حدّد لودريان موعداً أخيراً لإمكان انتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية اللبنانية، في أواخر تموز المقبل.
محذّراً من أنّ بعد هذا التاريخ نهايةَ لبنان السياسي. وإن بقيَ لبنان الجغرافي.
نظريّاً، هناك فرصة ثانية. في نافذة زمنيّة ضيّقة وصعبة.
متى يحينُ أوانُها، ولماذا وكيف؟
والأهمّ، ماذا سيكون بين الفرصتين؟ ولماذا تحدّث الفرنسي العتيق عن نهاية سياسية لهذا البلد؟
هذا ما سنشهده خلال أسابيع قليلة، وهذا ما تحاول عرضه واستكشافه هذه السطور.
باختصار، مصيرُ رئاسة لبنان بات خاضعاً لمعادلة هندسية واضحة جداً:
1- الانتخابُ يحتاج إلى اتفاقٍ بين واشنطن وطهران.
2- الاتّفاق المذكور سيكون محكوماً بقاعدة الأواني المستطرقة، وسيولة الأثمان المدفوعة بموجبه. من داخل إيران إلى داخل لبنان. مروراً باليمن والعراق وسوريا وغزّة.
فمن يقبضُ هنا سيدفعُ هناك. ومن يأخذ في ملفّ يعطي في آخر. حتى تتوازن مستويات الأواني المذكورة، بين مياه بحور الاتفاق المنشود. من قزوين إلى المتوسّط، مروراً بالبحر الأحمر وربّما حتى البحر الأسود وربّما أكثر.
في لبنان، ستكون الجزئيّة الرئاسية ضمن الاتفاق الأميركي الإيراني، فيها شيءٌ من طريقة تحديد بداية المباريات الرياضية. حيث إذا اختار رابحُ القرعة تحريكَ الكرة بدايةً، كان لخصمه أن يختار جهتَه من الملعب. والعكسُ صحيح.
ثمن المرشّح
إذا اختارت إيران أن تسمّي هي المرشّحَ الرئاسي، عليها أن تدفع ثمناً لباقي الأطراف المعنيّين بالمعادلة، خصوصاً لإسرائيل عبر أميركا. أو للأخيرة عبر الأولى.
وإذا اختارت أن تقبض في لبنان، سيكون عليها أن تقبل بتسمية رئيسٍ ليس من اختيارها. لكن بموافقتها.
3- إزاء ذلك، يبقى لقوّتين اثنتين حقُّ الفيتو الرئاسي والقدرة على ممارسته فعليّاً. وهما المعارضة اللبنانية، بمروحة قواها المختلفة. والمجموعة العربية، وعمودها الفقري السعودية.
4- وبالتالي، إذا تخطّى الثمن اللبناني الداخلي المدفوع أميركياً لوكيل طهران في بيروت، حدّاً معقولاً أو مقبولاً، سترفع المعارضة اللبنانية بطاقة الفيتو بوجهه.
لا رافعة لبنانية اسمها رفيق الحريري، لتتلقّف اتّفاقهما النظري في النورماندي وتنفّذه بسلاسة وهدوء
وإذا تخطّى الثمنُ المقبوضُ من إيران إقليمياً حدودَ التوازنات الخليجية تحديداً، سترفع السعودية فيتو مقابلاً. وقد يتلاقى الفيتوان الاثنان.
5- ليس صحيحاً أنّه يمكن لاتّفاقٍ أميركي إيراني أن يُذلّل أيَّ قدرة على الرفض وأن يشكّل محدلة في الرئاسة وما بعدها.
يكفي أن نتذكّر على سبيل المثال سنة 1988، حين اتّفق ريغان مع الأسد على تعيين رئيس للبنان، هو مخايل الضاهر. فسقط اتّفاقهما في بيروت. ولم يُنفّذ لاحقاً، إلا بعد تغيير الاسم، لمصلحة رئيس توافقي فعليّ، هو رينيه معوض. وبعد اغتياله. ثمّ بعد صدفة اجتياح صدّام للكويت بعد نحو سنتين. وخصوصاً بعد انتحار خصوم دمشق بين نهر الموت ونهر الكلب، في حروبهما التدميرية.
بينما الصورة اليوم مختلفة كلّياً. في كلّ مكوّنٍ منها. ولا لزوم للتفصيل.
حتى إنّ المعلومات تؤكّد أنّ السفيرة الأميركية حاولت التلويح لبعض المعارضين بكلامٍ تهويليّ. فسمعت ردّاً كان كافياً لدوزنةٍ حصلت بعدها وكانت ضرورية.
انطلاقاً من هذه المعطيات حمل لودريان طرحَه البسيط لكن العمليّ: إذهبوا إلى خيار رئاسي توافقي. وانتخبوه قبل انشغال واشنطن بحروب بايدن – ترامب. فمنذ مطلع آب سيصبح الكون بالنسبة إلى أهل واشنطن مختزلاً باستطلاعات الولايات المتأرجحة لا غير.
