اغتيال عدنان البرش.. في الموت لا مكان لصنّاع الحياة

مدة القراءة 5 د

أرادوا الموت وأراد الحياة. اختار المشافي وأسرّتها. واختاروا له السجون وزنازينها. عالج عدنان البرش في غزة الذين تفصلهم عن الموت خطوة، فعذّبوه حتى فارق الحياة. لا تريد إسرائيل قطاعاً طبّياً في غزة. لا تريد مرضى ولا جرحى ولا ممرّضين أو أطبّاء ولا معدّات طبّية أو مستشفيات. لا تريد إسرائيل أن ترى في غزة غير الموت والأشلاء والجثث.

 

 

منذ أشهر بل منذ سنوات لا خبر من غزة يسرّ القلب. أيضاً لا خبر منها يفاجئ. الموت يصل من غزة يومياً بل كلّ دقيقة، ساعةً مرتدياً جثّةً، وساعةً على هيئة صورة، وساعات في هيئة مبنى مدمّر. الموت في غزة خبر بائت، خبر قديم، وخبر دائم. الموت في غزة خبز الغزّيّين وقد حُرموا الطعام.

آخر أخبار الموت أو الحياة، لا فرق، في غزة، خبر استشهاد الجرّاح الفلسطيني الشهير عدنان البرش. بعد أكثر من أربعة أشهر على اعتقاله وسجنه في سجن عوفر، خرج منه خبراً. جثّته لم يفرج عنها الاحتلال بعد.

هيئة شؤون الأسرى والمحرّرين ونادي الأسير الفلسطيني، عدّا وفاته “عملية اغتيال متعمّدة”. الخبر لا يحتاج إلى تدقيق أو تمحيص، فهو أوّلاً غير مستبعد عن إسرائيل، بل ملتصق بها أشدّ الالتصاق، خصوصاً منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

يأتي اغتياله في سياق طويل وتامّ. سياق استهداف إسرائيل قطاع الصحّة والشفاء في قطاع غزة، مرضى وجرحى وممرّضين وأطبّاء وأدوية ومعدّات طبّية ومستشفيات. لا حياة للفلسطيني حتى لو قضاها في المشافي وعلى سرير المرض. لا دواء له ولا من يداوون. هكذا ترسم إسرائيل حياة الفلسطيني. تريدها من المهد إلى اللحد فوراً. قد تطول أحياناً لكن لأمر بسيط: أن يدخل صاحبها إلى سجونها.

تعذيب حتى الموت

بعد أربعة أشهر من اعتقاله مع مجموعة من الأطبّاء في أثناء مزاولتهم عملهم في مستشفى العودة في شمال قطاع غزة، تأكّد أمس خبر استشهاد رئيس قسم العظام في مستشفى الشفاء في غزة، الدكتور عدنان البرش.

عالج عدنان البرش في غزة الذين تفصلهم عن الموت خطوة، فعذّبوه حتى فارق الحياة. لا تريد إسرائيل قطاعاً طبّياً في غزة

كانت الوفاة في سجن عوفر الإسرائيلي، لكنّها لم تحدث أمس، بل قبل ذلك بأيّام عدّة. إذ كانت مصلحة السجون الإسرائيلية قد أصدرت بياناً في 19 نيسان الماضي، قالت فيه إنّ سجيناً لديها محتجزاً لأسباب تتعلّق بالأمن القومي فارق الحياة من دون أن تقدّم تفاصيل عن الأمر.

التفاصيل عُرفت أمس. عذّبوه حتى فارق الحياة وهو في مطلع الخمسينيات من عمره وفي أوج شبابه وعنفوانه وفي عزّ مسيرته المهنية. قال لهم فعلاً وقولاً: “على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة”. أجابوه: لا مكان لصنّاع الحياة في غزة. في غزة موت ولا شيء غير الموت.

من هو عدنان البرش؟

هو عدنان أحمد عطيّة البرش، المولود في 17 أيلول عام 1974، وأشهر جرّاحي غزة. درس المرحلة الإعدادية في مدرسة الفالوجا، ومنها انتقل ليتابع المرحلة الثانية في مدرسة حليمة السعدية، ومنها إلى رومانيا ليتابع تحصيله العلمي وينال شهادة البكالوريوس من كلّية الطبّ في جامعة بانش. ثمّ عاد ليتابع تخصّصه في جراحة المفاصل والعظام، ويحصل على البورد الأردني ثمّ البورد الفلسطيني، وينال بعدهما الزمالة البريطانية في جراحة الكسور المعقّدة في لندن. لم تتوقّف مسيرة تحصيله للعلم عند هذا الحدّ، بل نال الماجستير في العلوم السياسية من جامعة الأزهر، ثمّ عاد ليزاول مهنته في غزة.

مسيرته المهنيّة

أوصلته مهارته ودقّته في العمليات الجراحية التي أجراها وما أكثرها إلى تولّي رئاسة قسم العظام في مستشفى الشفاء. لم يغادر عدنان البرش مستشفى الشفاء إلا يوم اقتحمته قوات الاحتلال الإسرائيلي في 16 تشرين الثاني، مجبرةً من فيه على مغادرته جنوباً. لم يذعن البرش واتّجه شمالاً إلى مستشفى كمال عدوان في شمال قطاع غزة. عند مغادرته أدلى بتصريح شهير لقناة الجزيرة تداولته وسائل الإعلام بعدها، قال فيه: “أدّينا الرسالة وأجرنا على الله”. قالها باكياً وهو يغادر المجمع الطبّي الذي استحال دماراً.

لم يغادر عدنان البرش مستشفى الشفاء إلا يوم اقتحمته قوات الاحتلال الإسرائيلي في 16 تشرين الثاني، مجبرةً من فيه على مغادرته جنوباً

في مستشفى كمال عدوان كان طبيباً ومصاباً. يعالِج ويعالَج، إثر إصابته بقصف إسرائيلي. من “كمال عدوان” انتقل البرش إلى مستشفى العودة، شرق مخيّم جباليا في شمال قطاع غزة، ومنه إلى سجن عوفر أعتى السجون في العالم وأقساها.

في عوفر شلح البرش قميصه الأبيض الملطّخ بدماء مرضاه، وارتدى دماءه ليكمل تحصيله الوطني هذه المرّة. عمل البرش في أحلك الظروف وأشدّها وطأةً عليه وعلى مرضاه. عالجهم بمعدّات بسيطة وبلا أدوية أو مُخدّر في ظلّ انقطاع “البنج”. في أحياناً كثيرة أجرى عمليات تحت القصف بوسائل وآلات بدائية ومعدّات بسيطة بعد تدمير القوات الإسرائيلية غالبية المعدّات في مستشفيات القطاع. أجرى عمليات في ظلّ قطع إسرائيل الكهرباء عن مستشفيات غزة. كان يصنع الحياة في قلب الموت. ربّما لذلك عذّبوه حتى الموت.

إلى مهنته كان البرش عاشقاً للرياضة وكرة القدم. كان عاشقاً للحياة يداوي جراح طالبيها ليستمرّوا في طلبها.

تُرى لو عاد عدنان البرش إلى الحياة، ما كان سيفعل؟ حتماً كان سيرجع إلى مستشفى العودة أو مستشفى كمال عدوان أو مجمع الشفاء الطبّي. لقد اختار هذا الطريق في عزّ الحرب، وفي عزّ الموت. أفنى عمره في دراسة الطبّ ليعالج أبناء شعبه في مشافي بلاده لا غير. ولو قصده سجّانه لكسرٍ أو لإصابة تعرّض لها، ما كان سيفعل؟ أجزم أنّه سيداويه. لقد أقسم على ذلك يوم ارتدى الثوب الأبيض وحمل المبضع.

إقرأ أيضاً: العلم الفلسطيني: سرقته إيران.. أم ألقته “الدولة الوطنية” (2/2)

يوماً بعد يوم تمعن إسرائيل في إجرامها. إجرامها الذي لا يستثني طفلاً أو امرأةً أو عجوزاً أو مريضاً أو طبيباً أو مشفى أو آلة طبّية.

ماذا ينتظر العالم ليصحو؟ إلى كم عدنان البرش تحتاج هذه الحرب كي تتوقّف؟

 

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…