يشتدّ التساؤل بشأن طبيعة مهمّة وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه بشأن “تدبير” هدوء على الحدود الجنوبية وحقيقة ما تملكه باريس من قدرات ومواهب ونفوذ في هذا الصدد. فحتّى في ظلّ مبادرات فرنسية، كانت آخِرتها استقبال الرئيس إيمانويل ماكرون، لساعات، لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي وقائد الجيش جوزف عون، فإنّ الهمّة الباريسية تبدو محاصرة ومشفّرة بقواعد لعبة لا تمتلك مفاتيحها إلّا الولايات المتحدة.
إثر لقائه نظيره الفرنسي ستيفان سيجورنيه، أطلق وزير خارجية إسرائيل يسرائيل كاتس، الثلاثاء، “رشقة” من المواقف المتوعِّدة ضدّ لبنان والحزب. هدّد بـ “احتلال مناطق واسعة” في جنوب لبنان إذا لم ينسحب الحزب من هناك، وأنّه في حال لم يحصل ذلك، فإنّ إسرائيل “ستكون قريبة من حرب شاملة” معه. ذهب الوزير الإسرائيلي واثقاً إلى تأكيد أنّ “إسرائيل ستحارب (الحزب) في كلّ أرجاء لبنان، وستحتلّ مناطق واسعة في جنوب لبنان، وستبقى هذه المناطق تحت سيطرة الجيش كمنطقة أمنيّة”. جاء ذلك في حضرة وزير فرنسا المفترض أنّه وسيط سلام وأمن وأمان.
قبل ذلك ذكرت الأنباء أنّ المستشار الرئاسي الأميركي آموس هوكستين زار إسرائيل، ولم نلحظ أيّ تصريحات إسرائيلية ناريّة في حضور مبعوث الرئيس الأميركي المكلّف بملفّ ترسيم الحدود البرّية بعد البحريّة، والذي بات يتحدّث أيضاً عن أزمة البلد السياسية، لا سيما شغور موقع الرئاسة. بدت في المشهد حقيقة الوظيفة التي يبرع بها الوزير الفرنسي والتي تتّسق تماماً مع مكانة فرنسا المتواضعة داخل ملفّ أيّ صراع يتعلّق بإسرائيل، حتى لو ادّعت باريس من دون كلل امتلاكها نفوذاً خاصّاً في لبنان.
تقتصر مهمّة سيجورنيه كما كلّ الوزراء والمبعوثين الأوروبيين الذين تعاقبوا على زيارة لبنان منذ انفجار الجبهة اللبنانية الجنوبية في 8 تشرين الأول الماضي، على نقل رسائل إسرائيل. والمفارقة أنّهم يحملون بجلافة في ملفّاتهم تقارير “حصريّة” عن خطط إسرائيل المدمّرة ضدّ لبنان، ناصحين “لبنان الصديق” أن يفهم ظروف المرحلة لتجنيبه مصاباً ما عرفه قطاع غزّة وأهله.
“الخطّة الفرنسية” لا تحمل جديداً سوى تأكيد أنّ فرنسا تتحايل على القرار الأممي رقم 1701، وتسعى إلى محاصرته بإطار جديد
حكومة بيروت وقرار الحرب
الواقع أنّ مصير الحرب في لبنان لا تقرّره حكومة بيروت ولا تملك أبجديّات المناورة بشأنها. وفيما يتلقّى الحزب مطالب المبعوثين المسلّمة إلى الواجهات الرسمية، ومنها حكومة نجيب ميقاتي، فإنّ المبعوثين أنفسهم يدركون أنّ مهمّاتهم مصطنعة وحمّالة أوجه ومن لوازم الحراك الدبلوماسي العقيم. ذلك أنّ قرار بيروت في طهران وقرار إسرائيل رهن مزاج داخلي لا يتجاوز قواعد لعبة ما زالت واشنطن ممسكة بها. بمعنى آخر، يظهر حراك سيجورنيه وكأنّه يعمل لمصلحة هوكستين. وتظهر باريس ساعية داخل حدائق تسمح بها واشنطن.
حمّل الوزير الفرنسي اللبنانيين جميل بدء جولته في المنطقة من لبنان. غير أنّ في خطّ سير رحلته بدا حاملاً للإسرائيليين من لبنان ما يهدّئ سخطهم من دون أن يحمل للبنان العزيز على قلب فرنسا إلا الوعيد والتحذير. ولأنّه أخفق في سعيه، كان على الوزير الإسرائيلي في حضرة ضيفه الفرنسي أن يضخّ جرعات مفرطة من القنابل الصوتية التي تنذر بقنابل دمار شامل وفق كلماته.
قبل ذلك بأيام غادر الوزير الفرنسي لبنان من دون مفاجآت. فحتى “الخطّة الفرنسية” لا تحمل جديداً سوى تأكيد أنّ فرنسا تتحايل على القرار الأممي رقم 1701، وتسعى إلى محاصرته بإطار جديد فيه من المرحلية والنُسخ المخفّفة ما يكشف عن خفّة لا ترقى إلى مستوى خطورة الوضع وتداعياته. لم يكن صعباً أن يستنتج الحزب، وطهران من ورائه، أنّ المبعوثين الدوليّين ضالعون في مناورة جماعية لإدارة المرحلة الفاصلة حتى انتهاء حرب غزّة، وأن لا طائل من التأثّر بانفعالات دبلوماسيّي العالم ودموعهم الخائفة على سلامة لبنان من نار إسرائيلية محتملة. وفي ثنايا مهمّات الموفدين، بما في ذلك وزير فرنسا، خبث، من حيث إقرارهم بشرعية التهديدات الإسرائيلية ومنطقية مبرّراتها في سياق “الأخطار التي تهدّد إسرائيل ومستوطنات شمالها”.
يعرف هوكستين أنّ “حرب لبنان” الصغيرة لن تنتهي قبل انتهاء الحرب في غزّة
يتدافع ساسة إسرائيل جميعاً على الوعد بجحيم في لبنان. رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو طبعاً. وزراء التطرّف إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش أيضاً. وزير الدفاع يوآف غالانت، وحتى بيني غانتس الموصوف معتدلاً والموعود بوراثة نتنياهو. جميعهم يتدافعون لإرسال تهديدات صباحيّة قد تلحق بها وجبة مسائية ضدّ لبنان والحزب. حتى إنّه، في ظلّ جهود سيجورنيه، كان على رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هليفي أن يزور قوّاته على الحدود مع لبنان، الأربعاء، ويعلن من هناك “الاستعداد لهجوم الشمال”.
مع ذلك تبدو إسرائيل، التي يخبرها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن رفض بلاده لمعركة رفح، غير معنيّة بحرب كبرى شمالاً، خصوصاً قبل أن تنتهي حرب الجنوب في غزّة. لكنّ إسرائيل بالمقابل معنيّة في الوقت عينه بشنّ حربها الحالية الموجعة ضدّ الحزب ومناطق الجنوب اللبناني من دون أن تسمّي الأمر حرباً. وما دام الحزب منضبطاً بالسقف الإيراني لهمّته الداعمة لغزّة، فإنّ إسرائيل “تتمتّع” في استخدام معطيات مخابراتية جمعتها منذ انتهاء حرب عام 2006 لضرب أهداف نوعيّة للحزب، وصولاً إلى الادّعاء بتصفية نصف القيادات العليا الميدانية للحزب في جنوب لبنان.
لبنان بعد غزة
يعرف هوكستين أنّ “حرب لبنان” الصغيرة لن تنتهي قبل انتهاء الحرب في غزّة. حتى إنّ بلينكن أبلغ الإسرائيليين، على نحو لافت، في معرض حثّهم على “صفقة” في غزّة، أن لا وقف لإطلاق النار في الشمال قبل وقف إطلاق النار في غزّة. قالت قناة “كان” التابعة لهيئة البثّ العبرية إنّ ما قاله بلينكن للإسرائيليين “قائم على ما خلص إليه هوكستين في جهوده خلال الشهور الأخيرة للتوصّل إلى تسوية. كاد بلينكن أن يكون ناطقاً باسم الحزب في لبنان”.
إقرأ أيضاً: الورقة الفرنسية: سياسة العصا والجزرة
إذاً تعمل باريس على تقطيع الوقت وملء الفراغات بالمبادرات المناسبة. فحتى ما أُعلن في إسرائيل من اقتراح فرنسي بإجراء مفاوضات بين لبنان وإسرائيل في باريس وبرعايتها، قوبل بتقديرات إسرائيلية بأنّ الأمر غير قابل للتحقّق قبل إبرام صفقة في غزّة، تماماً كما أفتى بلينكن ناهلاً من أوراق هوكستين وتقديراته غير ملتفت إلى ورش سيجورنيه واجتهاداته.