طرابلس عاصمة الثقافة العربية 2024. إعلان تاريخي ينتظر اللبنانيون والطرابلسيون أن تليه إعلانات كثيرة، تعيد طرابلس إلى دورها وجغرافيتها ولبنانها، وتعيد لبنان إلى طرابلس. فهل من قرار برفع الغبن عن عاصمة لبنان الثانية وكبرى مدنه؟
خلال الاحتفال بإطلاق فعاليات “طرابلس عاصمة للثقافة العربية 2024″، قبل أيام، خاطب وزير الثقافة محمد مرتضى الحضور والرئيس نجيب ميقاتي، ابن طرابلس، قائلاً: “إذا كانت طرابلس، لم يتسنَّ لها أن تكون العاصمة السياسية للجمهورية اللبنانية، فإن وزير الثقافة، بصفته القيم على الملف الثقافي في لبنان، يعلن من بعد إذنك يا دولة الرئيس، بأن هذه المدينة الدرّة، عاصمة أولى ودائمة للثقافة في وطننا، اعتباراً من تاريخه، مع ما يترتب على ذلك من نتائج”.
الاعتراف بطرابلس
إذاً، أخيراً طرابلس عاصمة للثقافة العربية لعام 2024، بعد طول انتظار وتأخير وتأجيل. فبعد ثلاثين عاماً تقريباً على إطلاق المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، برنامج الاحتفاء بالعواصم العربية للثقافة، تخليداً للمكانة الثقافية للمدن العربية، حطّت الرحال في طرابلس التي “كان يُفترض أن تُعلَن عاصمةً للثقافة العربية قبل اليوم بكثير”، كما قال خلال الاحتفال مدير عام الإسكوا محمد ولد اعمر. شمل الاحتفاء حتى الآن نحو 27 مدينةً عربيةً. طال الانتظار كثيراً حتى صار وطناً.
عمر الغبن الذي لحق بطرابلس من عمر الجمهورية اللبنانية؛ قرن كامل. عقود وطرابلس تتجرع المرّ والأسى، حرماناً وغبناً وتجاهلاً وتهميشاً… إلخ. آخر المرّ أو العلقم، وصمها بالإرهاب. لعقود خلت، قُدّمت المدينة على أنها موطن الإرهاب وعاصمته، ومنبت الجهل والتخلف، وملجأ الفقر والحرمان.
مدينة العيش المشترك، ومدينة المسيحيين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم
“دعشنة طرابلس”
قُدّمت كذلك عمداً وعن سابق إصرار وتصميم. اشتغل كثر على ربطها بقندهار، ولطالما سموها قندهار المتوسط أو لبنان أو الساحل الشرقي للمتوسط، في محاولة لاختزالها بالإسلاميين الذين تحصنوا فيها. لكن هيهات يخفى القمر، وهيهات تُطمس الحقائق، إذ لا بد مهما طال الزمن أن ترتدي طرابلس الفيحاء، وهو لقبها التاريخي، رداءها الذي لا رداء لها سواه: رداء الثقافة والفكر والانفتاح، المطرّز بالتاريخ والمرصّع بالأحداث المفصلية.
طرابلس مدينة إسلامية خرجت مئات العلماء الكبار للعالم الإسلامي كله، لكنها لم تكن يوماً مدينة الإسلاميين. وطرابلس أيضاً مدينة العيش المشترك، ومدينة المسيحيين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم. لا تختلف طرابلس عن أخواتها من مدن حوض المتوسط من حيث الفسيفساء الاجتماعية. فيها من ثقافات وحضارات البحر والبرّ، كلها. لكنهم قرروا قتلها. قرروا وأدها أقلّه منذ مئة سنة وحتى اليوم، وكلاً على طريقته ولأسباب في نفسه. ولكن من يقدر على طرابلس؟
زيارة سريعة
طرابلس هي العاصمة الثانية للبنان. عاصمته الثانية المغبونة تاريخياً. للدقة، طرابلس مدينة لبنانية معاقبة، منذ عهود وعقود. لماذا؟ لأنها تفكّر. لأنها تقول لا. ولأنها تقول كلمتها وتبقى، لا تمشي أبداً. فعلت هذا على مرّ التاريخ، خاصة في القرن الأخير. قالت لا لإلحاقها بلبنان، بدءاً من العام 1920. هي طرابلس الشام، لا لأن هناك طرابلس الغرب، بل لأنها كانت تاريخياً متنفس الشام ودمشق، ومرفأهما إلى العالم، وعاصمتهما على البحر. هي أقرب إلى الشام منها إلى بيروت، جغرافياً وسياسياً. هكذا كانت طوال عقود خلت. ودفعت ثمن موقفها. لاحقاً دفعت أثماناً كثيرةً بسبب مواقفها دفاعاً عن العرب في وجه العالم، ودفاعاً عن لبنان في وجه العرب. لطالما كانت طرابلس مشاكسةً وهذا دأب المدن المثقفة إذا جاز التعبير.
طرابلس مدينة إسلامية خرجت مئات العلماء الكبار للعالم الإسلامي كله لكنها لم تكن يوماً مدينة الإسلاميين
قرن كامل من الغبن، وعهود من الوصم بالإرهاب، وعقود من التفقير والحرمان، وطرابلس هي هي. لم تتبدل. لم تشلح شوارعها التي تحمل أسماء مسيحيةً: شارع الراهبات، شارع السيدة، شارع الكنائس، مار مارون… إلخ. لم تشلح ثوبها الإسلامي، ولا خلعت عنها الفاطميين والمماليك، وقبلهم الفينيقيين والروم والبيزنطيين والصليبيين. وقبلهم الآشوريين واليونانيين والفراعنة. حفظت ترابها جيّداً.
عُرفت منذ الأزل أن موقعها تحت ظلال الأرز وعلى شاطئ المتوسط، يحمل رسالةً إلى الدنيا. أوصلت الرسالة حين قُدّر لها ذلك، وخبّأتها لتحفظها إلى حين، يوم منعوها. والمانعون كثر يضجّ بهم التاريخ منذ الكنعانيين والفينيقيين وصولاً إلى يومنا هذا، مروراً بيوم كانت فيه عاصمة المماليك الثانية بعد القاهرة. نعم، ذات يوم كانت القاهرة وطرابلس لا تسبقهما مدينة في حوض المتوسط، ولا تضاهيهما مدينة في العالم.
قرار برفع الغبن؟
ولكن، ما الذي يعنيه إعلان طرابلس عاصمةً للثقافة العربية؟ السؤال هنا ليس عن الفعاليات الثقافية والمشاريع المرافقة لهذا الإعلان والمواكبة له على أهميتها. السؤال هو هل يعكس هذا الإعلان قراراً بالسماح للمدينة بأن تكون وتمارس دورها وتنهض من جديد، بعد قرارات تاريخية تقضي بألا تكون؟ لسنوات عاقب السوريون طرابلس في أثناء وجودهم في لبنان. لم يغفروا لها وقوفها بجانب ياسر عرفات. قبلهم، عاقبها الفرنسيون لرفضها سايكس بيكو، ووقوفها مع سوريا. بينهما خشي كثيرون منها على بيروت، مدينةً وعاصمةً ومرفأ.
منذ انفجار مرفأ بيروت والعين على طرابلس. بعد بيروت، لا ترى السفن والبواخر المتوجهة إلى لبنان وسوريا، غير طرابلس، حيث الميناء الضخم والقابل للتوسع إلى ما لا نهاية. للمناسبة، مطار القليعات قريب جداً إلى طرابلس. هو مطارها عملياً إذا ما انطلق العمل فيه. أكثر من ذلك، عند طرابلس من التاريخ ما ليس عند بيروت. في طرابلس آثار لا تعدّ ولا تحصى. أكثر من مئتي معلم أثري موزعة على التاريخ قريبه والبعيد. إلى ذلك طرابلس مدججة بالسهول ومحصنة بالجبال ومفتوحة أكثر على البحر.
طرابلس عاصمة الثقافة العربية 2024. إعلان تاريخي ينتظر اللبنانيون والطرابلسيون أن تليه إعلانات كثيرة، تعيد طرابلس إلى دورها
عملياً، مرفأ طرابلس اليوم رئة لبنان على البحر. فهل تكون طرابلس رئته الثقافية بعد إعلانها عاصمةً للثقافة العربية؟ لم لا؟ طرابلس مدينة الشعراء والمثقفين والمسرحيين والفقهاء والعلماء. أسماء المجلّين فيها لا تُحصى ولا تُعدّ، من عبد الحميد كرامي وصولاً إلى صلاح تيزاني (أبو سليم الطبل)، ومن الفكر والفقه والسياسة، إلى المسرح والتلفزيون والغناء.
إقرأ أيضاً: فيروز تغنّي غزّة: أغنية راهنة… عمرها 50 عاماً
فهل اتُّخذ قرار إعادة المدينة إلى سابق عهدها، عاصمةً للصناعة والزراعة والاستيراد والتصدير؟ هل اتُّخذ قرار إعادة مصفاتها لتكرير النفط؟ هل يلي إعلانها عاصمةً للثقافة العربية، تشغيل مطار القليعات ليصير في لبنان مطاران رسميان؟
طرابلس عاصمة للثقافة العربية إعلان منتظَر في لبنان منذ زمن طويل، قد يكون فاتحة عودة المدينة إلى سابق تاريخها ودورها.
لمتابعة الكاتب على X: