اضطرب الأرخبيل الفرنسيّ في المحيط الهادئ. عادت من جديد مسألة كاليدونيا الجديدة. ذكّرت العالم بأنّ الاستعمار لم ينتهِ. حتى بعد مرور أكثر من قرن على نهاية الإمبراطوريّات. مرّة أخرى اهتزّت صورة فرنسا التي كانت ذات يوم دولة عظمى. ألغى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مواعيده. استقلّ طائرة الرئاسة للحفاظ على “هيبة الجمهوريّة” ونفوذها. فالعالم يشهد “عودة الإمبراطوريات” كما قال قائد البحريّة الفرنسيّة في أحد المؤتمرات البحثيّة، “وعلى فرنسا أن تكون جاهزة”. بالنسبة لباريس القضيّة أبعد من مطالبة “شعب أصيل” بالاستقلال. إنّها قضيّة جيوسياسيّة بامتياز. وهي تقع في منطقة ستصبح في السنوات والعقود المقبلة قلب الصراعات الجيوسياسية في العالم.
في 13 أيار الجاري أطلق “الكاناك”، وهو الشعب الأصليّ في كاليدونيا الجديدة، انتفاضة شعبيّة احتجاجاً على تصويت مجلس الشيوخ والجمعيّة الوطنيّة في باريس على قانون تعديل اللوائح الانتخابيّة قبيل الانتخابات المحليّة. تعديل يعطي الفرنسيين الموجودين منذ أكثر من عشر سنوات حقّ التصويت لانتخاب السلطات المحليّة في الأرخبيل الذي تبلغ مساحته حوالي 18 ألف كلم مربّع ويتمتّع بنوع من الحكم الذاتي بموجب الدستور الفرنسيّ. وهو تعديل رأى فيه الكاناك إمعاناً في إضعاف حضورهم. فهم بالكاد يشكّلون 40% من عدد السكّان البالغ 270 ألفاً (إحصاء 2019).
سرعان ما تحوّلت الانتفاضة الشعبيّة إلى عنف أدّى إلى سقوط ستّة قتلى، بينهم اثنان من رجال الشرطة. أُغلقت الطرقات بالحواجز الحديديّة. شُلّت الحركة. وتوقّفت الحياة في المستعمرة السابقة التي احتلّها نابليون الثالث في 1853، وجعلها الجنرال شارل ديغول أرضاً فرنسيّة بعد الحرب العالميّة الثانية. بدا الأرخبيل على شفير حرب أهليّة! استدعى الأمر فرض حالة طوارئ من قبل الحكومة الفرنسيّة وإرسال 1,000 عنصر من قوى الشرطة مدعّمين بعناصر من قوّات التدخّل السريع المتخصّصة في مكافحة الإرهاب لدعم الـ1,700 عنصر الموجودين هناك.
استمع ماكرون إلى هواجس الاستقلاليين ومطالبهم التي يعرفها جيّداً فهي قديمة تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي
في 23 أيار طار ماكرون على جناح السرعة إلى نومِيا (عاصمة كاليدونيا الجديدة) سعياً لحلّ الأزمة. لكنّه لم يصلها بسرعة. فالرحلة إلى الأرخبيل الواقع في النصف الثاني من الكرة الأرضيّة تستغرق 24 ساعة. نجح الرئيس الفرنسيّ خلال الـ12 ساعة التي قضاها في نومِيا في لقاء غالبية الأطراف، المطالبين بالاستقلال والمعارضين له. بيد أنّه لم ينجح في جمعهم حول طاولة واحدة.
أزمة قديمة… محورها الاستقلال
استمع ماكرون إلى هواجس الاستقلاليين ومطالبهم التي يعرفها جيّداً. فهي قديمة تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي. بين 1984 و1988 شهدت كاليدونيا الجديدة اضطرابات كبيرة كانت أشبه بحرب أهلية انتهت بما يُعرف اليوم بـ”اتفاق ماتينيون” (1988). بنتيجته أقيمت المصالحة بين طرفَي الصراع: “جبهة الكاناك الاشتراكيّة للتحرير الوطنيّ” (التي تضمّ عدّة أحزاب تطالب بالاستقلال) و”الأوفياء” (تجمّع الرافضين للانفصال عن فرنسا). وعاد الهدوء إلى الأرخبيل. كما أقرّ الاتفاق مرحلة انتقالية من الحكم الذاتي يجري بنهايتها استفتاء حول صيغة الحكم المستقبليّة.
في عام 1998 حصل “اتّفاق نوميا” بين الحكومة الفرنسية والانفصاليين والأوفياء على تأجيل الاستفتاء عشرين عاماً. وبالفعل في عام 2018 جرى الاستفتاء وكانت النتيجة “لا” للاستقلال بنسبة 57%. بعدها جرى استفتاء آخر عام 2020 وكانت النتيجة ذاتها، لكن بنسبة أقلّ بقليل (53%). وبعد عام 2021 جرى استفتاء ثالث كانت نتيجته 96.5% “لا” للاستقلال بسبب مقاطعة الانفصاليين له.
بحسب بياتريس جيبلان، المتخصّصة في جيوبوليتيك فرنسا والمديرة السابقة لـ”معهد الجيوبوليتيك الفرنسيّ”، فإنّ “كلّ الكاناك لا يريدون الانفصال عن فرنسا. ومشكلة الانفصاليين أن ليست لديهم الغالبية”. لذلك قاطعوا الاستفتاء الأخير.
فوارق اجتماعيّة
بيد أنّ “المشكلة في كاليدونيا ليست فقط حول قضيّة الاستقلال، إنّما هي أيضاً مشكلة فوارق اجتماعيّة واقتصاديّة بين الكاناك والأوروبيين (البيض الذين يقطنون الأرخبيل) والفرنسيين. والكاناك يتحمّلون جزءاً من المسؤوليّة. العديد من عائلاتهم لا تهتمّ بإرسال أولادها إلى المدارس والجامعات. ولا تسعى إلى تحسين أوضاعها الاجتماعيّة والاقتصاديّة”، تقول جيبلان.
اضطرب الأرخبيل الفرنسيّ في المحيط الهادئ عادت من جديد مسألة كاليدونيا الجديدة ذكّرت العالم بأنّ الاستعمار لم ينتهِ
بحسب تقرير نشرته صحيفة “لوموند” الفرنسيّة، 8.2% فقط من الكاناك حصلوا على شهادة جامعيّة، مقابل 54.2% من الأوروبيين و37.8% من الفرنسيين. “الفوارق الاجتماعيّة مشكلة العديد من الجزر الفرنسيّة الواقعة وراء البحار. والحلّ ليس بالانفصال. فهو إذا ما حصل فسيؤدّي إلى إقامة دول فاشلة تحكمها المافيات كما حصل في بعض جزر الأنتيل”، تضيف جيبلان.
أهمّيّة جيوسياسيّة
زيارة ماكرون وتشديده على أن “لا عودة إلى الوراء”، وتذكيره أنّ الكاليدونيين قالوا كلمتهم في ثلاثة استفتاءات سابقة، كلّ ذلك يؤكّد أنّ فرنسا متمسّكة بهذه البقعة من الأرض لأسباب جيوسياسيّة:
– استقلال كاليدونيا الجديدة سيعني قيام دولة تدور في فلك الصين التي تسعى إلى بسط نفوذها في تلك المنطقة من العالم وتطمع بالحصول على مادّة النيكل، التي تتوافر بكثرة في الأرخبيل.
– نجاح الكاناك في الحصول على الاستقلال سيشجّع السكّان الأصليين في جزر فرنسيّة أخرى مثل الـ”réunion” على المطالبة بالانفصال. وهذا ما تخشاه باريس.
– “عودة الإمبراطوريات”، كما قال أميرال البحريّة الفرنسيّة، يزيد من أهميّة الأراضي الفرنسيّة في ما وراء البحار. فهي مواطئ قدم مهمّة لنفوذ فرنسا العالميّ.
هل عاد الهدوء إلى المستعمرة السابقة في المحيط الهادئ؟
إقرأ أيضاً: ماكرون: هل يدفع أوروبا إلى حرب ضدّ روسيا؟
قبل مغادرته عائداً إلى باريس قال ماكرون إنّه خلال شهر سيُحدّد مستقبل كاليدونيا الجديدة. وأضاف أنّ “آليّات عسكريّة وطوّافات إضافية سيتمّ نشرها خلال الساعات المقبلة”. وهو ما يعني أنّ باريس مصمّمة على استعادة الهدوء في الأرخبيل.
لكن إلى متى؟!
لمتابعة الكاتب على X: