رقمان قياسيان تضربهما سنة 2024، وبينهما رابط حسّاس: عدد سكّان العالم الذين تشهد بلدانهم انتخابات عامّة، وعدد المهاجرين الذين تستقبلهم بلدانهم. وبين الرقمين شواهد متزايدة على أنّ المهاجرين يعيدون رسم المشهد السياسي في الغرب.
الانتخابات المبكرة في فرنسا وبريطانيا تضاف إلى قائمة طويلة من الدول التي تشهد انتخابات رئاسية أو برلمانية، بما يشمل أكثر من نصف البشرية، من الولايات المتحدة إلى البرازيل والمكسيك والهند وإندونيسيا وباكستان والاتحاد الأوروبي وروسيا، وغيرها الكثير.
في أكثر هذه الدول عراقة في الديمقراطية، يبدو ملفّ الهجرة الأكثر تأثيراً في اتّجاهات الناخبين. وربّما تفسّر الأرقام ذلك. فالعالم الغنيّ يشهد طفرة غير مسبوقة من الهجرة.
الملايين في أميركا وأوروبا
بحسب أرقام مجلّة “ّذا إيكونوميست”، وصل عدد صافي المهاجرين إلى أميركا 3.3 ملايين فقط خلال العام الماضي، من ضمنهم 2.4 مليون شخص قطعوا الحدود مع المكسيك بشكل غير شرعي. واستقبلت بريطانيا 1.2 مليون إنسان، وهو ما يعادل أكثر من ثلاثة أضعاف ما كانت البلاد تستقبله سنوياً قبل جائحة كورونا. واستقبلت كندا 1.9 مليون مهاجر ولاجئ. وفي ألمانيا، وصلت معدّلات الهجرة واللجوء إلى ذروتها في 2022، بدخول نحو 2.7 مليون مهاجر ولاجئ إلى البلاد (خرج في المقابل 1.2 مليون).
في أكثر هذه الدول عراقة في الديمقراطية، يبدو ملفّ الهجرة الأكثر تأثيراً في اتّجاهات الناخبين
كانت الحرب في سوريا وقود الهجرة الأساسي في العقد الماضي. ملايين السوريين تدفّقوا عبر الحدود وأنشأوا مفاعيل اجتماعية وسياسية في بلدان عدّة، ولا سيّما في لبنان وتركيا والأردن وألمانيا والسويد. ثمّ أتت الحرب الأوكرانية في 2022 لتطلق موجة جديدة من تدفّق اللاجئين.
ليست المفاعيل السياسية للهجرة جديدة في الديمقراطيات الغربية. في عام 2016، كانت الهجرة الملفّ الرئيس الذي قاد البريطانيين للتصويت لأجل الانفصال عن الاتحاد الأوروبي. وطفت بالتزامن موجة عالمية من الشعبوية. انتُخب دونالد ترامب رئيساً في الولايات المتحدة، ووصل اليمين المتطرّف إلى الحكم في العديد من الدول الأوروبية، من النمسا والمجر إلى هولندا وسواها.
2024: ذروة العداء للمهاجرين
غير أنّ الموسم الانتخابي الأكبر في تاريخ البشرية في 2024، يشكّل ذروة لتصاعد العداء للهجرة والمهاجرين. إذ أفرزت انتخابات البرلمان الأوروبي صعوداً غير مسبوق لأحزاب أقصى اليمين. واضطرّ ذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة نهاية الشهر الجاري. وقبل ذلك، كان واضحاً أنّ رياح القلق من الهجرة ساهمت بشكل كبير في الهزيمة الثقيلة التي تلقّاها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وحزبه في الانتخابات المحلّية قبل أسابيع قليلة.
في الأسبوع ما بين 30 حزيران و7 تموز، تشهد أوروبا استحقاقين انتخابيَّين في فرنسا وبريطانيا. تليها في تشرين الثاني المقبل الانتخابات الرئاسية الأميركية والتجديد النصفيّ للكونغرس. والمتابع لخطابات المرشّحين في البلدان الثلاثة يلحظ أنّ الهجرة تتصدّر الاهتمام العامّ.
كانت الحرب في سوريا وقود الهجرة الأساسي في العقد الماضي. ملايين السوريين تدفّقوا عبر الحدود وأنشأوا مفاعيل اجتماعية وسياسية في بلدان عدّة
قبل أيام، اضطرّ الرئيس الأميركي جو بايدن، تحت ضغط من خطاب منافسه دونالد ترامب، إلى إصدار أوامر تنفيذية بتشديد إجراءات مكافحة الهجرة غير الشرعية على الحدود الجنوبية مع المكسيك، والحدّ من فرص تقدّم المهاجرين بطلبات اللجوء. وسبقه رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك بإجراءات غير مسبوقة لترحيل المهاجرين غير الشرعيين إلى رواندا.
إسهام الهجرة في اقتصاد أميركا
الأمر اللافت أنّ المخاوف من الهجرة ليس الاقتصاد أصلب مبانيها، بل على العكس من ذلك، يجادل كبار الاقتصاديين بأنّ الدول الأكثر استقبالاً للمهاجرين مرشّحة للاستفادة على المدى البعيد، خصوصاً في ظلّ انخفاض معدّل الولادات في الاقتصادات الكبرى إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق.
تقدّر “ذا إيكونوميست” أنّ المهاجرين سيضيفون إلى الاقتصاد الأميركي نموّاً بنسبة 2% على مدى العقد المقبل. وهذه نسبة كبيرة تعادل بالرقم المطلق ناتجاً بأكثر من 55 مليار دولار. وقد ألمح رئيس مجلس الاحتياط الفدرالي جيروم باول أكثر من مرّة إلى استفادة الاقتصاد من المهاجرين بملء الشواغر في سوق العمل، بعدما كان نقص العمالة عاملاً أساسياً يضغط على معدّلات التضخّم ويدفعها صعوداً.
تشير بيانات من صندوق النقد الدولي إلى أنّ القوّة العاملة الأميركية من المولودين خارج البلاد ارتفعت بنسبة 9% عمّا كانت عليه في 2019، في وقت تواجه الشركات الأميركية صعوبات في إيجاد موظّفين للفرص المتاحة لديهم. وهذا يعني أنّ المهاجرين الذين دخلوا البلاد لم يزاحموا المواطنين على فرص العمل، بل سدّوا شيئاً من فجوة الطلب على العمالة. والأهمّ من ذلك أنّ المهاجرين يتمتّعون، في الغالب، بمعدّل إنتاجية أعلى.
في بريطانيا أيضاً، تشير البيانات إلى وجود تسعة ملايين عاطل عن العمل، لكنّ نصف هؤلاء لا يبحثون عن عمل أصلاً
تشير إحدى الدراسات في جامعة MIT إلى أنّ احتمال تأسيس عمل مستقلّ يرتفع لدى المهاجرين في أميركا بنسبة 80% بالمقارنة مع المولودين في أميركا، وهو ما يشير إلى أنّ إنتاجية المهاجرين أعلى، وتنافسيّتهم أقوى.
رواتب أقلّ… إنتاجيّة أعلى
في بريطانيا أيضاً، تشير البيانات إلى وجود تسعة ملايين عاطل عن العمل، لكنّ نصف هؤلاء لا يبحثون عن عمل أصلاً، بينما يبذل المهاجر كلّ ما في وسعه للبحث عن مستقبل أفضل، ويرضى عموماً بدخل أقلّ، وهو ما يعدّ مفيداً للاقتصاد على المستوى الكلّي.
غير أنّ للمسألة وجهاً آخر. فعلى الرغم من أنّ المهاجرين يضيفون إلى حجم الاقتصاد الكلّي، إلا أنّهم يضغطون سلباً على حصّة الفرد الواحد من الناتج المحلّي. وهذا ما تظهره الأرقام في الدول الأكثر استقبالاً للمهاجرين، مثل كندا وأستراليا وبريطانيا. وهذا عائد في الأساس إلى استعداد المهاجرين للقبول برواتب أقلّ، خصوصاً في الوظائف التي لا تتطلّب مهارات أو تعليماً عالياً. وتلك إشكالية أضاء عليها قبل عقدين الاقتصادي الألماني هورست أفهيلد في كتابه المترجم إلى العربية: “اقتصاد يغدق فقراً”.
لذلك فإنّ الجدل حول الهجرة في أوروبا وأميركا هو في صلبه جدل حول الهويّة. ويمكن للمتابع للسجالات الانتخابية في أوروبا أن يلمح أسئلة أكثر جذرية من ذي قبل، لدرجة أن تجد في فرنسا المتطرّفة بعلمانيّتها من يُدخل الدين في المكوّنات الثقافية للهويّة.
بدأت تلك الأسئلة في العقد الماضي بجدلٍ حول الرموز الدينية في الأماكن العامّة، واتّسعت أخيراً إلى جدل حول زينة رمضان في لندن.
سؤالان: الهويّة… والتّنوّع
سيكون على الغرب في السنوات المقبلة التصدّي للإجابة على السؤال الدقيق عن ترسيم الحدود بين “الحفاظ على الهويّة” والحفاظ على قيم الحرّية والتنوّع. وهذا الترسيم يفتح نقاشاً شاقّاً حول حدود الهويّة: هل هي وطنية؟ أم أوروبية؟ أم غربية؟ أم عالمية؟
هل يكون مقبولاً مثلاً التعايش مع ثقافة ترفض المثليّة الجنسية؟ أو تقبل بتعدّد الزوجات؟ أو تفرض الحجاب على النساء؟
إقرأ أيضاً: اليمين المتطرّف يغيّر أوروبا أم يتغيّر؟
في الولايات المتحدة، يقود هذا الجدل إلى ردّة على ما يعرف بقيم “التنوّع والمساواة والاندماج” (DEI)، التي كانت الجامعات والشركات الكبرى تخصّص لها كوادر خاصة للعناية بتطبيقها. إلا أنّ التظاهرات المناصرة لفلسطين في الجامعات الأميركية أدّت إلى حملة من رجال أعمال كبار، من أمثال بول أكمان وإيلون ماسك، ضدّ مبادئ الـ DEI. وقد استجابت مؤسّسات كثيرة لتلك الدعوات بإلغاء الأقسام التي تعتني بتطبيقها.
يمكن لهذا الجدل أن ينحو بملفّ الهجرة إلى انقسام ثقافي في المجتمعات الغربية، لا يظلّ فيه مكان للجدل حول الانعكاسات الاقتصادية.
لمتابعة الكاتب على X: