عاديّ أن يقلق البعض على هامش زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الأخيرة للعراق، أمام مشهد توقيع مذكّرة تفاهم رباعية للتنسيق والتعاون ذات طابع استراتيجي تحت عنوان “طريق التنمية” العابر للقارّات، خصوصاً أنّ نقطة انطلاقته ستكون من جنوب العراق وستكون الأراضي التركية ممرّ عبوره من خلال خطوط سكك حديدية وطرق برّية سريعة تقرّب بين الشرق والغرب بهدف الوصول إلى أكثر من بقعة جغرافية في القوقاز والبلقان وأوروبا. خط الحرير الصيني من البعيد أوّلاً. ثمّ الخطّ التجاري الهندي المنافس، وبعدها خطّ التنمية العراقي بصناعة إقليمية وبقرار رباعي يجمع العراق وتركيا والإمارات وقطر وبالأحرف الأولى “عتاق” ITEQ )) إذا ما كان اختصار التسمية مناسباً.
يفتح طريق التنمية العراقي الأبواب أمام تعاون رباعي يعزّز الفرص الاستراتيجية للأطراف المشاركة. خصوصاً عند التفاوض حول مرور الخطّين الصيني والهندي في المنطقة. لكنّه يزيد من استقلالية دول الإقليم من الناحيتين الاقتصادية والاستراتيجية، بعد ربطها بجغرافيا القوقاز والبلقان وشرق أوروبا. فمن سيلتحق بالمشروع عربياً في الأيام القليلة المقبلة؟ مصر أم الكويت أم الأردن مثلاً؟
القناة الجافّة أو خطّ الحرير
بعد أسابيع فقط على إعلان إردوغان، وهو يعقّب على مشروع الخطّ التجاري الهندي الذي استثنى تركيا، أنّه “لن يكون هناك ممرّ اقتصادي في الإقليم بدون تركيا”، ولدت التفاهمات التركية العراقية تحت عنوان “القناة الجافّة” أو الممرّ الاقتصادي، خلال مؤتمر دعت إليه بغداد في أواخر أيار المنصرم وشاركت فيه 10 دول إقليمية. بعد أشهر قليلة تظهر إلى العلن، على هامش زيارة الرئيس التركي للعاصمة العراقية، اتفاقية إطار لمشروع رباعي. يشارك فيه العراق وتركيا والإمارات وقطر تحت عنوان “طريق التنمية”. بهدف تعزيز التعاون الإقليمي والدولي من خلال تحقيق التكامل الاقتصادي والسعي نحو اقتصاد مستدام بين الشرق والغرب وتسهيل التنقّل والتجارة. وتوفير طريق نقل تنافسيّ جديد.
بناء اصطفاف إقليمي مقرّب من واشنطن حول مشروع خطّ الحرير العراقي الاستراتيجي يضعف فرص وحظوظ أكثر من لاعب باتجاه المنطقة
الترجمة العملية الكبرى والأهمّ للتقارب التركي العراقي ستكون إقليمية أيضاً. بعد التوقيع على مذكّرة التفاهم الرباعي التي جمعت البلدين مع الإمارات العربية المتحدة وقطر. تحت سقف مشروع الفاو التجاري الإنمائي الاستثماري ذي الطابع الإقليمي.
قناعة الكثيرين في تركيا وخارجها أنّ “أخوة يوسف” يتربّصون عن قرب لمواجهة خطط التعاون الاستراتيجي هذه. التي ستقود إلى تحوّلات إقليمية في لعبة التوازنات القائمة، لأنّ هناك أطرافاً تتقدّمها إيران وقيادة السليمانية والنظام في دمشق ومجموعات “قسد” والداعمون لهم ستشعر أنّ هذا التقارب يقود إلى نسف الكثير من حساباتهم في المنطقة.
كثر هم “إخوة أيّوب” و”أصدقاء بروتوس” الذين يزعجهم “طريق التنمية الاستراتيجي” العراقي. الهادف لربط ميناء البصرة بأوروبا عبر اليابسة التركية وبشراكة إماراتية – قطرية. خصوصاً أنّ رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني يقول إنّ مشروع “طريق التنمية” ليس لاختصار المسافات فقط، بل سيتحوّل إلى جسر رابط بين شعوب المنطقة وثقافاتها، وسيدعم الأمن والاستقرار فيها.
يختلف خطّ التنمية العراقي الجديد عن الحلم التركي القديم الذي كان يناقش تحت عنوان “شامغن” السباعي ويهدف لربط تركيا بإيران والعراق والأردن وسورية والأردن ولبنان والذي عرقلته أكثر من أزمة وحادثة. فهل تعمل عواصم هذه الدول على حجز مقعدها في حافلة مشروع يهدف ليكون مركز تكتّل تجاري إقليمي على نمط الاتّحاد الجمركي الأوروبي يزيح الحواجز الجغرافية ويرفع العوائق والرسوم الجمركية أمام حركة البضائع وتنقّل المسافرين؟
أخذ الرئيس التركي خلال زيارته للعراق أكثر ممّا كان يتوقّع من اتفاقيات وعقود ثنائية متعدّدة الجوانب والأهداف
الأهداف التّركيّة من خط الحرير
تريد تركيا ربط الكثير من الطرق التجارية القديمة بين آسيا وأوروبا بأراضيها ومياهها كمنطقة عبور وصلة وصل. تريد أيضاً تفعيل مشروع الخطّ الحديدي مع الجمهوريات التركية بالتنسيق مع أذربيجان وقيرغيزستان وأوزبكستان. ودعوة أرمينيا لتكون شريكةً في تنشيط خطوط جنوب القوقاز. الهدف الاستراتيجي الآخر قد يكون ربط الخطّ العراقي بخطّ “طريق الحرير الحديدي”. الذي أطلقته الصين عام 2013 تحت اسم “طريق واحد – حزام واحد”، لنقل البضائع الصينية إلى أوروبا عبر طرق تختصر الوقت والتكاليف. لماذا ترحّب واشنطن وبكين على السواء بالخطّ الرباعي الذي قد يخدم مصالح وحسابات الصين أيضاً؟ هل الهدف هو إبعاد روسيا وإيران عن هذه المشاريع الاستراتيجية أم تعدّ واشنطن لسيناريو أكبر متعدّد الأهداف والجوانب باتجاه بكين؟
بين أهداف المشروع:
1- ربط آسيا بأوروبا عبر البصرة العراقية واليابسة التركية من خلال موانىء حديثة وطرق نقل برّية وسكك حديدية متطوّرة بطول 1,200 كيلومتر. وبتكلفة ماليّة تقدّر بـ17 مليار دولار، ستدرّ نحو 4 مليارات دولار سنوياً ضمن المرحلة الأولى.
2- تقصير مسافة النقل بين آسيا وأوروبا عن طريق الأراضي التركية. انطلاقاً من ميناء الفاو، ومروراً بمحافظتَي كربلاء وبغداد، ثمّ محافظة نينوى باتجاه الأراضي التركية، ووصولاً إلى ميناء مرسين التركي حيث ينطلق أكثر من خطّ نقل باتجاه الشمال والشرق والغرب. وكلّ ذلك خلال 15 أو 20 يوماً بدلاً من 40 يوماً.
3- تعزيز التفاعلات التجارية والتكامل الاقتصادي بين دول المنطقة من جهة، وربط اقتصادات دول المنطقة بشكل أعمق باقتصادات آسيا الوسطى وأوروبا عبر تركيا من جهة أخرى.
الجانب العراقي أيضاً نجح من خلال اعتماد دبلوماسية مغايرة في التعامل مع ملفّات تقلق أنقرة
يتوقّف البيان الرباعي الصادر عن الدول المشاركة في المشروع عند فرص طريق التنمية الاستراتيجي في تسهيل التنقّل وتوفير طريق نقل تنافسي جديد. وتحفيز النموّ الاقتصادي وتعزيز علاقات التعاون الإقليمي والدولي من خلال تحقيق التكامل الاقتصادي والسعي نحو اقتصاد مستدام بين الشرق والغرب. لكنّ المشروع سيوفّر 100 ألف فرصة عمل في المرحلة الأولى. ومليون فرصة بعد إكماله وإنجازه مع اكتمال مراحله الثلاث التي تنتهي أولاها عام 2028 وثانيتها في 2033 وثالثتها في 2050.
حزب العمّال ليس هدفاً
يخطىء من يعتقد أنّ المقايضات التركية العراقية توجزها معادلة حسم ملفّ وجود مجموعات “حزب العمال ” في إقليم كردستان مقابل زيادة حصّة العراق في المياه من نهرَي دجلة والفرات. هناك أكثر من ملفّ استراتيجي ساخن يُطرح ويناقَش في إطار تفاهمات وخطط بعيدة المدى. كلّ طرف له أولويّاته، لكنّ الذي جرى هذه المرّة هو دمج الأولويّات ووضعها في سلّة واحدة باتّجاه رسم خارطة طريق مشتركة ترضي البلدين وتأخذ ما يقولان بعين الاعتبار. رفع أرقام التبادل التجاري من 20 مليار دولار إلى 30 مليار دولار مهمّ طبعاً. لكنّ القاسم المشترك في النقاشات التركية العراقية هو الملفّات التي تعني الجانب الأميركي في موضوع حزب العمال و”قسد” والنفوذ الإيراني في العراق وسوريا والتصعيد بين طهران وتل أبيب، إلى جانب ترتيب الوضع على الحدود العراقية التركية.
ما ناقشه السوداني قبل أسابيع في العاصمة الأميركية من ملفّات ثنائية وإقليمية توجد لتركيا حصّة كبيرة فيه. يشجّع فريق عمل بايدن على التقارب والانفتاح التركي العراقي لأكثر من سبب: مواجهة النفوذ الإيراني في العراق وسوريا والإقليم، وبناء اصطفاف إقليمي مقرّب من واشنطن حول مشروع خط الحرير العراقي الاستراتيجي يضعف فرص وحظوظ أكثر من لاعب باتجاه المنطقة.
سيعود العراق إلى الحضن العربي وسيستعيد عافيته من بوّابة الاقتصاد. لكنّ تفعيل مشروع التنمية العراقي سيسهّل جهود الكثيرين على طريق إعادة دمج العراق في المنظومة الإقليمية والحدّ من التأثير الإيراني.
ما ناقشه السوداني قبل أسابيع في العاصمة الأميركية من ملفّات ثنائية وإقليمية توجد لتركيا حصّة كبيرة فيه
التقى الكثير من التحليلات عند صعوبة مواجهة النفوذ الإيراني وقدرة طهران على عرقلة المسار التركي العراقي الجديد. لكنّ المتغيّرات الإقليمية المتلاحقة ودعم الإمارات وقطر لمشروع التنمية بحلّته الجديدة سيقلّل من احتمالات العرقلة الإيرانية. بعد كلّ ذلك من حقّ طهران أن تنزعج وتقلق من المشروع الذي سيفقدها أكثر من ورقة جيوستراتيجية في المنطقة.
أخذ الرئيس التركي خلال زيارته للعراق أكثر ممّا كان يتوقّع من اتفاقيات وعقود ثنائية متعدّدة الجوانب والأهداف. الجانب العراقي أيضاً نجح، من خلال اعتماد دبلوماسية مغايرة في التعامل مع ملفّات تقلق أنقرة، في الحصول على ما يريد من دعم وتنسيق تركيَّين في ملفّات حيوية أساسية بالنسبة له.
إقرأ أيضاً: حسابات أنقرة في غزة بعد 200 يوم
كان اشتعال الجبهات في قطاع غزة وارتداداتها الإقليمية سبباً مباشراً في تسريع خطط تحريك طريق التنمية العراقي. وتحويله إلى فرصة للأورو – آسيوية للتفاعل الاستراتيجي مع مشروعَي الصين والهند التجاريَّين. هذا إلى جانب حاجة العراق وتركيا إلى منافذ جديدة لتوسيع التبادل التجاري بينهما وفق تقنيّات عالمية متقدّمة. ويدور الحديث حول إرسال وفود رباعية مشتركة باتّجاه أكثر من عاصمة أوروبية وآسيوية. بهدف التفاوض حول الشراكة التجارية والاستثمارية في المشروع، والاستعداد لاستقبال شركاء جدد تحتّم مصالحهم عدم تجاهل ما يجري.
*أخوة يوسف عليه السلام هي من قصص الأنبياء في القرآن الكريم. وهم أبناء يعقوب الذين حلّت بهم الغيرة من محبة والدهم له فتآمروا عليه وقرّروا رميه في البئر للتخلّص منه لكن الله نجاه من مكيدتهم.
لمتابعة الكاتب على X: