… وأخيراً وُجدُ الحلّ لأزمة الكباش الرئاسيّ المسدود.
اسمان مقبولان من الجميع. لكنْ محسوبان مباشرة على تكتّله وفريقه. يختار هو وحده أحدهما. الآخرون كلّهم موافقون.
فيُنتخب رئيسٌ بالإجماع، لا بمجرد أكثريّة دستورية أو حتى ساحقة. ونبدأ ورشة العمل!
هل يمكن لأيّ تفصيل بعد أن يعرقل التسوية المجترَحة؟
كانت عشيّةٌ من عشيّات تشرين البيروتية. وكان الانسداد الرئاسي يزيد من رمادية ليالي الخريف قتامة.
وكان العدُّ العكسيّ لنهاية العهد الرئاسي، بلا توافقٍ على خلف، يطرق الأعصاب مثل ساعة رملٍ لحكم إعدام.
كان ذلك في تشرين الأول سنة 2007. قبل شهر تقريباً من موعد مغادرة إميل لحود قصر بعبدا. وكان ثلاثة وزراء خارجية لثلاث دول أوروبية كبيرة، قد أنهوا لتوّهم اجتماعاً مثمراً جدّاً مع سعد الحريري.
سارعوا فرحين مغتبطين لإجراء اتصال هاتفي ليليّ مع ميشال عون لزفّ بشرى الحلّ الأكيد.
بادر الفرنسي برنار كوشنر إلى الاتّصال بأحد نوّاب عون. وطمأن نظيريه وزميلَيْ زيارته اللبنانية، الإيطالي ماسيمو داليما والإسباني ميغيل أنخل موراتينوس، بأن قال: انتهت. دقائق ونعلن للّبنانيين والعالم نجاح مهمّتنا في بيروت.
تمّ الاتّصال في وقت متأخّر ليلاً. فكان الحديث مباشراً ومقتضباً:
حاول الوزراء الثلاثة رسم المشهد كالتالي: لسوء الحظّ جنرال، لا شكّ أنّك صرت مدركاً صعوبة انتخابك رئيساً. لكنّنا انتزعنا لك بالمقابل تعويضاً بديلاً أكثر من عادل. نقدّم لك الآن اسمين من صلب فريقك: النائب فريد الياس الخازن. والنقيب شكيب قرطباوي (صار لاحقاً وزيراً للعدل). تختار أنت وحدك اسماً منهما. والكلّ موافق على انتخاب خيارك رئيساً غداً.
ترافق العرض مع شيء من أسباب موجبة وكلام تبريريّ: عذراً جنرال. نعرف أنّها لحظة قاسية حتى المأساويّة أن تتنازل عن حقّك في أن تكون الملك. لكنّك ستكون وحدك “صانع الملك”.
محظوظ ربّما ميشال عون. فيوم طرح شعاره حول “صانع الملك وقاتله”، لم تكن الكارثة قد بلغت ما بلغته اليوم
الوكالة الشعبيّة لا تُجيّر
انتهى الكلام. انتهى العرض… انتهى فعلاً. وإلى غير رجعة.
يومها ردّ عون بأحد شعاراته المعروفة، وهي أنّ الوكالة الشعبية التي أعطاها له الناس عبر الانتخابات، لا يمكنه تجييرها لأحد.
وأنّ ثقة الناس التي منحوه إيّاها، لا يحقُّ له اللّعب بها، ولا التجربة بمصيرهم وحياتهم ومصير أولادهم وبلدهم، بنقلها منه إلى أيّ شخص آخر. ولو كان أقرب المقرّبين.
بعد أيام، كان لا بدّ من شعار آخر لحسم الجدل. فأطلق عون مقولته الأخرى والنهائية: كلّ من يطلب منّي أن أكون “صانع الملك” (King Maker)، أي الملك البديل، سأتّهمه بأنّه “قاتل الملك” (King Killer)، أي الملك الأصيل!
مضت الأيام بعد تلك الواقعة. كان 7 أيّار. ثمّ الدوحة. ثمّ ميشال سليمان لستّ سنوات. وثمّ 30 شهراً شغوراً. قبل أن يستعيد عون حقّه بأن يكون “الملك”. لا صانع. ولا من يصنعون.
اليوم يبدو الرجل في لحظة تراجيدية، بعد 90 سنة نضالاً، بأن يظهر فريقه وأقرب المقرّبين منه، أو وريثه الأوحد مباشرة، في مظهر الساعي شكلاً إلى دور “صانع الملك” التايواني. وكأنّ هاجسه وهوسه فعلاً هو قتل “الملك اللبناني”.
ذلك أنّه منذ عودة ميشال عون إلى لبنان قبل 19 عاماً، صار العنوان الأبرز للصراع السياسي الذي خاضه: استعادة التوازن. وهو عنوان محقّ. فلبنان تركيبة دقيقة غريبة عجيبة. كلّ عاهاتها وآفاتها وموبقاتها تولدُ من الخلل في توازنها. انتهاك السيادة شرطٌ من شروط تحقّقه هو خللُ التوازن الوطني. غيابُ المحاسبة يمهّد له أيضاً خرق التوازن. الفساد والفشل والعمالات الأحاديّة أو المزدوجة أو أكثر… كلّها تتمّ تحت غطاء خطابات طائفية مذهبية عن عدم التوازن.
لذلك أدرك عون جوهرية عودة التوازن إلى النظام. وهو حدّد لذلك طريقاً واضحاً: استعادةُ وزن المسيحيين فيه.
حتى صارت المعادلة بديهية: استعادةُ الوزن تصحّح التوازن.
بعد بشير الجميّل وميشال عون، ثبت أنّ مقولة “الرئيس القويّ” ممنوعة في لبنان
وهو ما دأب عون على نسجه. وصولاً إلى معراب واتّفاقها. ونجح نظريّاً. وكان مصيباً في خياره ورهانه.
قبل أن يسقط هذا البنيان النظري الميثاقي والكياني كلّه، كرمى لعضو إضافي في مجلس إدارة.
المهمّ أنّ المبدأ كان قد أُقرّ: مطلوب رئيس قويّ بتمثيله. إنّه حجر الزاوية الضروريّ والشَّرطيّ لخارطة الطريق التالية كلّها.
علماً أنّه يوم ناضل عون لتكريس ذلك المبدأ، كانت الأمور بألف خير مقارنة بالزمن الراهن.
لم تكن من حرب في سوريا. ولا مليون نازح في لبنان تتزايد أعدادهم يومياً عبر الحدود والأرحام.
ولم يكن اللبنانيون قد نقصوا نحو 700 ألف مهاجر مهجّر منهم. بفعل فاعل وفاعلين جعلوا من الوطن وشعبه مفعولاً بهم وفيهم.
ولم يكن ثمّة انهيارٌ مصرفيّ اقتصادي ماليّ نقدي متراكبٌ حتى الإفلاس.
ولم تكن هناك حربٌ في الجنوب وجنوب الجنوب. حتى رُبط لبنان بحروب جنوب الأرض كلّها…
ومع ذلك كان الرئيس القويّ ثابتة ضرورية جوهرية للتغيير والإصلاح.
قد يقول أحدهم إنّها مسألة نضج واستخلاص دروس ولو متأخّرة. فبعد بشير الجميّل وميشال عون، ثبت أنّ مقولة “الرئيس القويّ” ممنوعة في لبنان. لا بل تشكّل خطراً على الاثنين. على الرئيس وعلى البلد. بشير سقط بالدم. عون سقط بالذمّ، أو من موقع “العمّ”.
بالتالي السير في قتل “الرئيس القويّ” اليوم، ليس كيديّة ولا انتهازيّة ولا دجلاً نفطيّاً أو كهربائياً آخر.
بل هو تكيّفٌ مع أمثولات لبنان الجديد. المبنيّ على طراز النظام الإيراني في شطب المرشّحين الرئاسيّين المزعجين.
نظريّة الرئيس الأضعف
هكذا اقتنع أحدهم اليوم فجأة أنّ المطلوب رئيس يكون مجرّد ممثّل. لا بل قابل لأن يُمثّلَ به. رئيس تُختزل مواصفاته كلّها بقدرته على أن يكون مطيّة للجميع، حتى ينتخبه الجميع.
منذ عودة ميشال عون إلى لبنان قبل 19 عاماً، صار العنوان الأبرز للصراع السياسي الذي خاضه استعادة التوازن وهو عنوان محقّ
رئيسٌ يكون الأضعف والأكثر هشاشة وعُطوباً وغياباً وغيبوبة. رئيس على شاكلة وزراء ونواب ومديري نهج “الولاء” للزعيم. حيث هناك زبونٌ لمنصب وهناك زعيمُ زبانية.
فيما الوطن في أسوأ لحظاته. والتوازن الضروري الحياتيّ الوجودي له الآن، هو توازن وطنيّ. لا طائفي ولا مذهبي ولا قبائلي.
والرئيس القويّ وطنياً اليوم، هو الذي يُجيب باسمه وصورته، حتى بدون أن يسأل ويُسأل، عن ثلاثة تحدّيات في وجدانات الناس:
– أوّلاً، من القادر على أن يعطي انطباعاً بأنّ دولة لبنان لم تمُت بعد. هذه الدولة المعلّقة كما كلّ شيء فيها. من السيادة المعلّقة إلى قانون السير المعلّق. ومن الاستقلال المعلّق إلى قوانين البناء والملكية الخاصة والعامة والبيئة المعلّقة وإلى كلّ ما هو حياة وحياتيّ معلّق.
أيّ اسم يوحي للناس أنّ دولتهم لم تندثر. كي لا يُكملوا في جنون خيارات ما دون الدولة. أو خيارات ما قبل الدولة. أو أوهام الدويلة الأصغر من لبنان، أو تخرّصات التركيبة الأكبر من لبنان. هذا هو التحدّي الأوّل.
– ثانياً، من القادر على أن يُقنع صاحب حقيبة سفرٍ، بإعادتها إلى مكانٍ معتم من منزله وعقله وإرادته؟! أيّ اسم يسمح لمهجّر وهو هنا، أن يظلّ هنا وأن يكفّ عن أن يكون مهاجراً في وعيه بانتظار القدمين؟!
إقرأ أيضاً: عوكر بين نار وانفجار: عودة الأسد ومصادفتان عن “عونَين”!
– وثالثاً، من القادر على إعطاء جرعة ثقة دولية بالحدّ الأدنى، بحيث يفكّر مسؤولٌ عربي أو دولي في أنّنا نستحقّ المساعدة بعد. ولن تذهب مساعدته لحاشية زعيم.
محظوظ ربّما ميشال عون. فيوم طرح شعاره حول “صانع الملك وقاتله”، لم تكن الكارثة قد بلغت ما بلغته اليوم.
الآن كلّ من يفكّر في ترشيح تافهٍ فارغٍ جبانٍ حاجبٍ سخيف سطحيّ مستزلم زاحف طامح طامع… حتى آخر مواصفات أصحاب المبادرات، كلّ من يفكر ويعمل لذلك، ليس قاتل ملك، وفق تصنيف ميشال عون. بل قاتل مملكة، هي شعب ووطن يرفضان الموت. وقد قتلهما حكم الصغار.
لمتابعة الكاتب على X: