الدكتور خالد زيادة أستاذ جامعي، وباحث في التاريخ الاجتماعي والثقافي، ودبلوماسي سابق. قضى تسع سنوات في مصر، بين مثقّفيها وأدبائها وتراثها الفكري والثقافي، وسفارة لبنان، وجامعة الدول العربية. عُني بالثقافة والمثقّف الذي شغل حيّزاً واسعاً من كتبه وأبحاثه حول تعريفه، وأدواره الملتبسة، وتحوّلاته التاريخية، وعلاقته بالحداثة والسلطة.
أوائل العام الحالي، صدر له كتاب جديد بعنوان “مصر الثقافة والهويّة”، من إصدار “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، حول دور المثقّف في صنع التحوّل نحو الحداثة، وصياغة الهويّة الوطنية المصرية، من خلال جولة نقدية بمجهر بحثيّ رصين في كتب العديد من رموز وروّاد الفكر والثقافة في مصر، منذ أواخر عهد الدولة العثمانية حتى اليوم، استعرض فيها تغيّر دور المثقّف خلال الحقب المختلفة.
حول هذا الكتاب وأهمّيته، والأفكار التي يطرحها، كان هذا الحوار مع الدكتور خالد زيادة.
- لماذا كتاب عن مصر؟
- يكتب المصريون الكثير من المؤلّفات عن تاريخ مصر السياسي والثقافي، وخصوصاً المرحلة التي تبدأ مع حملة بونابرت وصعود محمد علي باشا إلى الحكم، وصولاً إلى الوقت الراهن، أي حقبة مصر الحديثة، مع ما شهدته من أحداث وتطوّرات اقتصادية وثقافية وسياسية، مروراً بالاستعمار الإنكليزي وثورة 1919، وصولاً إلى تبدّل الحكم من ملكي إلى جمهوري. ويمكنني القول إنّ المصريين مشغولون بتاريخهم من محمد علي باشا إلى الخديوي إسماعيل إلى سعد زغلول وعبد الناصر والسادات، بالإضافة إلى رموزهم الثقافية، وخصوصاً طه حسين ونجيب محفوظ.
شغل تاريخ مصر الحديث وما زال يشغل الباحثين الغربيين، من فرنسيين وإنكليز بوجه خاص، وما زالت حتى يومنا هذا تصدر مؤلّفات كتبها أوروبيون عن مصر. لكن من النادر أن يكتب عربي من لبنان، أو من أيّ بلد آخر، كتاباً عن بلد عربي. قد نعثر على كاتب مغربي كتب عن سلامة موسى، أو سوري كتب عن طه حسين، أو من الممكن أن يؤلَّف كاتب عربي كتاباً عن هذا السياسي المصري أو ذاك. ولكن على حدّ معرفتي، لا أذكر أنّ باحثاً عربياً خصّص كتاباً عن بلد عربي آخر. وخلال صياغتي للكتاب كان لديّ تساؤل عن مدى تقبّل المصريين للكتاب؟
يصحّ القول إنّ محمد علي هو مؤسّس مصر الحديثة، وهذا أمر معروف طبعاً لجهة بناء جيش نظامي من المصريين، وبداية تشكيل بيروقراطية إدارية
قبل الإجابة على السؤال “لماذا كتبت عن مصر؟”، أذكر أنّ معرفتي بالثقافة العربية تعود إلى بداية قراءاتي. فأنا من جيل قرأ محمود تيمور وعباس محمود العقّاد وطه حسين ونجيب محفوظ وغيرهم، حين كان الإنتاج الثقافي المصري يصل إلى كلّ البلدان العربية. وحين كانت الريادة الثقافية لا تزال لمصر. ولأنّني أمضيت في مصر مدّة تقترب من تسع سنوات بحكم عملي، فقد تعرّفت خلالها على أغلب المثقّفين المصريين، أي أنّ معرفتي بالثقافة المصرية وثيقة ومتواصلة. أمّا لماذا كتبت عن مصر، فلأنّني أعتقد أنّ تجربة مصر السياسية والثقافية تمثّل نموذجاً يمكن أن نفسّر من خلاله تلك العلاقة المعقّدة والمتشابكة بين المثقّف والسياسة.
– رجعت في الكتاب إلى المؤرّخ الجبرتي الذي أرّخ لفترة طويلة قبل حملة بونابرت وبعدها.. ما أهمّية الجبرتي بالنسبة لكتابك؟
– الجبرتي يعرّفنا على مصر قبل أن تطالها تأثيرات الحملة الفرنسية، وقبل أن تشهد تحديثات محمد علي باشا، أي نعرف من خلاله الوضع السياسي والثقافي السابق للتحديث. وموقع الفئات النافذة من المماليك إلى العلماء إلى التجّار. وهذا ما يفيدنا بالتغيّرات الاجتماعية ومواقع الفئات بعد صعود محمد علي إلى حكم مصر.
– ما هي أهمّ إنجازات فترة حكم محمد علي التي تجاوزت أربعين سنة (1805-1848)؟
– يصحّ القول إنّ محمد علي هو مؤسّس مصر الحديثة، وهذا أمر معروف طبعاً لجهة بناء جيش نظامي من المصريين، وبداية تشكيل بيروقراطية إدارية، إضافة إلى وضع أسس التعليم الحديث، وبداية وضع نظام مُلكيّة الأرض. والأهمّ هو تدمير النظام القديم التقليدي الذي يقوم على ثلاث مؤسّسات شبه مستقلّة: العسكر غير النظامي (السيفيّة) وطبقة رجال الدين (العلميّة) وجهاز الكتّاب الإداري (القلميّة). لقد أنشأ محمد علي جيشاً نظاميّاً وإدارة حديثة، وانتزع النفوذ الاجتماعي من أيدي علماء الأزهر وألزمهم بوظائف التدريس.
– هل يُعتبر الخديوي إسماعيل امتداداً لعهد جدّه محمد علي باشا؟
– تنتمي فترة حكم الخديوي إسماعيل (1863-1879) إلى زمن مختلف، عرفت خلالها بلدان مثل لبنان وتركيا وتونس تأثيرات أوروبا الفكرية والثقافية، وهو “عصر التنظيمات”. وفي تلك الفترة من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تولّدت قناعة لدى الحكّام والإداريين والمثقّفين بأنّ تحصيل التقدّم الأوروبي أمر يحتاج إلى الإرادة وإلى سنوات أو عقود قليلة، وذلك قبل أن تظهر المشروعات الاستعمارية الأوروبية على حقيقتها.
منذ عهد إسماعيل بدأ دور المثقّفين يتصاعد، لأنّهم اعتقدوا بأنّ دورهم هو صياغة وبناء دولة حديثة تقوم على التعدّدية
في فترة حكم الخديوي إسماعيل تمّ تأسيس القاهرة الحديثة العمرانية، وافتتاح قناة السويس التي وضعت مصر في قلب المصالح الأوروبية، وحدث انفتاح ثقافي على أوروبا وإطلاق الصحافة والتعليم الحديث على نطاق واسع، وظهرت مع رفاعة رافع الطهطاوي وعلي مبارك أفكار تتعلّق بالوطنية المصرية والمؤسّسات الرمزية، مثل المتحف ودار العلوم ومدرسة الحقوق التي خرّجت الشخصيات الوطنية التي ستؤسّس للوطنية المصرية لاحقاً، أمثال مصطفى كامل ولطفي السيّد وسعد زغلول.
– كتابك يحمل عنوان “مصر الثقافة والهويّة”.. لماذا التركيز على هذين المصطلحين أو المفردتين؟
– كتابي ليس تأريخاً لمصر بالمعنى الشائع، وإنّما هو عن الدور الذي لعبه المثقّفون في صياغة الهويّة المصرية وحدود هذا الدور. ولا بدّ هنا من توضيح يتناول مفهوم المثقّف الملتبس في الفترة السابقة للتحديث، أي السابقة للقرن التاسع عشر. كان رجال الثقافة هم الفقهاء، أي رجال الدين. أمّا المثقّف فهو الذي اكتسب ثقافة أوروبية، وأصبحت هذه الثقافة هي التي تحكم تفكيره.
صحيح أنّ رفاعة الطهطاوي هو في الأصل طالب أزهريّ معمّم، وذهب إلى فرنسا بصفته إمام البعثة التي أرسلها محمد علي باشا لاكتساب العلوم الحديثة، إلّا أنّ الطهطاوي عاد من باريس مشبعاً بأفكار التنوير الفرنسية ومعجباً بالنظام الفرنسي، وحاول طوال حياته، وفي مؤلّفاته الأساسية التي كتبها في فترة حكم الخديوي إسماعيل، أن يوفّق بين الشريعة والقيم الحديثة مثل الوطنية والحرّية والعدالة الاجتماعية إلخ.
منذ عهد إسماعيل بدأ دور المثقّفين يتصاعد، لأنّهم اعتقدوا بأنّ دورهم هو صياغة وبناء دولة حديثة تقوم على التعدّدية، وأنّ دورهم هو في إعداد أسس تربوية إن في التعليم المدرسي، أو في نشر القيم الاجتماعية. كان كلّ المثقّفين المصريين من أحمد لطفي السيّد إلى طه حسين وعباس محمود العقاد إلى سلامة موسى وغيرهم، مفكّرين تربويّين. وقد نشروا وترجموا وروّجوا في أعمالهم للعلوم والأفكار الحديثة. وكانوا يؤمنون بأنّ التربية هي السبيل إلى رقيّ المواطن وتقدّم المجتمع.
– ما هي علاقة المثقّف بالسياسة؟
– كان المثقّفون المصريون في الفترة الليبرالية (1919-1952)، وهي الفترة التي عرفت فيها مصر الأحزاب والبرلمان وصحافة تمتلك حيّزاً واسعاً من حرّية التعبير عن الرأي، منخرطين في السياسة يؤسّسون الأحزاب ويرأسونها، مثل أحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل، ويشاركون في الانتخابات البرلمانية مثل عبّاس العقاد، ويكتبون المقالات السياسية في الصحف وينحازون إلى هذا الحزب أو ذاك. وكان كلّ ذلك تعبيراً عن مرحلة كان المثقّف خلالها معنيّاً بتأييد سياسات محدّدة، وكان ذلك يبدو بديهياً في تلك الفترة.
لمشرق العربي يعاني من فقر فكري مزمن بسبب سيطرة التيارات الأيديولوجية في الخمسينيات والستّينيات، ثمّ طغيان الصراعات السياسية على حساب التفكير الحرّ
من جهة أخرى، كان المثقّفون معنيّين بتحديد هويّة مصر، ففي فترة العشرينيات انحاز عدد من المثقّفين إلى فكرة مصر الفرعونية، إلا أنّ هذه الموجة انحسرت في ثلاثينيات القرن العشرين، حين ظهرت تيّارات عقائدية جديدة مثل الإخوان المسلمين ومصر الفتاة والجمعيات الشيوعية. وكان للفاشية الإيطالية تأثيرها في ظهور “مصر الفتاة”، ويمكن القول هنا إنّ جماعة الإخوان المسلمين قد تأثّرت بالفاشية لجهة سرّيّة التنظيم والطاعة للمرشد، الذي هو بمنزلة الزعيم في الأحزاب القومية الاشتراكية.
– كيف أثّرت هذه التيّارات العقائدية على المثقّفين؟
– إنّ الشهرة التي اكتسبها المثقّفون الكبار لم تنقص في واقع الأمر. وقد استمرّوا في التأثير طوال حياتهم التي امتدّت حتى الستّينيات والسبعينيات من القرن العشرين. ولكن الذي حدث هو أنّ الموضوعات التي أصبحت مدار نقاش هي مسائل تتعلّق بهويّة مصر: هل هي إسلامية أم عربية أم مصرية؟ وينبغي أن نأخذ بالاعتبار أنّ مفكّرين كانوا من دعاة الليبرالية السياسية والفلسفية تحوّلوا إلى الكتابة في الموضوعات الإسلامية. فقد كتب محمد حسين هيكل “حياة محمد” و”في منزل الوحي”، وكتب العقاد في سير الصحابة، وكتب طه حسين عن الفتنة الكبرى.
العالم برمّته يشهد تراجعاً في دور المثقّف السياسي والاجتماعي. ويعود ذلك إلى أنّ الدول والأنظمة راسخة إلى الحدّ الذي لم تعد تحتاج إلى المثقّف ليصوغ لها الأفكار والسياسات
– هل تبدّل وضع المثقّف من العهد الملكي إلى العهد الجمهوري بعد ثورة يوليو (تموز) 1952؟
– أيّد بعض المثقّفين الكبار حركة الضبّاط وأطلقوا عليها اسم ثورة. لكنّ نظام يوليو (تموز) كان في وقت مبكر قد ألغى الحياة الحزبية وتعدّد الأصوات والآراء. كانت فكرة النظام أنّ على المثقّفين أن يؤيّدوا الثورة، وأن يتبنّوا خياراته في النظام السياسي. وأصبح النظام هو الذي يحدّد هويّة مصر من خلال تبنّي “القومية العربية”، وجرى تطويع للمثقّفين وإلغاء حرّية الصحافة.
خلال عهد عبد الناصر استمرّ دور مصر الثقافي في العالم العربي من خلال أعلام الأدب، أمثال توفيق الحكيم وطه حسين وإحسان عبد القدوس ويحيى حقي وكثير من الأدباء، واتّبع النظام سياسة نشر الكتب وتوزيعها في العالم العربي. لكن في الخمسينيات والستّينيات بدأت بيروت تتحوّل إلى عاصمة للنشر والترجمة وإصدار المجلّات المتعدّدة الآراء والتوجّهات وتبنّي تيارات الحداثة الشعرية. لقد بدأ آنذاك دور مصر الثقافي في الضمور.
إقرأ أيضاً: هوركاد لـ “أساس”: خامنئي آخر مرشد للثّورة .. والرئيس الجديد هو الأهم..
– وماذا عن المثقّف في مصر والعالم العربي في الوقت الراهن؟
– يتفوّق المغرب العربي في إنتاج الأفكار، وكذلك في ميدان الأبحاث الفلسفية والعلوم الاجتماعية والإنسانية، في الوقت الذي لم يعد تأتينا من مصر مؤلّفات ذات قيمة فكرية. وفي الوقت نفسه فإنّ دور المثقّف في مصر لم يعد ظاهراً في السياسة أو في النقاش حول الهويّة الوطنية.
أعتقد أنّ المشرق العربي يعاني من فقر فكري مزمن بسبب سيطرة التيارات الأيديولوجية في الخمسينيات والستّينيات، ثمّ طغيان الصراعات السياسية على حساب التفكير الحرّ.
في جميع الأحوال، فإنّ العالم برمّته يشهد تراجعاً في دور المثقّف السياسي والاجتماعي. ويعود ذلك إلى أنّ الدول والأنظمة راسخة إلى الحدّ الذي لم تعد تحتاج إلى المثقّف ليصوغ لها الأفكار والسياسات. أمّا في عالمنا العربي، فإنّ الأنظمة التسلّطية تحتقر المثقّف وتهمّشه.