لوّحت طهران مرّتين في أسبوع واحد بتغيير عقيدتها النووية، الأمر الذي فُسّر بأنّها باتت على استعداد للتخلّي عن فتوى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي بتحريم تصنيع القنبلة النووية، أو الانسحاب من الاتفاق النووي ورفع كلّ القيود عن الأنشطة النووية والانسحاب من معاهدة منع الانتشار النووي. وكلا التفسيرين يمثّلان تحوّلاً خطيراً في الموقف الإيراني.
جاء التلويح الأوّل على لسان قائد هيئة حماية المنشآت النووية في إيران، العميد أحمد حق طلب، الذي قال إنّه “إذا أراد الكيان الصهيوني التهديد بمهاجمة المراكز النووية الإيرانية، فإنّ من المرجّح مراجعة العقيدة والسياسات النووية الإيرانية والعدول عن الاعتبارات المعلنة في السابق”، مضيفاً أنّ “أيادينا على الزناد، وقد تمّ تحديد المنشآت النووية الإسرائيلية”.
أمّا التلويح الثاني فأدلى به رئيس اللجنة الاستراتيجية العليا للعلاقات الخارجية كمال خرازي الذي يوصف بأنّه المستشار الخاص للمرشد، وجاء فيه: “لم نتّخذ بعد قراراً بصنع قنبلة نووية، لكن إذا أصبح وجود إيران مهدَّداً، فلن يكون أمامنا أيّ خيار سوى تغييير عقيدتنا العسكرية”. وأضاف أنّ طهران لمّحت بالفعل إلى امتلاكها القدرة على صنع مثل تلك القنبلة، موضحاً أنّه “في حال شنّت إسرائيل هجوماً على منشآتنا النووية، فإنّ ردعنا سيتغيّر”.
جاء تصعيد المستشار الكبير الذي رأس لسنوات الدبلوماسية الإيرانية، بعد يومين من زيارة المدير العام لوكالة الطاقة الذرية رافييل غروسي لطهران وإعلانه عدم رضاه عن محادثاته مع المسؤولين الإيرانيين الكبار ومطالبته “بنتائج ملموسة في غضون شهر في القضايا الخلافية بين الطرفين”.
أفاد التقرير الذي رُفع إلى خامنئي أنّ إيران تمتلك حاليّاً من اليورانيوم المخصّب ما يجعلها قادرة على امتلاك قنبلة نووية في ظرف 24 ساعة
طلب التراجع عن فتوى “التحريم”
قبل ذلك بأيام، تحدّثت وسائل إعلامية إيرانية عن تقرير رفعه قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، يطالبه فيه بالتراجع عن فتواه الخاصة بتحريم امتلاك السلاح النووي. وكان هذا التقرير حصيلة نقاشات موسّعة بين جنرالات الحرس الثوري توصّلت إلى أنّ امتلاك السلاح النووي هو الضمانة الحقيقية لبقاء النظام، وأنّ المراهنة على وسائل أخرى لحماية النظام مجرّد افتراضات غير واقعية. وأفاد التقرير الذي رُفع إلى خامنئي أنّ إيران تمتلك حاليّاً من اليورانيوم المخصّب ما يجعلها قادرة على امتلاك قنبلة نووية في ظرف 24 ساعة، فضلاً عن قدرتها على امتلاك ما يقرب من 25 قنبلة نووية خلال شهر تقريباً، علماً أنّ هذه المطالبات بدأت تجد صداها داخل الأوساط السياسية الإيرانية، وتحديداً التيار المتشدّد، الذي أيّد هذا المطلب بشدّة.
لكنّ المصادر نفسها أجمعت على أنّ خامنئي شدّد في اجتماعه مع جنرالات الحرس الثوري على أنّ مسؤولية حماية النظام تقع على عاتق المرشد الأعلى في البلاد، وأنّه وحده من يقرّر الوسيلة المناسبة لحماية النظام، مؤكّداً أن لا تراجع عن الفتوى الخاصة بتحريم امتلاك السلاح النووي، وأنّ مجرّد إدراك العدوّ لقدرة إيران على امتلاك السلاح يمثّل الرادع الحقيقي الذي سيجعل العدوّ يفكّر كثيراً قبل أن يهدّد النظام في طهران، معتبراً أنّ إيران نجحت في ترسيخ هذا التصوّر لدى الولايات المتحدة وإسرائيل.
مخاطر النموذج الكوري الشمالي
يدرك خامنئي مخاطر تقليد النموذج الكوري الشمالي، نظراً إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها إيران بسبب سوء الإدارة والعقوبات الدولية القاسية المفروضة عليها. فبيونغ يانغ نجحت في امتلاك السلاح النووي، لكنّها حرمت سكّانها من الخبز وأنتجت مجتمعاً هزيلاً اقتصادياً واجتماعياً. وفي الحالة الإيرانية تبدو الأمور أكثر خطورة، خصوصاً في ظلّ الترابط الوجودي بين النظام الإيراني والمشروع الإقليمي، الذي يعتمد في وجوده على بقاء النظام مستقرّاً في طهران.
يدرك خامنئي مخاطر تقليد النموذج الكوري الشمالي، نظراً إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها إيران
عليه يدرك خامنئي مخاطر التصعيد النووي مع المجتمع الدولي. لكنّ تشديده على مسألة التوقّف عند العتبة النووية يشير إلى وجود نيّات حقيقية لديه لامتلاك القنبلة المدمّرة، في ظروف تتطلّبها حاجات الردع. فهل التلميحات الجديدة الصادرة عن قادة إيرانيين كبار هي مجرّد رسالة إلى الدول الغربية والشرقية والإقليمية مفادها أنّ طهران قد تضطرّ إلى ذلك إذا استشعرت تهديداً وجوديّاً، وتالياً حضّ المجتمع الدولي بشقّيه الشرقي والغربي على لجم إسرائيل التي تتمادى في تهديداتها؟ أم هناك خشية إيرانية جديدة من خطر بدأ يحيق بها؟
ظلال التوتر مع إسرائيل
لا شكّ في أنّ الحرب الإسرائيلية على غزة، التي دفعت بإيران وإسرائيل إلى أوّل اشتباك عسكري مباشر بينهما، أنتجت معادلات جديدة وقواعد جديدة للتعامل بين الطرفين. وهذا الاشتباك الذي ظلّ مضبوطاً ضمن سقوف محدّدة، زاد المخاوف من أن يتحوّل التوتّر بينهما إلى كارثة نووية لإيران في ظلّ العمليات التخريبية التي استهدفت منشآتها النووية وعلماءها النوويين خلال الأعوام الماضية، والتي قد تزداد لاحقاً.
كما يشكّل النمط الغامض في سلوك إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في التعامل مع إيران قلقاً من أن تواصل واشنطن سياسة احتوائها في بيئة إقليمية ودولية متعدّدة الأطراف، وتقليص قوّتها الرادعة في البيئة الإقليمية. وتدرك إيران أنّ الهدف الرئيسي لهذه الإدارة هو عدم السماح لها بتجاوز العتبة النووية تحت أيّ ظرف. ويرى المسؤولون الإيرانيون أنّ الولايات المتحدة في ظلّ إدارة بايدن ربّما لديها فرصة أكبر من أجل الضغط على إيران، لأنّ التفاهم عبر الأطلسي سيسمح للأوروبيين بأن تكون مواقفهم أكثر انسجاماً مع الموقف الأميركي من إيران، لا سيما بعدما أكّدت الدول الأوروبية ضرورة معالجة سلوك إيران الإقليمي وبرنامج الصواريخ الباليستية، إلى جانب البرنامج النووي. وبالفعل فرضت هذه الدول مجتمعة عقوبات قاسية ضدّ طهران تشمل كلّ القطاعات والمجالات، بدءاً من قادتها الكبار وصولاً إلى برامجها المتعلّقة بالصواريخ والمسيّرات، ومروراً بالقطاع النفطي والماليّ والتجاري.
لا شكّ في أنّ الحرب الإسرائيلية على غزة، التي دفعت بإيران وإسرائيل إلى أوّل اشتباك عسكري مباشر بينهما، أنتجت معادلات جديدة وقواعد جديدة للتعامل بين الطرفين
تركيا – باكستان – السعودية
كذلك لا تنظر طهران بارتياح إلى التعاون العسكري المطّرد بين تركيا وباكستان والمملكة العربية السعودية، حيث عقدت اللجنة العليا العسكرية للدول الثلاث المجاورة لها ثلاثة اجتماعات في بضعة شهور وأقرّت استراتيجية عمل عسكري مشترك قد تصل إلى حدّ التحالف العسكري. وهذه الدول تمتلك إمكانات كبيرة، وبينها دولة نووية. وتوّجت اجتماعاتها العسكرية بلقاءات قمّة رفيعة على المستوى السياسي سيكون آخرها الزيارة المتوقّعة لوليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لإسلام آباد بعد أيام.
طهران التي يربطها بالرياض اتفاقاً رعته الصين وتحافظ على علاقات متوازنة مع أنقرة وإسلام آباد، لم تصدر أيّ موقف رسمي في شأن هذه الاجتماعات، لكنّ معلّقين ومحلّلين مؤيّدين لها عبّروا صراحة عن تحفّظهم على هذا التحالف الجديد والغاية منه في هذه الظروف بالذات، لا سيما أنّ الدول الثلاث تطوّق إيران من ثلاثة اتّجاهات ولا تنظر بارتياح إلى التمدّد الإقليمي الإيراني وترتاب منه.
إقرأ أيضاً: غزّة تشطر تركيا إلى شطرين
هكذا تشعر طهران بأنّ لهذه الضغوط عليها قدرة حقيقية على تقليص نفوذها وتجميده على أقلّ تقدير، من خلال حرمان النظام من الموارد اللازمة لمواصلة سياساته الإقليمية، فضلاً عن تعقُب الشبكات المتعاونة، والقادرة على تمرير السياسات الهادفة لإعطاء قوّة دفع كبيرة للنظام السياسي الإيراني لمواصلة تحدّي المجتمع الدولي. فهل ينجح التلويح النووي في درء المخاطر أم يزيد المشهد الإقليمي تعقيداً فوق تعقيد؟