لم يعدّ اللبنانيون يعوّلون كثيراً على زيارات الموفدين الدوليين. وقد لا يحمل المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان جديداً يختلف عن سابق. بيد أنّ الرجل يأتي هذه المرّة زاعماً حمل اقتراحات للتحاور، لكنّها مغلّفة بأعذار يراد منها إجراء استطلاع ميداني حديث يضاف إلى حراك اللجنة الخماسية. وفي حقائب مبعوث الإليزيه ملفّات تواصل بين بلاده والرياض وواشنطن وأجواء من إيران عقب مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي وقبل أسابيع من انتخاب رئيس إيراني جديد.
تعيد باريس تشغيل محرّكاتها في لبنان استناداً إلى عدّة تطوّرات:
– الأوّل: اتصال أجراه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في 15 أيار. سرّبت المعلومات أنّ ماكرون أراد من خلال هذا التواصل، من بين شؤون أخرى، جسّ نبض السعودية حيال الموقف من لبنان واستطلاع إمكانات تنسيق جهود البلدين وربّما تكاملها لإنتاج مقاربة تنهي الفراغ الرئاسي وترسم مسار خروج البلد من مأزقه.
– الثاني: استعدادات فرنسا لاستقبال الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يزور باريس في حزيران المقبل لبحث ملفّات مختلفة تتعلّق بعلاقة واشنطن وباريس بصفتها أحد المداخل الرئيسية لعلاقة سويّة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (استعدّ ماكرون لهذا الدور بزيارة ألمانيا الأحد). وإذا كان ملفّ “الحرب في أوروبا” على جبهة أوكرانيا ملفّاً رئيسياً، فإنّ المعلومات تفيد بأنّ فرنسا ستعوّم ملفّ لبنان على مائدة الرئيسين.
– الثالث: مراقبة فرنسا للوضع في إيران بعد مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان في حادث سقوط المروحية في 19 أيار وما استتبع ذلك من إجراءات أشرف عليها المرشد علي خامنئي لإعادة ترتيب البيت الداخلي، بما في ذلك الدعوة إلى انتخاب رئيس جديد خلفاً لرئيسي في 29 حزيران المقبل. وتراقب باريس ما ترتّب على هذه التطوّرات من مفاعيل لبنانية.
تنفي أوساط قريبة من الإليزيه وجود “فريق عمل” أميركي متخصّص بالشأن اللبناني على منوال “خلايا” باريس
– الرابع: رصد باريس للتطوّرات المتعلّقة بالحرب في غزّة، بما في ذلك الجدل حول عملية رفح وإمكانات استئناف المفاوضات في القاهرة بعد لقاء جمع في باريس رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) ومدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية CIA ورئيس وزراء قطر التي تشارك في الوساطة، وعلاقة تلك الحرب بتوتّر الوضع على الحدود اللبنانية الإسرائيلية بعد حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 23 أيار عن “خطط مفاجئة” ضدّ لبنان وتحديد الوزير في مجلس الحرب بيني غانتس شهر أيلول موعداً لها. وتستطلع فرنسا إمكانات التحرّك سياسياً في لبنان بمعزل عن أجواء الحرب في جنوب لبنان.
– الخامس: صدور تقرير عن البنك الدولي في 23 أيار يكشف تضخّم حجم الفقر في لبنان إلى أكثر من 3 أضعاف ووصوله إلى نسبة 44 في المئة من عدد السكان، وصدور تقرير عن صندوق النقد الدولي في اليوم نفسه يفيد بأنّ “الإصلاحات الاقتصادية غير كافية” لتعافي البلد، وتنامي حالة التوتّر بشأن ملفّ النازحين السوريين على الرغم من حمل رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين والرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس مغلّفاً من مليار يورو للسنوات الأربع المقبلة لمساعدة لبنان.
مهمّة استطلاع عاجلة
لئن لاحظت فرنسا سرعة في التحوّلات الدولية في الشرق الأوسط، لا سيما في ما خرج عن محكمة العدل الدولية في 24 أيار وقبلها عن مدّعي عامّ المحكمة الجنائية الدولية في 20 أيار من إدانة لإسرائيل، وذهاب 3 دول في الاتحاد الأوروبي هي اسبانيا وإيرلندا والنروج في 22 أيار إلى حدّ الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فإنّ إرسال ماكرون لمبعوثه جان إيف لودريان إلى بيروت لا يحمل جديداً فرنسياً فوريّاً لفكّ عقد الملفّ اللبناني، بل هي مهمّة استطلاع “عاجلة” طلبها ماكرون للحصول على مشهد جديد، والحصول على معطيات محدّثة، توفّر للرئيس الفرنسي دعم مداولاته مع الرياض وعرض خططه بشأن لبنان مع ضيفه الأميركي في حزيران.
توضح المصادر الفرنسية أنّ رياح التطبيع لا تشمل لبنان في جهود هوكستين
تقول مصادر باريس إنّ فرنسا لم تجدْ تناقضاً بين جهودها في لبنان والجهود الأميركية التي يبذلها المستشار الرئاسي آموس هوكستين. تضيف المصادر أنّ واشنطن أبلغت الفرنسيين أنّ مهمّات مبعوثها منصبّة على ضبط جبهة الشمال الإسرائيلي والتأكيد مع بيروت على انضباط جبهة الجنوب اللبناني بما في ذلك تطبيق القرار 1701 ولو بصيَغ خلّاقة. وتوضح المصادر أنّ هوكستين الذي أشرف على إنتاج اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، في تشرين الأول 2022، مكلّف باستكمال هذه العملية بالإعداد لاتفاق “تاريخي” لترسيم الحدود البرّية بين البلدين.
تنتهي المصادر إلى أنّ مهمّة هوكستين تأتي في سياق سياسة “تبريد” الشرق الأوسط التي تنتهجها الولايات المتحدة، على منوال جهود وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان لإنتاج اتفاق بين واشنطن والرياض قد يصبح لاحقاً جزءاً من صفقة لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل.
توضح المصادر الفرنسية أنّ رياح التطبيع لا تشمل لبنان في جهود هوكستين، لكنّ العمل هو على “فكّ اشتباك” يقفل “صندوق الرسائل” من خلال لبنان، وهو ما يتيح للدبلوماسية الفرنسية، بالتشاور مع الرياض وواشنطن، لعب دور متميّز بين الفرقاء اللبنانيين لصياغة معادلة تنتج رئيساً في لبنان. ويقوم الجهد الفرنسي على إدراك أنّ موازين القوى الإقليمية والدولية الراهنة متعادلة وعاجزة عن حسم الصراع لفريق على حساب آخر.
لا وجود لمشروع أميركيّ قطريّ
تنفي أوساط قريبة من الإليزيه وجود “فريق عمل” أميركي متخصّص بالشأن اللبناني على منوال “خلايا” باريس في هذا الصدد. وترى أنّ واشنطن ما زالت تقارب الشأن اللبناني من زاوية مصالح إسرائيل، تماماً كما فعلت لإجلاء قوات منظمة التحرير الفلسطينية عام 1982 أو حين أعطت الضوء الأخضر قبل وبعد ذلك لسوريا في عهد الرئيس حافظ الأسد لدخول لبنان ثمّ الوصاية على شؤون الحكم فيه. وتودّ تلك الأوساط التأكيد أن لا أجندة لبنانية في سلّم الأولويات الأميركية وأنّ واشنطن ما زالت داعمة لمسار فرنسي في هذا الصدد.
إرسال ماكرون لمبعوثه لودريان إلى بيروت لا يحمل جديداً فرنسياً فوريّاً لفكّ عقد الملفّ اللبناني بل هي مهمّة استطلاع عاجلة
الظاهر أنّ هذه الرؤية الفرنسية تنفي وجود مشروع أميركي قطري (تحدّثت عنه بعض الأنباء) يسعى إلى فرض خطّة حلّ في لبنان بمعزل عن مسار باريس. حتى إنّ تقارير فرنسية دقيقة أكّدت أنّ التحرّك القطري في لبنان منسّق بشكل كامل مع السعودية وتعتبره الرياض قناة ناجعة في ظلّ ضبط الرياض لمستوى حيويّة دبلوماسيّتها في لبنان.
تؤكّد المصادر أنّ استمرار التنسيق بين الرياض وباريس، بما في ذلك التواصل الأخير بين الرئيس الفرنسي ووليّ العهد السعودي، يقوم على قناعة لم تتزحزح بشأن موقع السعودية الأساسي في تحديد بوصلة أيّ توجّهات على مستوى الرئاسة في لبنان. وهو أمر سبق أن جاهرت به طهران من خلال تمريرها رسائل، حتى من خلال وزير خارجيّتها الراحل عبد اللهيان، بأن “لا رئيس في لبنان يستفزّ ولا يرضي السعودية”.
على الرغم من وجود قنوات اتصال بين باريس وطهران، ووجود تواصل بين باريس والحزب في لبنان وبعضه علنيّ من خلال السفارة الفرنسية في بيروت، غير أنّ فرنسا تعوّل أيضاً على استئناف طهران وواشنطن محادثات مباشرة جرت في مسقط على نحو معلن، وفق ما أكّده ممثّل إيران في الأمم المتحدة، أمير سعيد إيرواني، الذي أضاف أيضاً في 19 أيار أنّ “هذه المفاوضات لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة”. ويضاف التواصل المباشر إلى تلك التي تجري عبر قنوات خلفية صامتة.
إقرأ أيضاً: لودريان في بيروت: الاعتدال الوطني يتصدّر “التشاور”
تلاحظ باريس في هذا الصدد أنّه، حتى بعد مقتل رئيسي وعبد اللهيان، وهما واجهات لهذا التوجّه الانفتاحي على محادثات مباشرة مع واشنطن، لا تتوقّع فرنسا، وفق مصادر دبلوماسية، تغيّراً من قبل إيران ينقلب على هذا الاتجاه. وتؤكّد هذه المصادر أنّ معطيات أميركية اطّلعت عليها باريس تؤكّد أنّ واشنطن لم تلحظ تغيّراً في موقف طهران عمّا سبق أن أعلنته قبل محادثات مسقط، وعلى لسان مستشار السياسة الخارجية للمرشد الأعلى، كمال خرازي، الذي أعلن في 12 أيار عن انفتاح على محادثات مباشرة مع الولايات المتحدة.
لم يعدّ اللبنانيون يعوّلون كثيراً على زيارات الموفدين الدوليين. وقد لا يحمل المبعوث الفرنسي لودريان جديداً يختلف عن سابق
وفق تشابك كلّ هذه المعطيات تنحصر مهمّة لودريان في لبنان في جسّ نبض الفرقاء اللبنانيين بشأن سيناريوهات محتملة (بما في ذلك الحوار في باريس) واستطلاع مواقفها حيال التحوّلات الجارية في المنطقة والعالم. وفي ضوء “الداتا” التي سيجمعها ستُعدّ باريس ملفّها اللبناني وستسعى من جديد إلى تسويق آليّة حلّ تحتاج إلى دعم خارجي “لا يستثني أحداً”، طالما أنّ فرنسا، وخصوصاً موفدها الذي بات خبيراً محنّكاً في الشأن اللبناني، تستنتج عقم التعويل على أيّ آليّة داخلية للخروج من النفق.
لمتابعة الكاتب على X: