السعودية ترعى “حوار الحضارات”: كيف نصنع السّلام بين الأمم؟

مدة القراءة 8 د

حضرتُ مهرجاناً أمميّاً عاشته العاصمة البرتغالية لشبونة في 14-16 أيار الجاري. جمع الحدث قامات في السياسة والدين والفكر والبحث والإعلام. تقاطر الحضور من جهات الدنيا الأربع تلبية لدعوة مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات (كايسيد) لحضور منتداه العالمي للحوار. ويسهل لأيّ مراقب استنتاج أنّ المركز يقيم في هذه المناسبة “أمماً متّحدة” موازية لتلك التي نعرفها في نيويورك.

السعودية هي صاحبة هذه المبادرة. تأسّس المركز في عام 2012 اتّساقاً مع رؤية الرياض لآليّات خلّاقة لإرساء السلام في العالم. فالمملكة رقم صعب في الشرق الأوسط، وهي رقم صعب في العالم، وتملك من بين ما تملك مفاتيح للأمن والسلام. من تلك الرؤية أُطلقت فكرة الحوار المستدام بين أمزجة ومصالح وثقافات للخروج من حلقة باتت تضيق في هذا العالم وتتغذّى من صعود رياح التعصّب واستخدام الدين والثقافة في عالم متشابك المصالح.

بعد 6 سنوات من انشغال العالم بمؤلّف صموئيل هانتينغتون الذي صدر عام 1996 بعنوان “صدام الحضارات”، أنشأت السعودية وشركاؤها مركز “كايسيد” لحوار الحضارات. لم يحمل المركز هذا الاسم، لكنّ في فلسفة الحدث إيماناً بالحوار لا بالصدام. فإذا كان “الإنسان عدوّ ما يجهل”، فإنّ الأديان والثقافات تتعادى إذا ما جهلت بعضها بعضاً. الآليّة وفق ذلك بسيطة. فلنذهب إلى حوار صريح مباشر يهدف إلى تبادل التعارف والمعرفة. والآليّة لا تعتمد على أوهام ونصوص معقّدة، بل تستند إلى تماسّ بشريّ مباشر لطالما حظرته مفاهيم وأجندات وأحياناً كثير من بلادة. أسّست السعودية “كايسيد” بالشراكة مع النمسا وإسبانيا والفاتيكان بصفة مراقب. وما بين مركزه الأوّل في فيينا، ثمّ انتقال المركز إلى لشبونة، بات “كايسيد” رقماً صعباً وميدان تقاطع وتلاقٍ وحوار.

أسّست السعودية “كايسيد” بالشراكة مع النمسا وإسبانيا والفاتيكان بصفة مراقب. وما بين مركزه الأوّل في فيينا، ثمّ انتقال المركز إلى لشبونة

الدكتور زهير الحارثي

هو الملتقى الأوّل للمركز منذ انتقاله إلى لشبونة. هناك تتالى المشاركون على الإدلاء بالرأي. شارك في أعمال المنتدى 150 شخصاً، من بينهم قيادات دينية ورؤساء دول حاليُّون وسابقون وقادة الأمم المتحدة وممثّلو المجتمع المدني ووفود شبابية. يقود مركز “كايسيد” الدكتور زهير الحارثي ابن السعودية وابن تحوّلاتها الرائدة. التقيته في لشبونة وقد باعدت السنوات اللقاء منذ آخر لقاء قبل حوالي عقد في الرياض. وجدت الرجل مدركاً بحرص أهمّية الدور الذي يقوم به المركز للعالم كما لبلاده. ويدرك أيضاً أنّ “السعودية الجديدة”، بقيادة الملك سلمان بن عبد العزيز وراعي رؤية 2030 وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، باتت حجر زاوية في مستقبل السلم في الشرق الأوسط كما الأمن والاستقرار في العالم.

في كلمته في افتتاح المنتدى تتسرّب مفاهيم من وعيٍ لعالم هذا اليوم. يستنتج الحارثي أنّ “العالم يتغيّر بسرعة، ونعيش في عصر تتصاعد فيه الصراعات، والانقسامات العميقة، وانعدام الثقة المتزايد”. يتطلّب الأمر، وفق كلمته، “أن نشعر بالقلق ونظلّ يقظين والحفاظ على الأمل”.

وإذا ما كان الحوار وسيلة فهو أيضاً طريقة عيش. وعلى هذا فلا يراد للحوار أن يكون مناسبة تنتهي بانتهائها. يقول الحارثي: “هذا المنتدى ليس حدثاً آخر ينتهي خلال يومين، بل تمّ إعداده لإلهام العمل وتمهيد الطريق لإحداث تأثير مستدام، فلنغتنم هذه الفرصة لنسير معاً ونمضي قدماً”.

يراد لوظيفة الحوار الذي يقوده الحارثي أن يكون أمميّاً همّه الإنسانية جمعاء. وهو في هذا الصدد يؤكّد دائماً أنّ “كايسيد” منظمة دولية تعمل داخلها عشرات الجنسيات وتتعاطى في ورشها في العالم مع مئات الجنسيات. ولأنّ الميدان والهدف يرومان مخاطبة العالم، فإنّ المركز يتعامل، دائماً من خلال الحكومات، مع الجماعات الدينية والإثنية والعرقية والثقافية في مواطن وجودها داخل كلّ القارّات. فإذا ما كانت لشبونة قد شهدت “عرساً” حضارياً بامتياز، فإنّ “كايسيد” تعمل أحياناً بهدوء وصمت طوال أيام السنة لإرساء تقاليد التقارب والتعارف وثقافة الحوار أينما احتاج الأمر إلى ذلك.

يتابع العالم مواقف وتصريحات بشأن وساطة أميركية مستمرّة ومثابرة من أجل تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل

غزّة.. في لشبونة

الحدث إنساني. لكنّه ليس خارج سياق ما يجري من صراعات في هذا العالم وفق ما استنتجه من محادثات مع المشاركين. ففي كلّ كلمة أُلقيت وكلّ سؤال طُرح وكلّ نقاش فُتح يظهر الواقع بمخالبه حاضراً يحتاج إلى معالجات المتحاورين.

وفيما المنتدى منعقد، تتدافع التقارير عمّا يجري في غزّة وعن جهود الرياض وعواصم الدنيا لوقف المقتلة. ويتابع العالم مواقف وتصريحات بشأن وساطة أميركية مستمرّة ومثابرة من أجل تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. وإذا ما تكرّر المملكة مواقفها بأن لا حلّ ولا سلام دائماً ولا علاقات طبيعية إلا بمسار سياسي لا رجعة عنه لإقامة دولة فلسطينية، فإنّه سهلٌ في منتدى “كايسيد” استنتاج تثمين رؤى السعودية لإرساء سلام حقيقي دائم في منطقتنا.

التقط رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماتيو رينزي هذه الحقيقة. وصف جهود وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في تعزيز السلام العالمي بـ”المهمّة”، وأكّد أنّ “رؤيته تعزّز الحوار في منطقة الشرق الأوسط والعالم”. أعرب في تصريحات صحافية على هامش المنتدى عن تقديره للجهود الكبيرة التي تبذلها السعودية من أجل تعزيز السلام بالمنطقة والعالم. والتقط أيضاً حقيقة أنّ المنتدى منصّة مهمّة لتعزيز التواصل والتفاهم بين القيادات الدينية والسياسية.

اختلافاتنا تثري العالم.. وهو مسؤوليّتنا المشتركة

ذهب الشيخ صالح بن حميد، إمام وخطيب المسجد الحرام بعيداً في تعريف خريطة طريق للسلام. قال إنّ “الحوار الحقيقي يمكن أن يبني شراكات وتحالفات متينة، ويوحّد أصواتاً متعدّدة من مختلف أنحاء العالم، ويوجّهها نحو التزام مشترك بتعزيز السلام”.

لاقاه في هذا الاتجاه الرئيس النمساوي السابق هاينز فيشر. تحدّث الرجل عن حوار في سياق متحوّل (وهو شعار المنتدى)، واعتبره ضرورة “في وقت نشهد فيه مواقف مأساوية ومفجعة في جميع أنحاء العالم”، فدعا إلى أن “نتّحد جميعاً، سياسيين وقيادات دينية وأشخاصاً عاديّين، في العمل من أجل السلام وحقوق الإنسان والمساواة”.

الحدث إنساني. لكنّه ليس خارج سياق ما يجري من صراعات في هذا العالم وفق ما استنتجه من محادثات مع المشاركين

بدا في كلمات أوغستو سانتوس سيلفا، وزير خارجية البرتغال السابق، تسليمٌ بمنطق “كايسيد”. اعترف بأنّنا نعيش في أوقات الاضطرابات الاجتماعية والاستقطاب السياسي والصراعات المسلّحة في أجزاء كثيرة من العالم. ما العلاج؟ قال: “ينبغي أن يكون أساس هذا الحوار هو الالتزام الواضح بحقيقة أنّ اختلافاتنا تثري العالم، والعالم هو مسؤوليّتنا المشتركة”.

الجهل بالتعدّد وعدم قبول الاختلاف يسوقان إلى التعصّب ثمّ التطرّف. وبدت في حديث الدكتور شوقي علَّام، مفتي الديار المصرية، عن حتمية الحوار، دعوة إلى الاعتراف بهذا الآخر. قال إنّ “تعزيز الحوار بين أتباع الأديان والثقافات ليس مجرّد التزام أخلاقي، بل هو ضرورة ملحّة لضمان وحدة نسيج المجتمع الإنساني وإنقاذ الأجيال المقبلة من الوقوع في براثن التطرّف والكراهية والعنف والتعصّب”.

من بين من حضر أعمال المنتدى رئيس أساقفة القسطنطينية البطريرك برتولوميوس الأوّل، ورئيس الوزراء الإيطالي الأسبق ماتيو رنزي، والقائد الروحي للمسلمين في أذربيجان، ورئيس بلدية لشبونة كرلوس مويداس، وكبير حاخامات بولندا مايكل شودريتش عضو المجلس الإسلامي اليهودي في أوروبا. وشارك في المداخلات الرئيس الفرنسي الأسبق للجمهورية فرنسوا هولاند، وغراسا ماشيل نائبة رئيس الحكماء في المركز، والرئيس السابق للبرلمان البرتغالي أوغوستو سانتوس دا سيلفا.

من يعرف حكاية الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان يعرف السمّاك جيّداً بحيث بات اسمه مرادفاً لمفهوم الحوار

الدكتور محمّد السمّاك… من المؤسّسين

في المنتدى التقيت المطران مارون ناصر الجميِّل، ممثّل البطريرك مار بشارة بطرس الراعي. هو راعي أبرشية ‫فرنسا للمورانة والزائر الرسولي على الموارنة في أوروبا. دعا في كلمته إلى “أن نختار الحوار والتعاون لتحقيق السلام والاستقرار وإيجاد حلول شاملة. والحوار ليس مجرد محادثة نجريها، بل هو نهج قوي لفهم وجهات نظر الآخرين واهتماماتهم ومصالحهم”. وقد أبدى لي اهتماماً بالاستماع إلى مشاركة الدكتور محمد السماك.

من يعرف حكاية الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان يعرف السمّاك جيّداً بحيث بات اسمه مرادفاً لمفهوم الحوار. فاز بجائزة “الملك فيصل لخدمة الإسلام” لعام 2024، وذلك لإسهاماته المبكرة والمتواصلة في تعزيز الحوار الإسلامي المسيحي وعمله الدؤوب في تعزيز علاقات الحوار والتواصل مع الآخر. عرفت منه في لشبونة أنّه من الذين عملوا على تأسيس مركز “كايسيد” منذ بداياته والإعلان عنه. وجدته حريصاً على نجاح الملتقى باعتباره نجاحاً شخصياً له أيضاً. تكلّم السماك عن المركز وعن الحوار، وردّد كما لو أنّه يودّ بعث رسائل تطمئن المركز ومن وراءه ومن يعمل فيه ومن يتابعه بأنّ “كايسيد” “يسير على سكّة الصواب”، وأنّ مهامّه ضرورة إنسانية بامتياز.

إقرأ أيضاً: التسوية: لا ثقة للعرب برعاتها وأطرافها

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…

كنّا نخاف منه وصرنا نخاف عليه

قبل عام 1969 كان العالم العربي والإسلامي يتدافع نحو أخذ صورة مع جمال عبدالناصر، ثمّ بعد العام نفسه صار العرب والمسلمون ومعهم عبدالناصر يتدافعون للوقوف…

دعاية “الحزب” الرّديئة: قصور على الرّمال

لا تكفي الحجج التي يسوقها “الحزب” عن الفارق بين جنوب الليطاني وشماله للتخفيف من آثار انتشار سلاحه على لبنان. سيل الحجج المتدفّق عبر تصريحات نوّاب…

معايير أميركا: ملاك في أوكرانيا.. شيطان في غزّة

تدور حرب ساخنة في كلّ من أوروبا (أوكرانيا)، والشرق الأوسط (غزة – لبنان). “بطل” الحرب الأولى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، و”بطل” الحرب الثانية رئيس الوزراء…