المجازر الإسرائيلية المنهجية والبالغة التنظيم في مستشفيات غزة، من محاصرة واقتحام وإعدام المئات وإخفاء الآلاف ثمّ دفن الجثث تحت الردم، وخلطها بجثث متحلّلة سابقة في المكان نفسه، بعد نبش المقابر المؤقّتة… وأخيراً منع الأهالي من الوصول إلى أحبّائهم، إلى أن تنمحي المعالم. مع إزالة كلّ مصادر الحياة في القطاع، من ماء وطعام ووقود وكهرباء… هي باختصار، ممارسة السيادة الإسرائيلية المزعومة على كلّ فلسطين، على الحجر وعلى البشر، بعد إخراجهم من النوع الإنساني (ترداد عبارة حيوانات بشرية) . فضلاً عن إعادة إنتاج نكبة 1948. كلّ هذا يريد من خلاله نتنياهو استكمال ما بدأه الصهاينة الأوائل في ما يسمّونه “حرب الاستقلال”، ويسمّيه الفلسطينيون “النكبة”. فلو أنّ الصهاينة آنذاك ارتكبوا مجازر أكثر على شاكلة مجزرة دير ياسين (وهذا ما جاء حرفياً في شهادات مشاركين في تلك المجازر) لهرب عدد أكبر من الفلسطينيين. ولما وجد الإسرائيليون أنفسهم بعد 75 عاماً في موقف حرج حيث يتعادل عدد اليهود والفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية.
كانت الخطّة الأصلية منذ اللحظة الأولى أن تكون إسرائيل دولة يهودية خالصة. أمّا الصورة الإجمالية فليست أقلّ بشاعة. فإسرائيل هي آخر مستعمرة أوروبية في القرن الواحد والعشرين. وخطابها الأيديولوجي التبريري لقتل الآخر وإبادته دون أيّ اعتبار إنساني، هو نفسه الخطاب البائد في زمن الاستعمار الإحلالي الاستيطاني. ذلك الذي مارسته إسبانيا والبرتغال في أميركا الجنوبية، والبريطانيون في أميركا الشمالية، وفرنسا في الجزائر، وبلجيكا في الكونغو، وألمانيا في ناميبيا، وإيطاليا في ليبيا.
بل هو نسخة محدّثة لأسلوب الإبادة الألماني النازي بإزاء يهود أوروبا إبّان الحرب العالمية الثانية. لذلك يعجز الإنسان الغربي الآن عن إدراك مغزى تصرّفات إسرائيل في غزة كما في الضفة الغربية. هي التي تخالف كلّ ما تعلّمه طلّاب الجامعات الراقية، لا سيما في الولايات المتحدة، عن القيم والحرّيات والحقوق الإنسانية، للأفراد كما للشعوب، في تحقيق الاستقلال وتحديد المصير والتحرّر من الاحتلال.
الدولة الحديثة تمارس سيادتها وسلطتها على الناس فتتحكّم كذلك بنسبة المواليد وحجم السكّان وصحتهم وما إلى ذلك
كان من المفروض أنّها تلك حقبة سوداء قد انقضت، ولا ينبغي أن تتكرّر. حتى القوى الاستعمارية الكبرى تخلّت اليوم عن اللغة وحافظت على الفعل. وإن بأشكال مواربة ومخادعة. فالولايات المتحدة تخوض حروبها ضدّ خصومها في العالم، تحت عنوان حرّية الإنسان وحقوقه ونشر الديمقراطية. وتستعمل العقوبات الاقتصادية غالباً، فتقتل الشعوب من دون إراقة دماء.
كذلك ما زالت تفعل فرنسا في ما بقي من إمبراطوريتها المندثرة في إفريقيا السمراء. من خلال تدخّلاتها المتكرّرة لتعيين عملائها حكّاماً على شعوبهم المقهورة. وعلى الخطى نفسها، حاولت روسيا الانبعاث في السنوات الأخيرة كإمبراطورية في خطّ بياني معاكس للتاريخ. على الرغم من محدودية الإمكانات، قياساً إلى تلك التي كان يتمتّع بها الاتحاد السوفيتي السابق.
النّازيّة والصّهيونيّة والحضارة الغربيّة
يقارن المفكّر المصري عبد الوهاب المسيري (توفّي عام 2008) في كتابه الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ لعام 1997، بين النازية والصهيونية. فيقول إنّهما نتاج الحضارة الغربية، وليستا استثناء منها. ويبلغ التشابه بين الحركتين حدّاً كبيراً.
فالنازية والصهيونية تستعملان مصطلحات القومية العضوية، من مثل “الشعب العضوي” و”الشعب المختار”، “والنقاء العرقي”، و”الرابطة الأزلية بين الشعب وأرضه، رابطة الدم والتراب”.
كما أنّ النازيين والصهاينة استعملوا الخطاب نفسه، النيتشويّ (نسبة إلى الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه المتوفّى عام 1900) الداروينيّ (نسبة إلى عالم الأحياء البريطاني تشارلز داروين المتوفّى عام 1882). خطاب قائم على تمجيد القوّة وإسقاط القيمة الأخلاقية، والاعتقاد بتفوّق أجناس بشرية على أخرى.
يرى المسيري أنّ الصهاينة لم يقدروا في السابق على ممارسة الإبادة ضدّ الفلسطينيين بأوسع نطاق لها. لأنّ الحركة الصهيونية تأخّرت في الظهور في القرن التاسع عشر، وأعلنت دولتها في فلسطين في منتصف القرن العشرين. وكان من الصعوبة إبادة السكّان الفلسطينيين كما فعل الأوروبيون قبل ذلك في مناطق مختلفة من العالم ضدّ السكّان الأصليين، بعد نشوء المنظّمات الدولية عقب الحرب العالمية الثانية، وانتشار الإعلام.
من أجل فهم الإبادة الإسرائيلية فكريّاً، لا بدّ من استرجاع طبيعة الدولة الحديثة التي درسها بعمق فلاسفة أوروبيون
لذا أشنع ما يرتكبه نتنياهو وزمرة المتطرّفين الدينيين في حكومته الآن، بنظر الصهاينة المسيحيين في الإدارة والكونغرس الأميركيين، لا سيما المنتمين إلى الحزب الديمقراطي، أنّ إسرائيل تكشف عن الوجه القبيح للغرب المضطرّ إلى نصرة إسرائيل. وذلك باستدعاء تاريخ أفعاله الإجرامية وأفكاره العنصرية. أي ما كان يفعله الغرب وما كان يبرّر به تلك الأفعال، دينياً وفلسفياً، من خلال تبرير أفعال إسرائيل اليوم، والتغطية عل جرائمها.
فنتنياهو ببساطة، يرتكب الإبادة في العراء وبالبثّ المباشر في وسائل التواصل الاجتماعي، مع انحياز الإعلام الغربي الرئيسي إلى إسرائيل. هو بذلك يصدم الوعي، بل أشدّ من ذلك. ثمّة كيّ للوعي في شرائح الشباب خاصة، وهو ما يصيب السردية الصهيونية بالاهتراء والتهافت. بل أكثر من ذلك، يهدّد أسطورة التفوّق الأخلاقي الغربي في العالم. وتبعاً لذلك، هو يدمّر الهيمنة الغربية حرفيّاً، ويقوّض أدواتها من الأمم المتحدة وكلّ المؤسّسات المتفرّعة منها، ولا سيما محكمة العدل الدولية. ويُفقد القانون الدولي أيّ قيمة أو هيبة. وهذا أخطر بأضعاف مضاعفة على استقرار النظام الدولي من اجتياح روسيا لأوكرانيا عام 2022.
السّلطة البيولوجيّة
من أجل فهم الإبادة الإسرائيلية فكريّاً، لا بدّ من استرجاع طبيعة الدولة الحديثة التي درسها بعمق فلاسفة أوروبيون. لنتذكر إرث الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (توفّي عام 1984) في المحاضرات التي ألقاها بين عامَي 1975 و1976، في معهد فرنسا Collège de France. وهي نُشرت تحت عنوان: “يجب الدفاع عن المجتمع Il faut défendre la société“. فيها اخترع مصطلح السلطة البيولوجية biopouvoir كوجه من وجوه الدولة الحديثة وأدواتها للتحكّم بالمجتمع.
الدولة الحديثة تمارس سيادتها وسلطتها على الناس فتتحكّم كذلك بنسبة المواليد وحجم السكّان وصحتهم وما إلى ذلك
إذ إنّ الدولة الحديثة تمارس سيادتها وسلطتها على الناس فتتحكّم كذلك بنسبة المواليد وحجم السكّان وصحتهم وما إلى ذلك. لكنّ هذه السلطة تذهب بعيداً في حال استعمار شعب آخر. فتصبح السلطة البيولوجية نوعاً من حقّ القتل، أو السماح بالحياة، تحت عنوان العداوة أو القضاء على خطر ممكن أو داهم.
يؤكّد فوكو بوضوح أنّ حقّ السيادة بالقتل وآليّات السلطة البيولوجية منصوص عليها في كلّ أعمال الدولة الحديثة. ويمكن النظر إليها عن حقّ بوصفها عناصر مكوّنة لسلطة الدولة في الحداثة. ووفقاً لفوكو، فإنّ الدولة النازية كانت المثال الأكمل لدولة تمارس حقّ القتل. هذه الدولة جعلت من الإدارة، والحماية، وتنمية الحياة، تتعايش مع الحقّ السيادي بالقتل. وعليه، يُنظر إلى الدولة النازية على أنّها فتحت الباب لتعزيز هائل لحقّ القتل. وهو ما أوصل إلى طرح “الحلّ النهائي”. وبتنفيذ هذا الحلّ، أصبحت الدولة النازية نموذج التشكيل السلطوي الذي يدمج بين خصائص الدولة العنصرية والدولة القاتلة والدولة الانتحارية.
ما سبق إيراده أفضى إلى طرح مصطلح متقدّم هو Necropolitics. ويعني في علم الاجتماع السياسي: استعمال السلطة الاجتماعية والسياسية لتقرير من ينبغي أن يعيش ومن عليه أن يموت. وقد درس المنظّر السياسي الكاميروني أشيل مامبي Achille Mbembe هذا المصطلح بعمق عام 2003. وهو المتخصّص في دراسة عالم ما بعد الاستعمار.
يقول مامبي إنّه من وجهة نظر تاريخية، يمكن العثور على الأسس المادّية للإبادة النازية في الإمبريالية الاستعمارية من جهة
يقول مامبي إنّه من وجهة نظر تاريخية، يمكن العثور على الأسس المادّية للإبادة النازية في الإمبريالية الاستعمارية من جهة… وكذلك في تسلسل الآليّات التقنية من أجل قتل الناس. وهي آليات مطوّرة ما بين الثورة الصناعية والحرب العالمية الأولى. أمّا غرف الغاز والأفران في ألمانيا النازية، فهي تراكم لمسار طويل من نزع الطابع الإنساني عن الموت وتصنيعه. وهو إحدى الخصائص الأصلية للعقلية الغربية. وإسرائيل اليوم هي الممثّل الحقيقي وربّما الأخير لهذا النمط من التفكير.
بهذا المعنى، يمكن فهم مدى الصدمة التي أُصيبت بها نخبة المستقبل في الجامعات الأميركية، وتردّدت أصداؤها في بعض جامعات بريطانيا وفرنسا وأستراليا. فثمّة فجوة هائلة بين الخطاب الأخلاقي المثالي، والممارسة السياسية والعسكرية الواقعية.
إقرأ أيضاً: العلم الفلسطيني: سرقته إيران.. أم ألقته “الدولة الوطنية” (2/2)
الأخطر من ذلك، هو الخداع، والنفاق، وإنفاق ضرائب المكلّفين، في مشاريع استيطانية، وأساطير دينية. مع إهمال حاجات الشعوب في تلك الدول، واحتلال مهووسين صهاينة في كلّ دول الغرب مواقع السيادة والسلطة والتحكّم والإعلام. بحيث تتغلّب سردية واحدة موحّدة على كلّ المشهد. إلا من خرج من الكهف على سبيل المصادفة ورأى الضوء فجأة في لحظة تجلّي الحقيقة.
لمتابعة الكاتب على X: