“الحركة” إذ “تلبنن” القضيّة الفلسطينيّة

مدة القراءة 7 د

في حراكها السياسي تستعير حركة “حماس” أسوأ ما في لبنان. أوراقها السياسية على شاكلة كلّ السياقات اللبنانية التي اشتقّها “الحزب” منذ اتفاق الطائف حتى اليوم. أدبها السياسي على مثل ومثال الحزب. حيناً تريد اتّفاقات مبتورة تماثل تلك التي حازها لبنان فكان أن صعد الحزب “ضوئيّاً” إلى أعلى الهرم السياسي فحلّ محلّ الدولة. وأحياناً تسعى في مناكب التدويل لتتماثل مع لبنان.

 

 

حركة “حماس” تستدعي كلّ خارج ممكن ليكون ضمانة لصعودها، كما فعل شقيقها اللبناني “الحزب” الذي لم يُبقِ ولم يذر من لبنان شيئاً حتى صار مشروع الوطن أرضاً للإيجار. أسوأ ما حصل للبنان كان في السعي إلى وضع عديد الجيش على اللوائح الماليّة في هذه الدولة أو تلك. بلدٌ حاله هكذا لا يُرتجى منه شيء في السياسة ولا في العسكر، ومن قبل الاثنين: السيادة الوطنية.

الوطن الهجين

بمليار يورو ونيّف. هذا ليس إعلاناً للبيع، ولا للاستثمار. هذا خبر مؤكّد في بلاد الأرز العليل. حدثٌ وقع وصار. قُضي الأمر. بقعة جغرافية تتميّز بجبالها وسهولها وأنهارها القريبة من البحر، وبسيادة اللاقانون فيها وانتشار السلاح والجريمة المنظّمة وغير المنظّمة، وباختلاف أهلها فيما بينهم حدّ التهديد باندلاع حرب أهليّة، ارتأى الغرب بقضّه وقضيضه أنّها المكان الأصلح لاستقبال اللاجئين والنازحين السوريين كما حصل زمن النكبة. دفعت الدول الكبرى وقبض الأهل.

ما يشيع في فلسطين اليوم: اللبننة. لا تحرير ولا تحرّر ولا استقلال. زمن القرار الوطني الفلسطيني ذوى. أيضاً زمن الدولة الفلسطينية ما عاد له مكان في غزّة ولا في غيرها من الأراضي الفلسطينية. لا أحد يريده، لا الإسرائيليون، ولا الفلسطينيون الحمساويون (حركة حماس)، أو الجهاديون (حركة الجهاد الإسلامي). العرب يرونه عبئاً يصدّع دولهم.

أقصى ما تطمح إليه حماس اليوم دويلةٌ على غرار “دويلة” الحزب. تُكاسر العالم سعياً وراء قواعد اشتباك كالتي يزعم الحزب في جنوب لبنان فرضها على الإسرائيلي. حماس والجهاد تريدان فلسطين من البحر إلى النهر. بالنسبة إليهما: الصراع مع الإسرائيلي صراع وجود لا حدود. الباقي مجرّد كلام إعلامي للتداول وتمضية الوقت، ريثما يكتمل النموذج اللبناني في غزّة.

أقصى ما تطمح إليه حماس اليوم دويلةٌ على غرار “دويلة” الحزب. تُكاسر العالم سعياً وراء قواعد اشتباك كالتي يزعم الحزب في جنوب لبنان فرضها على الإسرائيلي

النموذج اللبناني الذي صنعه الحزب في لبنان، وتطمح إليه حماس في غزة، دويلة خارج الدولة. وكذلك اقتصاد على هامش الاقتصاد الوطني وفي صلبه. الأهمّ لها منذ انشقّت على “الأهل” هو أمن خاصّ وأمن مشترك مع الدولة أو من خلالها. فيضُ حراكها هو استيراد وتصدير وعلاقات دولية سياسية ودينية واقتصادية وتجارية.

“حماس” صار لها جيش موازٍ ومؤسّسات تربوية وتعليمية خاصة، وقس على ذلك في مختلف المجالات. تريد حماس اليوم 1701 جديداً في غزة، وقواعد اشتباك مرعيّة دولياً، وغزة حاضنةً جغرافية والغزّيين حاضنةً سكّانية. تنشد حماس لبنان في غزة. تريد أن تتلبنن على طريقة الحزب.

كلّ حراكها السياسي، وهو نادر، يمضي على هدى “الحزب”. هذا مسار اشتقّته منذ أن حسم فيها “الجناح الإيراني” المسار الفعليّ. الرثّ هو أنّ “الحركة” اختارت أسوأ ما في لبنان، أي “الحزب”، فجعلته مثلاً ومثالاً. كلّ تراث المقاومة الفلسطينية ونضالها لاستقلال القرار الوطني تبدّد. صارت الحركة في أوراقها السياسية تنسخ مواضيَ لبنانية كانت فاضت على لبنان وأهله فصار ساحةً تنعقد فيها التناقضات من كلّ حدب وصوب.

“اللبننة” أهلاً وسياقاً

منذ إعلان قيام دولة لبنان الكبير عام 1920، واللبنانيون بأكثريتهم يخشون من “تعريب” بلدهم. اليوم، بعد مئة عام ونيّف على ذلك الإعلان، يخشى العرب من “لبننة” بلادهم. لم يكن المقصود بالتعريب السابق الذكر البُعد الهويّاتي والقومي للّبنانيين ولبنان كوطن نهائي، ولا وجهاً من وجوه الوطن. المقصود كان القمع والعسكرة. كان “الوطن الممتدّ من البحر إلى البحر سجوناً متلاصقةً سجّان يمسك سجّاناً”، كما قال مرّةً الشاعر العراقي مظفّر النوّاب. وكان “السجن الكبير” كما وصفه المعلّم الراحل كمال جنبلاط.

أمّا اللبننة، فلا يُقصد بها التنوّع الحضاري والديني والإثني الذي لطالما شكّل ميزةً إضافيةً للبنان. ولا تُقصد بها الديمقراطية والحرّيات التي تمتّع بها لبنان منذ القدم قياساً إلى أقرانه من الأوطان العربية. منذ زمن بعيد لم تعُد “اللبننة” تعني الجرائد والحرّيات والمعارض والمطابع والمقاهي ودور النشر.

كما لم تعد “اللبننة” تعني الانفتاح على الآخر والعيش معه في ظلّ الاختلاف. ولا التنوّع والتعدّد. لبنان المرفأ والمطار والفندق والمطعم والمصيف والجامعات والإرساليّات، انتهى. صلة الوصل بين الشرق والغرب، حلّ مكانها “الثورة التكنولوجية”. أكثر من ذلك، أحدهم يريده أن يصير أرضاً لتصدير النازحين واللاجئين إلى أوروبا. يريد أن يفتح البحر أمام ملايين السوريين وغير السوريين.

تريد حماس اليوم 1701 جديداً في غزة، وقواعد اشتباك مرعيّة دولياً، وغزة حاضنةً جغرافية والغزّيين حاضنةً سكّانية

لا أدمغة ولا كتب ولا مثال يُحتذى. واحة الحرّيات في صحراء القمع تبدّدت. كستها الرمال الجافّة. لم يعد لبنان وجهةً سياحيةً تجذب السيّاح من كلّ حدب وصوب، صيفاً وشتاءً وعلى مدار السنة. لم يعد لبنان وجهة المعارضين العرب المقموعين في بلدانهم. لم يعد العرب يقصدونه للتعبير عن آرائهم ومعتقداتهم المغضوب عليها من أنظمتهم.

وها هي حماس تريد “لبننة” فلسطين وقضيتها. بأسوأ معاني “اللبننة”، وليس أفضلها بالطبع.

الوطن الخيمة

صار البلد قطعة مغناطيس تجذب النازحين واللاجئين فحسب، الهاربين من “لبننة” بلادهم. لم يعد وطناً فيه مطاعم وفنادق يقصدها العرب من كلّ الأقطار العربية. صار خيمةً كبيرةً تحوي من النازحين ما هبّ ودبّ. صار خيمةً كبيرةً لا تملك الدولة اللبنانية أيّ إحصاء لعدد مَن فيها. خيمة بإيجار.

المشكلة الحقيقية أنّ الخلاف في لبنان اليوم بين قوى الأمر الواقع فيه لم يعد حول الوضع القائم، ولا حول وجود النازحين واللاجئين فيه. يسلّم السياسيون اللبنانيون بالأمر الواقع ويستسلمون له. خلافهم على بدل الإيجار، وعلى توظيف النازحين واللاجئين أولئك. ترضى الحكومة بمليار ونيّف، لقاء بقاء اللاجئين فيها، فيما يطمح آخرون مشاركون فيها إلى أكثر من مليار. إلى عشرين أو ثلاثين ملياراً، وربّما أكثر. وسيلتهم إلى ذلك تهديد أوروبا بهم وابتزازها.

الأفق المسدود

لبنان البيت الذي بـ”منازل كثيرة” كما وصفه المؤرّخ كمال الصليبي، صار ساحةً بتجارب متنوّعة، ومرفأً بصادرات مختلفة، وكلّها نوعيّة: حروب أهليّة، فساد، انهيارات ماليّة، حروب دينية وطائفية، ميليشيات (استيراداً وتصديراً)، شهادات دكتوراه مزوّرة، كبتاغون وحشيش… إلخ. منذ زمن بعيد لم نعد نصدّر إلى العالم لبنانيين. نحن اليوم نصدّر “اللبننة”. و”اللبننة” مصطلح فضفاض فيه من المشكلات ما لا يمكن أن يعثر عليه امرؤ في دولة واحدة وعصر واحد. خليط من الفساد واللاقانون واللاأخلاق، مع مزيج من السلاح والمخدّرات.

إقرأ أيضاً: نتنياهو و”حماس”.. واحد

الأفق صار مسدوداً. الشعر والنثر والفكر والعلم والترجمة، والفندق والمقهى والمطعم والجريدة والكتاب لم تعد سلعاً نصدّرها. ربّما بعد وقت قصير نستوردها. كنّا نخشى تعريب لبنان وجعله نسخةً مصغّرةً عن الأنظمة العربية. وكانت الأنظمة العربية تخشى من لبننة أراضيها ومواطنيها فتهبّ الرياح اللبنانية عليها وعليهم وتعمّ الديمقراطية والحرّيات. صرنا نتحسّر على العرب ودولهم ونحلم بأن يعود الأمن ومواطنوها إليها. أمّا هي فلا تزال تخشى “اللبننة”، لكنّ النسخة الأحدث منها: الحرب والفساد والانهيار المالي والأخلاقي والإنساني.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…