قبل ساعات من الانتخابات الأميركيّة
لكنْ نعم هناك نظريّاً فرصة ثانية لانتخاب رئيس لبناني. هي الفرصة المتاحة قبيل ساعات أو أيام قليلة من موعد انتخاب رئيس أميركي. تماماً كما الفرصة التي سمحت بانتخاب ميشال عون في 31 تشرين الأول 2016، قبل 8 أيام من انتخاب ترامب.
وسط هذا المشهد المأساوي، جاء لودريان متردّداً متشكّكاً وغادر عاجزاً حزيناً على دوره وبلده
منطق تلك الفرصة الثانية أن تتنبّه طهران في اللحظات الأخيرة إلى احتمال وصول ترامب. مع ما يعنيه ذلك من تشدّد مفرط في سلوك واشنطن حيالها. فتبادر إلى تقديم تنازلات ما لمصلحة بايدن. على أمل أن تنعكس لمصلحته في صناديق الاقتراع. فيتجنّب نظام الملالي جنون ترامب من جهة. ويكون قد “سلّف” الرئيس المنتخب ما يأملُ سدادَه له لاحقاً من جهة ثانية.
بعد تلك النافذة الصغيرة، ستتسارع وتيرة الانهيارات. ذلك أنّ وصول ترامب سيعيد إيران إلى مناخات التشدّد. كما إعادة انتخاب بايدن ستجعله متحرّراً من اعتبارات الولاية الأولى كلّياً.
في كلتا الحالتين، ستدخل المنطقة في مرحلة انتقالية بانتظار تسلّم الإدارة الأميركية الجديدة. أو انتظار إعادة تكوين إدارة ولاية بايدن الجديدة. وهو ما يعني انتظار نهاية الفصل الأوّل من سنة 2025.
عندها، وإذا لم يكن قد حصل تغيير جذري في إسرائيل، سيتلقّف نتنياهو الفرصة ليرفع مستوى التصعيد على جبهاته كافّة. وفي حساباته أن يستمرّ في حربه حتى الانتخابات الإسرائيلية التشريعية المقبلة. بحيث يستثمر شعبوياً بالدم ونظرية المواجهة الوجودية. وهو الموعد المقرّر في أيلول 2025. أكثر من ستة أشهرٍ ستكون مسرحاً لجنون إضافي من نتنياهو. ولتحلّلٍ لبناني كامل على المستويات كافّة.
هنا يصير مفهوماً تحذير لودريان من نهاية لبنان السياسي. وبقائه مجرّد ساحة جغرافية. قد تنحسر عنها صراعات الخصوم والأعداء. لتتحوّل حصراً إلى مجالٍ لتنافس الممانعين الحلفاء. تنافس كواسر فوق جثّة، بين إيران الخائبة في غزة، وسوريا المنتشية بسلسلة عوداتها العربية.
أين رفيق الحريري؟
وسط هذا المشهد المأساوي، جاء لودريان متردّداً متشكّكاً. وغادر عاجزاً حزيناً على دوره وبلده. والأهمّ علينا كبلدٍ سابق بأدوارٍ بائدة.
فهو يدرك أنّ تكراره تجربة 2004 شبه مستحيل. فلا رئيسُه يشبه شيراك. ولا رئيس نظيرِه الأميركي من آل بوش.
ولا اتّفاقَ بين الرئيسين الحاليّين على معاقبة خامنئي. كما اتّفق خليفتاهما على مقاصصة الأسد الابن قبل 20 عاماً.
حدّد لودريان موعداً أخيراً لإمكان انتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية اللبنانية، في أواخر تموز المقبل
والأهمّ، لا رافعة لبنانية اسمها رفيق الحريري، لتتلقّف اتّفاقهما النظري في النورماندي، وتنفّذه بسلاسة وهدوء على طريقة خيط الحريري. قبل أن يتمّ “إقناعها” بأطنان المتفجّرات!
غادر لودريان متيقّناً من أنّ أحداً لا يمكنه الانتصار في بيروت في ظلّ الموازين القائمة. وأنّ أكثر من طرف ما زال متوهّماً بذلك. وأنّ هذه الموازين ليست مرشّحة للتبدّل في المدى المنظور. فلا يبقى للبنان إلا المزيد من التفكّك والتحلّل. والأخطر أن يكون هناك أكثر من طرف داخلي أو خارجي، يحلم بالاستثمار في ذلك.
إقرأ أيضاً: دبلوماسيّ يكشف عقل لودريان: هكذا يفكّر وهكذا سيتصرّف
ربّما الإيجابية الوحيدة اليتيمة في هذا المشهد أنّ الوقت لم يعد مفتوحاً إلى ما لا نهاية. ففترة النزع أو الاحتضار، أو على العكس فرصة الإنقاذ والخلاص، باتت محدّدة ومعروفة. إنّها بين تمّوز وتشرين.
لمتابعة الكاتب على X: