مرة جديدة يعودُ زعيمُ “الحزب” إلى فخ العدد والتعداد والأكثرية والأقلية.
ولو تحت ستار وشعار “إمّا أن نرجع للعدّ، وإما كل واحد يعرف حجمه ويتكلم عمّن يمثل وبما يمثل”. كما قال وطلب وأمر قبل أيام.
مسألة خطيرة جداً طرحها زعيم “الحزب”. وخطورتها عليه أولاً وعلى ناسه ثانياً. ثم ثالثاً على كل اللبنانيين وعلى لبنان.
أولاً، لأنها الدليل القاطع على مأزق “الحزب” وزعيمه.
ففي كل مرة وجد نفسه أمام جدار شعاراته وأهدافه، ذهب زعيم “الحزب” إلى خطأ العدّ وفخ التعداد. و”أشكلت” عليه مفاهيم الأكثرية والأقلية والوطنية والميثاقية.
وهو ما وقع فيه مرة واثنتين وثلاثاً على الأقل، في المحطات المفصلية الأساسية منذ 20 عاماً.
قبل 20 عاماً كانت أكثرية جامعة لكل اللبنانيين وعابرة لكل وطنهم، قد كفرت بوصاية النظام السوري على لبنان وطفح كيلها.
فيما “الحزب” وزعيمه مع الوصاية ومع نظامها ومع رئيسها “الأسد إلى الأبد”. فبدأ الكلام عن أن السياديين أقلية ضئيلة في لبنان. ولا يمثلون إلا أنفسهم. وأنْ لا حزبَ لهم ولا زوجات تؤيدهم… حتى آخر معزوفة الصلف الفارغ.
اغتيل رفيق الحريري. وتزايد الصراع على هذا المحور. بين سيادي و”وصائي”.
في المرات الثلاث كان سبب الهروب إلى وهم الأكثرية، هو وقوع “الحزب” وخطابه ومحوره، في مأزق استحالته لبنانياً. وفي أوهام انتصاراته كونياً
حتى قرر “الوصائيون” ترجمة كلامهم، بتظاهرة مليونية كما قالوا. لحسم المسألة نهائياً. فكانت 8 آذار 2005. يوم خرج زعيم “الحزب” معلناً ما توهّمه نتائجَ استطلاعه، بل إحصائه، أو حتى استفتائه النهائي: “ها نحن أكثرية البلد”. ونحن مع وصاية الأسد.
بعد 6 أيام هدرت أكثرية اللبنانيين الساحقة في ساحات بيروت وكل منطقة حرة. فسكت زعيم “الحزب”. حتى لاذ من أقليته بأكثرية “التحالف الرباعي”. فخرج من مأزقه. ولاقاه الآخرون للدخول المنشود معاً من ساحات متقابلة إلى رحاب وطن واحد…
لكنّ مأزقَ “الحزب” وزعيمه تكرر بعد عام ونيف فقط.
بعد حرب تموز 2006 مباشرة، بدا “الحزب” قد عاد إلى مأزق استحالة صرف السلاح في السياسة في لبنان. وإلى إدراك وهم أن تترجم “انتصاراً” على اسرائيل، أرجحية في السراي أو في بعبدا أو حتى في ساحة النجمة. فبدأ كلام “الحزب” عن مؤامرة مزعومة عليه وعلى محوره. واتهامات بأن أقلية عميلة خائنة، تتآمر مع العدو على أكثرية وطنية قومية ولائية محورية… وعاد الحديث إلى العدّ والتعداد.
واستمر المأزق في التعمق بعد “انتصار تموز”. حتى سقط في حصار بيروت، ثم انتهى إلى درك 7 أيار السحيق.
فجاءت بعد ذلك كله انتخابات 2009 وسقطت أوهام الزعيم. فخرج ليتنصل مرة جديدة من حقيقة أقليته. بالقول أن 14 آذار ربحت أكثرية نيابية فقط. فيما الأكثرية الشعبية معه!
ومرةً ثالثة عاد المأزق نفسه وخطابه الموهوم منتصف عهد “الحزب” الرئاسي الأول والأوحد والأبرز، مع ميشال عون. فبعد 30 شهراً من تعطيل رئاسي، وبعد 3 سنوات كاملة من حكمه وعهده عبر “عونه”، وجد زعيم “الحزب” نفسه وفريقه مجدداً أمام انهيار شامل وفشل ذريع وعجز مطبق عن إدارة أي تفصيل في الدولة.
حتى خرجت أكبر أكثرية في تاريخ لبنان إلى الشارع بعد 17 تشرين. من طرابلس إلى النبطية ومن جونيه إلى بعقلين.
فكان الرد عليها بزمرٍ من “البلطجية”، تحمل طروحاتٍ مضادة استثنائية في العمق والشمول. اختُصرت بشعارٍ مذهبي من مفردة واحدة مكررة حتى انقطاع النفس. وبفكرٍ مستقبلي مذهل. من نوع سحل أجساد الثوار. حتى يصيروا أقلية! لأن الأكثرية مسجلة حصرياً لمحور “الحزب”.
وفي المرات الثلاث كان سبب الهروب إلى وهم الأكثرية، هو وقوع “الحزب” وخطابه ومحوره، في مأزق استحالته لبنانياً. وفي أوهام انتصاراته كونياً.
فهل عاد “الحزب” وزعيمه إلى هذا المأزق الآن، حتى يعود إلى لازمة العدّ والتعداد؟ هي نقطةُ خطورةٍ أولى.
خطورة كلام زعيم “الحزب” اليوم، أنه يشي بقراره العودة عن تلك القواعد التأسيسية. والخروج عن ميثاق الوطن. إلى اللاشرعية المطلقة التي يعيش فيها
ثانياً، خطورة تلك “الأشكلة” المتكررة، أنها تناقض أساساً جوهرياً ميثاقياً من أسس لبنان. وهو أكبر من أي حزب وأي زعيم وأي طرح. فكيف بالوهم؟!
هو الأساس الذي أدركه رفيق الحريري باكراً بعد الحرب والطائف. وكرسه عملياً وفعلياً منذ الانتخابات البلدية سنة 1998 في قلب بيروت.
كان يومها قد مضت 35 سنة على آخر استحقاق مماثل. وكان الكثير قد تغيّر في جغرافيا الوطن وديمغرافيته ومؤسساته وحتى دستوره. لكنّ رفيق الحريري كان يعرف الفرق بين كل هذا وبين “الميثاق”. وكان يُحسّ بوجدانه أنّ قاعدة “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”، هي أكبر وأعمق وأقدس من أي عدِّ وتعداد وسلاح وأسلحة.
فخرج يقول للناس أنّ بيروت هي قلب الوطن. وأن القلب نصفان متساويان. وكانت يومها لنهاد المشنوق من موقعه، مهمةُ هندسة تلك القاعدة الميثاقية، مع “القوات” والعونيين والراحل فؤاد بطرس وآخرين. حتى تعانق نصفا قلب بيروت. وضُخَّ أحمرُ العيش معاً في شرايين العاصمة المعصومة.
يومها لم يترك عبد الحليم خدّام تهمة إلاّ ووجهها إلى المشنوق بدءاً من العمالة لإسرائيل حتّى قرار النفي من لبنان في شهر كانون الأوّل من السنة نفسها.
خطورة كلام زعيم “الحزب” اليوم، أنه يشي بقراره العودة عن تلك القواعد التأسيسية. والخروج عن ميثاق الوطن. إلى اللاشرعية المطلقة التي يعيش فيها. ليصبح في لا شرعيةِ سلاحٍ ولا شرعيةَ قوةٍ ولا شرعيةَ فائضِها وجهلِها. وصولاً حتى اللاشرعية الوطنية العددية الديمقراطية لوجوده برمته.
وهذا خطرٌ على “الحزب” وعلى زعيمه وناسه. بأنْ يضعَ نفسه في موقع الأقلية التي تدّعي أنها أكثرية. والأخطر، أنها تنوي وتُعلن فرضَ نفسها “أقلية أكثرية”، بالقوة. وتحديداً بقوة القوة العنفية غير الشرعية وغير الأكثرية.
ثالثاً، تبقى خطورة أخيرة. ألا وهي خطورة صورة الوصي والصفقة والبازار ووكيل الخارج أو حتى عميلِه.
لقد أوقفنا العدَّ وتعداد الموتى والقبور. ولقد احترفنا الحياة معاً واليناعَ معاً والخيرَ معاً والفرحَ معاً. بشتى تعابير الفرح التي يعشقها إنساننا ولا يحيا لحظة بدونها
هي الصورة التي ما زالت محفورة في ذاكرة كل لبناني سيادي وعقله. كما في أجساد الكثيرين منهم. من سمير قصير الذي تذكرنا قبل 3 أيام “رحيله” الغادر فوراً بعد رفيق، إلى آخر الراحلين والرحلة التي لم تتوقف. هي صورة تلك الصفقة الجهنمية لتلزيم لبنان إلى نظام الأسد. والتي نُفذت على دم رينيه معوض.
يومها، كلما خرج سيادي للمطالبة بتطبيق الطائف، لجهة إعادة انتشار جيش الأسد بعد سنتين من إقرار الإصلاحات الدستورية التي حصلت في آب 1990، كان يخرج صوتٌ بعثي أسديٌ أصيل، يهدد اللبنانيين فوراً، بمقولة أنّ إعادة الانتشار تلك، مرتبطة بإقرار إلغاء الطائفية السياسية من النظام، وإقامة نظام العدّ والتعداد… ربما وفق النموذج البعثي العلوي العصري الحديث!
حتى تأكد الجميع بأنّ نظام دمشق يهددُ ميثاق لبنان، مقابلَ استدامة هيمنته عليه بصفقة مع “الشيطانين”، الأكبر مباشرةً والأصغر مداورةً.
الصورة نفسها يُخشى أن تتكوّنَ مع كلام زعيم “الحزب” اليوم. وهذا أخطرُ الكلام.
ما هو الحل؟
بكل بساطة أن نقولَ له ولكل الناس والعالم في لبنان وخارجه، أنْ بلى، لقد أوقفنا العدَّ وتعداد الموتى والقبور. ولقد احترفنا الحياة معاً واليناعَ معاً والخيرَ معاً والفرحَ معاً. بشتى تعابير الفرح التي يعشقها إنساننا ولا يحيا لحظة بدونها.
بلى، لقد أوقفنا العدَّ والتعداد، حرصاً على ناسِ “الحزب” وتضحياتِهم ومن سقطَ منهم ومن بقي.
إقرأ أيضاً: بين تمّوز وتشرين: خارطة خلاص أو زوال
لأنه بكل بساطة، لا أكثرية في لبنان، إلا أكثرية الاعتدال والوطنية والانتماء العربي الحضاري الحر، والالتقاء الإرادي بعالم الحرية والحداثة كله. ولا أكثرية في لبنان خارج هذا المنطق. وكلُ شواذ عنها أو خروج منها، هو أقلية الأقلية.
فكيف إذا كانت القاعدة الدائمة، أنْ “نحن والحق أكثرية”؟!