في قراءة نقدية حول الصهيونيّة والصهيونيّة المسيحيّة ومعاداة الساميّة، يقدّم الدكتور مصطفى علّوش خلاصة دراسة أعدّها، على أربع حلقات، ينشرها موقع “أساس”. في الحلقة الثالثة تفاصيل عن العلاقة بين الصهاينة الأوائل والنازيين، منذ العام 1941. وكيف أنّ المسيحيين الصهاينة يدعمون الصهيونية اليهودية، أملاً في القضاء عليها.
إنّ وجود علاقات وثيقة بين الصهيونية وبين المعادين المعروفين للساميّة ليس بالأمر الجديد. فالعلاقة مع المؤسّسات والشخصيات المعادية للساميّة ليست حدثاً مستجدّاً في التاريخ الصهيوني، حتى مع ألمانيا النازية. سعى أبراهام شتيرن وإسحق شامير إلى التحالف مع إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية قبل الحرب العالمية الثانية، وشكّلوا ميليشيا صهيونية متطرّفة تدعى “ليهي”. لم تتمكّن قيادة هذه المجموعة من إقناع قوى المحور بتقديم الدعم لها، وأصبحت تسمّى باسم عصابة “شتيرن”. وقد سجن شامير من قبل السلطات البريطانية في عام 1941 بسبب أعمال منظّمته الإرهابية. في عام 1989، إثر نزاع بين شامير وحركة “السلام الآن” الإسرائيلية، خرقت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية أحد المحرّمات الوطنية بكتابتها عن صلة مقاتلي عصابة شتيرن التابعة لرئيس الوزراء إسحق شامير بألمانيا النازية سنة 1941.
تعاون صهيوني – نازي قبل 80 عاماً
هذه الحادثة، الموثّقة والمعروفة للمؤرّخين، لا تُذكر أبداً في بلد يقدّس ذكرى 6 ملايين يهودي، من بينهم عائلة شامير بأكملها، قُتلوا على يد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. نسب إلى شامير قوله إنّه لن تكون هناك “مخابرات سوفيتية في إسرائيل” لمطاردة نشطاء حركة “السلام الآن” في إسرائيل، وكانوا يتظاهرون بمئات الآلاف لتحقيق السلام مع الفلسطينيين بعد انتفاضة الحجارة، فعلّقت “جيروزاليم بوست” بما يلي:
“قد يكون ذلك مطمئناً، لولا الذكرى المزعجة (لعصابة شتيرن) التي، مع أنّ “الحلّ النهائي” النازي كان جارياً (المحرقة) بالفعل في كلّ شيء ما عدا الاسم، إلا أنّها سعت إلى التعاون مع ألمانيا لإقامة دولة يهودية هنا على أساس وطني وشمولي”.
أساس العلاقة بين الصهيونية المسيحية وإسرائيل والدعم الإنجيلي لإسرائيل لتجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم، هو الاعتقاد بأنّ الله أعطى فلسطين لليهود، وبالتالي يجب أن يكونوا في “أرض الميعاد”
كما تمّ إغفال حادثة أخرى عندما عُقد اجتماع سرّي في برلين سنة 1938 بين أدولف أيخمان، مهندس المحرقة السيّئة الذكر، وفيفيل بولكس، ممثّل “الهاغانا”، نواة جيش الدفاع الإسرائيلي. ناقش الاثنان إمكانية نقل اليهود المضطهدين من ألمانيا إلى فلسطين.
تمثّل هذه العلاقات، وكثير غيرها، مجرّد حسابات سياسية من جانب السلطات الإسرائيلية، سواء في الماضي أو الحاضر. صنّاع القرار الإسرائيليون مستعدّون لتسويغ أيّ معاداة للساميّة في سبيل اليقين من الحصول على الدعم لهم على الرغم من انتهاكات إسرائيل المستمرّة ضدّ الفلسطينيين.
كيف نفهم “المسيحيين الصهاينة”؟
لكنّ أساس العلاقة بين الصهيونية المسيحية وإسرائيل والدعم الإنجيلي لإسرائيل لتجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم، هو الاعتقاد بأنّ الله أعطى فلسطين لليهود، وبالتالي يجب أن يكونوا في “أرض الميعاد”. لكن بالنسبة للمسيحيين الصهاينة، يُنظر إلى وجود اليهود في فلسطين، على أنّه شرط مسبق لمعركة “حرّ مجدو” المعركة الكبرى التي تنتهي بإبادة اليهود مع أتباع الأديان الأخرى، أو تحوّلهم إلى المسيحية الإنجيلية، حسب رؤيا عودة المسيح الثانية الموجودة في سفر الرؤيا، الفصل الأخير من الكتاب المقدّس.
الصهاينة اليهود المتديّنون غير مهتمّين بهذا الاحتمال على أساس أنّهم غير معنيّين بما يعتبروها “ترّهات مسيحية”. في حين يبدو الصهاينة العلمانيون واثقين من أنّ مثل هذه القوى غير الدنيوية غير موجودة في الواقع لتدمير العالم وتدمير إسرائيل. لهذا السبب انتهز صانعو السياسة الإسرائيليون الفرصة للاستفادة من دعم النزعات الأسطورية المسيحية الصهيونية، على الرغم من معرفتهم بجوهر عقيدتهم المعادية لليهود.
سعت إسرائيل عمداً إلى تعزيز العلاقات مع هذه الحركات ذات الطابع الشعبوي. في عام 2017، أطلقت الحكومة الإسرائيلية قمّة إعلامية مسيحية سنوية لتعزيز التواصل مع الشخصيات المسيحية، حتى مع دعاة اليمين المتطرّفين. كانت النتيجة النهائية هي إنفاق مليار دولار على دعم جماعات الضغط الصهيونية والسياسات الدعائية التي تركّز على الجيش الإسرائيلي.
وجود علاقات وثيقة بين الصهيونية وبين المعادين المعروفين للساميّة ليس بالأمر الجديد
أسباب ولادة “الصهيونية العنصرية”
العديد من الصهاينة الأوائل كانوا مدفوعين بصدمة قضية “دريفوس“، التي اتّهم فيها ضابط جيش يهودي فرنسي خطأً بالخيانة وطُرد من الجيش، على ال لطابع أساس أنهم غير معنيين بترهات مسيحيةرغم من أنّ فرنسا كان يفترض أنّها مستنيرة وعلمانية. كما أنّ إحدى المفارقات المأساوية التي خلقتها النازية، هي أنّ الكثير من اليهود الأوروبيين كانوا يشعرون بالانتماء الأوروبي، وهو الأمر الذي كان ينبغي أن يجعل من الهولوكوست أمراً مستحيلاً حدوثه. فاستوعب بعض اليهود هذه الدروس الوحشية باعتمادهم صهيونية عنصرية. حتى من دون هذه الأمثلة التاريخية لخيانة المؤسّسات التي يهيمن عليها المسيحيون لليهود، على الرغم من أنّها بدت ذات يوم أنّه يمكن الاعتماد عليها، فمن المشكوك فيه إمكان الرهان الآن على استقرار الديمقراطية في الدول الغربية، في ظلّ عودة التطرّف العنصري ليطلّ من جديد.
أصبحت نظريات السيطرة اليهودية على الولايات المتحدة واضحة الآن داخل بعض الكنائس. حيث تحتكّ الحكايات القديمة حول النفوذ اليهودي في السياسة بالرواية الدينية حول صلب المسيح. منذ مدّة قصيرة، تمّ تهديد محطة تلفزيونية إنجيلية بالإغلاق لعدم اعترافها بأنّ هدفها الحقيقي هو الدعوة إلى تنصير اليهود.
1967.. و”النشوة الأسطورية”
القضية الأخرى تعود إلى كيفية تفسير الكتاب المقدّس، وما هو شكل معركة “حرّ مجدو”. فكما هو الحال في جميع الأديان، يُستحضر الكتاب المقدّس بتفسيرات مختلفة مجازية حتى وإن استندت إلى النصّ. كان احتلال الجيش الإسرائيلي للقدس الشرقية في عام 1967 هو الذي أجّج النشوة الإنجيلية لفكرة استعادة اليهود لفلسطين. كان هذا الأمر مصدراً للحماسة الإنجيلية منذ حرب عام 1967 حول تحقيق نبوءة توراتية يعيد فيها اليهود بناء الهيكل الثالث بجانب حائط المبكى. غير أنّ هذا المشروع يتطلّب تدمير مسجد قبّة الصخرة، وربّما المسجد الأقصى المجاور، بحيث يكون هناك يقين تامّ بنشوب حرب كبرى إذا ارتكب القادة الإسرائيليون أو سمحوا بارتكاب مثل هذه الأعمال.
ثقافة الرقابة على وسائل الإعلام في الغرب في ما يتعلّق بفلسطين، والادّعاءات الكاذبة بمعاداة الساميّة ضدّ من يدافع عن حقوق الفلسطينيين، خنقت حرّية التعبير
حتى جهاز الأمن الإسرائيلي يدرك التهديد الخطير الذي تشكّله الجماعات الإرهابية اليهودية اليمينية المتطرّفة التي سعت منذ فترة طويلة إلى إحداث هذا الأمر. في اللحظة الأخيرة في عام 1984 تمّ إحباط مؤامرة كان سيقوم بها إرهابيون يهود كانوا ينوون تفجير خمس حافلات مليئة بالفلسطينيين. فكشفت التحقيقات اللاحقة عن خطط متقدّمة لتفجير قبّة الصخرة. وعلى الرغم من عدم وجود صلة مباشرة بين هذه المنظمات الإرهابية اليهودية والإنجيليين، إلا أنّه تتوافق أهداف وآراء الشخصيات المتطرّفة في كلا المعسكرين حول مشروع مجنون، كما سبق ذكره.
إنّ ثقافة الرقابة على وسائل الإعلام في الغرب في ما يتعلّق بفلسطين، والادّعاءات الكاذبة بمعاداة الساميّة ضدّ من يدافع عن حقوق الفلسطينيين، خنقت حرّية التعبير التي قد تسمح لليهود الناقدين وغيرهم بالتحذير من مخاطر دعوات الأصدقاء الزائفين لليهود الذين يخدمون في الواقع أنفسهم في التحدّث نيابة عن اليهود بحجّة الدفاع عنهم.
إقرأ أيضاً: وعد بلفور: أوروبا تطرد يهودها… وأميركا توافق (4/2)
لقد أدّى كلّ ما سبق إلى انكفاء أولئك الذين يهدفون إلى التضامن مع اليهود ضدّ معاداة السامية ومع الفلسطينيين ضدّ العنصرية الصهيونية. إنّ الكذبة الصهيونية القائلة بأنّ المسلمين والعرب معادون لليهود بطبيعتهم لمنع دعم حقوق الفلسطينيين بشكل طبيعي قد لوّثت الفكر الغربي السائد. وكان هذا الأمر ملائماً للمؤسّسات المسيحية الثقافية التي كانت دائماً أشرس مرتكبي معاداة السامية في العالم.
في الحلقة الرابعة غداً:
“وعد نابليون” سبق “وعد بلفور” بـ118 سنة