الأوروبي منذ عقد تقريباً. لم تتحرّك القيادات السياسية التركية في الحكم لكسر هذا الجمود، وتحريك الملفّ على الرغم من أنّ المطلوب معروف جيّداً لدى الجانبين، وهو تبنّي ما يقوله المجلس الأوروبي وشروطه دون تفاوض حولها، بل حول المدّة الزمنية المطلوبة لتنفيذها من قبل الجانب التركي.
تراشق ماكرون وإردوغان… وإغلاق الملفّ؟
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان أعلن قبل سنوات أنّ حلف شمال الأطلسي “يعيش حالة الموت السريري” نتيجة الانقسامات والتباعد بين أعضائه لناحية التعامل مع مسائل أمنيّة واستراتيجية تعني الحلف. ردّ عليه إردوغان بقساوة يومها: “سياسات ماكرون هي التي تعيش حالة الموت السريري”.
هل يقول إردوغان كلاماً مشابهاً بعد صعود اليمين القومي المتطرّف في أوروبا، خصوصاً حيال نظرته للاتحاد الأوروبي ومستقبله السياسي؟
كانت العلاقات التركية الأوروبية تسير كالبطّة العرجاء على طريق مطلب العضويّة التركية في الاتحاد الذي بدأ قبل 6 عقود مع نتيجة صفرية حتّى الآن. صعود اليمين القومي المتشدّد في أوروبا قد يسهّل للطرفين إغلاقاً سريعاً لهذا الملفّ، أو يسرّعه إذا ما كانت هناك رغبة حقيقية في قراءة سياسية جديدة مبنيّة على ارتدادات سوداوية على العلاقات قد يحملها وصول المتشدّدين الأوروبيين إلى السلطة.
أوروبا بحلّة جديدة يقودها اليمين المتطرّف ويهمَّش فيها مشروع الوحدة والتكافل والتضامن، ستفتح الطريق أمام سيناريوهات جديدة عابرة للحدود
هل يواصل اليسار الأوروبي والقوى الليبرالية سياسة التشدّد في المطالب والمعايير حيال أنقرة؟ أم يرضخ لأخطار وصول اليمين القومي على مشروع الوحدة الأوروبية ويحرّك الورقة التركية باعتبارها فرصة للردّ في مواجهة الذين لا يهمّهم فقط إزاحة تركيا من الطريق الأوروبي بل وضع العربة أمام الحصان في مشروع الوحدة الأوروبية بأكمله؟
مراجعة مسائل الهجرة واللجوء والإصلاحات
كان هناك غيرهارد شرويدر وجاك شيراك في مواجهة العضوية التركية، ثمّ جاءت أنجيلا ميركل ونيكولا ساركوزي. كان التصعيد تحت السيطرة على الرغم من كلّ الهبّات الباردة والساخنة في مسار العلاقات. لكنّ الأمور ستختلف مع الرفض الكامل لوجود تركيا تحت سقف الاتحاد الأوروبي عند وصول قيادات متطرّفة مثل مارين لوبان وجوردان بارديللا وإليسا فايدل وخيرت فيلدز وفيكتور أوربان. وجوه تعِد بأوروبا مغايرة تمنح المزيد من القوّة والنفوذ للحكومات الوطنية على حساب المعايير الأوروبية وتدخّل بروكسل في رسم شكل الحياة اليومية للأوروبيين.
صحيح أنّ اليمين القومي لم يصل إلى دفّة القيادة في أوروبا بعد، وأنّه غير قادر على إعادة رسم السياسات الأوروبية حيال أنقرة، لكنّه بدأ منذ اليوم يطالب بمراجعة طريقة التعامل مع مسائل الهجرة واللجوء والإصلاحات الاجتماعية التي تأخذ بعين الاعتبار ما يقوله ويريده لناحية تقديم مصالح الوطن على مصالح الاتّحاد الأوروبي.
ما هو الانعكاس داخل تركيا؟
هذا التطوّر الكبير أوروبياً قد يقابله توحّد اليمين القومي التركي المتشدّد. ولئن كان مبعثراً اليوم، إلا أنّه بات يملك ثقلا حزبياً وشعبياً يصل إلى 25 في المئة من أصوات الناخبين الأتراك.
للتذكير فقط، فإنّ دولت بهشلي زعيم حزب “الحركة القومية” اليميني وحليف إردوغان، هو الذي كان يردّد قبل أشهر أنّ “الاتحاد الأوروبي قد انتهى بالنسبة لنا… ستذهب أنقرة وراء البدائل الاستراتيجية لتعويض خسارة عضويّتها في الاتحاد الأوروبي حتماً، خصوصاً أنّها تتطلّع للعب دور الدولة الإقليمية المركزية”.
الناخب الأوروبي يدعم اليمين القومي هذه المرّة. امتحان جديد ينتظر أوروبا مع صعود نبرة التشدّد التي قد ترضي بسمارك وربّما تغضب دولوز
هكذا ستلتقي حسابات اليمينَيْن، الأوروبي والتركي، في تقديم الأخير المصالح الوطنية القومية على المعايير الأوروبية المعتمدة منذ منتصف الثمانينيات. وذلك بعدما أعادت تركيا اكتشاف أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وخطوات الوحدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وإعلان رغبتها بالالتحاق بالمشروع الأوروبي الذي تحوّل إلى سهل ممتنع بعد مرور أكثر من نصف قرن على هذا الحلم.
خسائر الطرفين… من إغلاق الملفّ
من المبكر الذهاب وراء سيناريو أنّ أوروبا استسلمت للجناح المتطرّف المتشدّد لأنّ الناخب الأوروبي سيتحرّك حتماً لمواجهة هذه الظاهرة وارتداداتها على ما شُيّد في العقود الأخيرة من مؤسّسات توحّد القارّة وتقرّب بعضها من بعض والذوبان وراء معايير حياتية واجتماعية وثقافية جديدة. هي حالة استثنائية ظرفية مؤقّتة لأنّ مشروع الوحدة سيدمّر بأكمله لأجل ولادة منظومة سياسية اجتماعية جديدة مغايرة تقودها حركات هامشية شعبوية متشدّدة تمتلك مفتاح تحريك السلاح النووي بعيداً عن القرار الأميركي.
في حين أنّ شرذمة أوروبا وتراجع تكتّل الوحدة لا يخدم أنقرة ومصالحها، قد تخرج أنقرة أقوى في ملفّات المنافسة التي ستنتقل من مواجهة تكتّل إلى مواجهة الدول بشكل منفرد. لكنّ ارتدادات ذلك ستنعكس على مصالح تركيا وأوروبا معاً لمصلحة أميركا وروسيا والصين.
أوروبا بحلّة جديدة يقودها اليمين المتطرّف ويهمَّش فيها مشروع الوحدة والتكافل والتضامن، ستفتح الطريق أمام سيناريوهات جديدة عابرة للحدود تشهد عمليات إعادة تموضع جيوسياسي وجيوستراتيجي مغاير قد لا يخدم خطط ومشاريع الصعود التركي الإقليمي.
من المبكر الذهاب وراء سيناريو أنّ أوروبا استسلمت للجناح المتطرّف المتشدّد لأنّ الناخب الأوروبي سيتحرّك حتماً لمواجهة هذه الظاهرة
إرضاء بسمارك… وإغضاب دولوز
شنَّ أوتو إدوارد بسمارك، السياسي البروسي – الألماني الشهير، ثلاث حروب قصيرة وحاسمة لمصلحة بروسيا ضدّ كلّ من الدنمارك والنمسا وفرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. رأى فيه القوميون الألمان بطلهم القومي. كما أشاد المؤرّخون بدوره كرجل دولة ساهم في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر في الوحدة الألمانية، واستخدم سياسة التوازن للحفاظ على السلام في أوروبا.
إقرأ أيضاً: تركيا: فيدان في الصّين لإغضاب الغرب؟
بالمقابل يصل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في استنتاجاته حول ثورة الطلاب في فرنسا عام 1968 بأنّها كانت ضدّ الجمود الذي طبع الأنظمة الاجتماعية وحتى الفكرية والتربوية بما فيها البرامج التعليمية، وكانت ضدّ قيم الرأسمالية والسلطة الليبرالية القائمة على الانضباط والمراقبة وقيم الاستهلاك والسلع، التي على الرغم ممّا تدّعيه من تحرّر أبانت عن فاشية لا تقلّ عن وحشية النظام الشيوعي كما ردّد.
الناخب الأوروبي يدعم اليمين القومي هذه المرّة. امتحان جديد ينتظر أوروبا مع صعود نبرة التشدّد التي قد ترضي بسمارك وربّما تغضب دولوز. لكنّنا في أفضل الأحوال أمام معضلة ولادة سياسة أوروبية أمنيّة اقتصادية اجتماعية جديدة. فكيف ستتصرّف تركيا حيال لعبة شدّ وجذب أوروبية من هذا النوع؟
لمتابعة الكاتب على X: