يعتبر المسلسل المصري “الحشّاشين”، الذي يتحدّث عن طائفة “الإسماعيلية النزارية” وزعيمها الأسطوري الحسن الصباح، أبرز الأعمال الدرامية العربية في هذا الموسم الرمضاني، حيث تصدّر نسب المشاهدات ومحرّكات البحث. وكان غالب أيام الشهر الفضيل من بين المواضيع “الأكثر تداولاً” على شبكات التواصل الاجتماعي، من الجمهور والنقّاد على حدّ سواء. والعمل هو من إنتاج شركة “المتّحدة”، المقرّبة من دوائر الحكم في مصر. وهي تستخدم الإنتاجات الدرامية المميّزة للشركة في السنوات الأخيرة، كأداة لإعادة تشكيل الوعي في المجتمع حول أبرز القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية. وتحاول العمل على إزالة الأدران التي علقت بالذاكرة الجمعيّة المصرية، والعربية أيضاً، جرّاء الترويج المضادّ لأفكار شعبوية بلبوس ديني. فما هو الهدف من هذا المسلسل؟
الرسالة الأهمّ التي يركّز عليها المسلسل المصري “الحشّاشين” هي التجارة بالدّين. بيد أنّ براعة صنّاعه، ولا سيما مؤلّفه الروائي والسيناريست المصري عبد الرحيم كمال، تمثّلت في عدم إظهار زعيم فرقة الحشّاشين الحسن الصباح بطريقة مبتذلة، أو سوداوية تحمل كلّ الشرور والآثام. بل على العكس، فقد قدّمه العمل بصورة هي الأكثر قرباً إلى الواقع، حسب المؤرّخين والباحثين الذين تعمّقوا في دراسة هذه الظاهرة. أبرزهم رئيس جامعة القاهرة وأستاذ فلسفة الأديان، الدكتور محمد عثمان الخشت، الذي فنّد في كتاب “حركة الحشّاشين.. تاريخ وعقائد أخطر فرقة سرّية في العالم الإسلامي”، الكثير من الأساطير والشائعات التي تتطايرت حولها في المرويّات الغربية – الاستشراقية بشكل خاصّ. ثمّ عاد الصراع السنّي – الشيعي وأكسبها رواجاً شعبياً في العقدين الأخيرين.
يمكن ملاحظته لدى جماعات “الحشّاشين الجدد” مثل الحزب الذي نعى بشكل رسمي أكثر من مئة قتيل له “على طريق القدس” غالبيّتهم في سنّ صغيرة
طريقة المعالجة التي اعتمدها السيناريست كان لها أثر بارز في تعاطف شريحة واسعة من المتابعين مع شخصية الحسن الصباح. الذي كان واسع الحيلة والدهاء، وعلى جانب رفيع من العلم والثقافة. درس علوم الدين والرياضيات والفلك والفلسفة، وتميّز بقدرات هائلة على الإقناع من خلال قوّة الحجّة والبيان. فقد وصفه الإمام شمس الدين الذهبي في كتابه “سِير أعلام النبلاء” بأنّه “من دهاة العالم، كثير المكر والحيل، بعيد الغور”. كما قال عنه ابن الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ” إنّه كان “عالماً بالهندسة والحساب والفلك وأشياء أخرى”.
الإسلام السياسي… والإخوان
هنا بالضبط تكمن رسالة العمل إلى المتلقّين، أو المشاهدين. وهي استغلال بعض الأشخاص، أو الجماعات، لمخزونهم الفكري والمعرفي والديني، وبراعتهم وحذاقتهم في التنظير والإقناع والتلاعب بالمعاني، من أجل إنتاج تأويلات متطرّفة للإسلام. يستخدمونها كأدوات لتحقيق أهداف سياسية وسلطوية بالمقام الأوّل. والهدف من وراء ذلك هو توعية العامّة خصوصاً. فما فعله الحسن الصباح قبل قرون، يمثّل النهج نفسه الذي سارت عليه جماعات وتنظيمات الإسلام السياسي السنّية والشيعية في العصر الحديث لجذب آلاف الأنصار إلى دعوتها “السياسية”.
الجدير بالذكر أنّ طائفة “الإسماعيلية النزارية” ترتبط بعلاقة وطيدة مع مؤسّسة الحكم المصرية منذ عقود. وحسب وسائل إعلام مصرية، فإنّ نصّ العمل عُرض على الإمام الحالي للجماعة كريم الحسيني المعروف بـ”الآغا خان” لإبداء الرأي قبل انطلاق عمليات التصوير. تقديراً من السلطات المصرية لما تقوم به الجمعيات التنموية التابعة لـ”الآغا خان” من نشاط بارز في ترميم الآثار وتطوير القاهرة التاريخية، التي أنشأها الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله. وقد أبدى الإمام الحسيني موافقته، ولم يطلب أيّ تعديلات على النصّ. بما يعكس قناعته بأنّ العمل لا يضرّ بالطائفة التي يتزعّمها. إنّما الهدف منه هو التوعية من الجماعات السياسية التي تتاجر بالدين.
برع أركان فريق الممانعة والإخوان المسلمين في استغلال الناشطين والمؤثّرين في عوالم شبكات التواصل الاجتماعي لترويج خطاب إسلامي راديكالي
العمل كان مقرّراً أن يُعرض في العام الماضي في شهر رمضان المبارك. وجرى تأجيل عرضه لمنح صنّاعه الوقت الكافي لإخراجه بأبهى حلّة ممكنة. بعيداً عن الاستعجال وما قد يتأتّى عنه من ثغرات تُذهب رسالته. إلا أنّ توقيت عرضه هذه السنة تزامن مع أوسع حملة أدلجة إسلامية، سنّية وشيعية، على خلفية حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة. وهذا ما زاد من حجم أهمّيته.
الحشّاشون الجدد
يصف المؤرّخ البريطاني برنارد لويس، المتخصّص في التاريخ الإسلامي، في كتابه “الحشّاشون” هذه الفرقة بأنّها “كانت التنظيم الإرهابي الأوّل في الإسلام”. بيد أنّ الطائفة الإسماعيلية عادت وتخلّت نهائياً عن العنف. وقامت باستبداله بالفكر والفلسفة والتنمية، في حين انتقل نهج الحسن الصباح إلى المسلمين السُّنّة والشيعة الاثني عشريّة. يقول الدكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلّية الآداب بجامعة القاهرة، إنّ “أغلب تنظيمات الإسلام السياسي خرجت من رحم “فرقة الحشّاشين”، وتبنّت نهجها في استغلال الدعوة للقيام بأعمال عنف، وتغيير المجتمع بالتخريب”.
فلم يكن تشكيل جماعة “الإخوان المسلمين” بعيداً عن بنية التنظيم الذي أنشأه الصباح. والمفارقة أنّ أبرز من رصد هذا التشابه كان سيّد قطب، أحد أبرز مفكّري الإخوان المسلمين، وأشهر منظّري الفكر الإرهابي. فقطب اشتهر بتحوّلاته الفكرية الكثيرة، وكان ملحداً قبل أن يصبح مفكّراً إسلامياً راديكالياً.
يذكر الباحث ووزير الثقافة المصري الأسبق حلمي النمنم في كتابه “سيّد قطب: سيرته وتحوّلاته”، نقلاً عن المستشار الدمرداش العقالي، الذي كان قطب زوج خالته، أنّ الأخير كان يسخر من حسن البنّا مؤسّس الإخوان المسلمين. لا سيما أمام ابن شقيقة له من المنتمين إلى الإخوان ورفاقه، وكان يقول لهم: “ماذا فعل بكم حسن الصباح؟”. فهو كان يعتبر أنّ الحسنين البنّا والصبّاح هما وجهان لعملة واحدة من ناحية تشكيل جماعة سياسية بلبوس ديني، لها أذرع عسكرية تخريبية.
طريقة المعالجة التي اعتمدها السيناريست كان لها أثر بارز في تعاطف شريحة واسعة من المتابعين مع شخصية الحسن الصباح
كذلك الحال بالنسبة للثورة الإسلامية في إيران ونظامها وحرسها الثوري، وأذرعه التخريبية الممتدّة في البلاد العربية. وفي طليعتها الحزب في لبنان، وجماعة الحوثيين في اليمن. إذ يرى المؤرّخ الإيراني المعاصر فرهاد دفتري أنّ فرقة الحشّاشين “تشكّل أساساً للحركات الثورية في تاريخ الحركات الثورية الإيرانية”. وبالتالي فإنّ الوصف الأكثر انطباقاً على أركان المحور الإيراني وتنظيم الإخوان المسلمين هو “الحشّاشون الجدد”. فكما كان ظهور فرقة الحشّاشين من أهمّ عوامل القضاء على السلاجقة وإضعاف العبّاسيين، فضلاً عن خطرهم الداهم على القوى السنّية المحيطة مثل الأيوبيين والزنكيين والخوارزميين… فإنّ ظهور “الحشّاشين الجدد” كان ولا يزال من أبرز عوامل التهديد لفكرة ومفهوم الدولة الوطنية الحديثة.
“وحدة الساحات”… و”الحشّاشون”
منذ أحداث حيّ “الشيخ جرّاح” في القدس أواخر شهر رمضان المبارك عام 2021، وظهور مصطلح “وحدة الساحات” الذي ابتكره قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني، قام المحور الإيراني، بالتحالف مع بعض الأفرع في تنظيم الإخوان المنقسم على ذاته، بإعادة تدوير وإنتاج القضية الفلسطينية بنسخة إسلامية راديكالية. وقد أُريد من خلالها تجاوز الانقسام السُّنّي – الشيعي الحادّ، وجذب الجماهير إلى المحور الإيراني أفواجاً. وساروا على نهج الحسن الصبّاح في استغلال مخزونهم الفكري الديني، واللعب على سطحية ومحدودية الثقافة الدينية لدى الشريحة الأوسع من الجماهير. وذلك من خلال استخدام تأويلات معيّنة لآيّات قرآنية وأحاديث نبوية تخدم غايتهم.
هذا ما أسهم في تحويل القضية الفلسطينية من قضية تحرّر وطني، وقضية العرب المركزية، إلى قضية إسلامية بعد العملية التي قامت بها حركة حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023). ويدلّ اسم “طوفان الأقصى” على حصر العملية بالبعد الإسلامي فقط. لأنّه السلاح الأمضى والأكثر تأثيراً في الجماهير. وفي أغلب البيانات الصادرة عن قادة حماس، والجماعة الإسلامية في لبنان، والحزب، يظهر العامل الديني بوضوح. من خلال التركيز على “المسجد الأقصى” كنقطة مركزية، نظراً لمكانته في الأيديولوجية الإسلامية، التي تسمو فوق الانقسام المذهبي.
الرسالة الأهمّ التي يركّز عليها المسلسل المصري “الحشّاشين” هي التجارة بالدّين
إعادة إنتاج القضيّة.. و”الكوفيّة”
برع أركان فريق الممانعة والإخوان المسلمين في استغلال الناشطين والمؤثّرين في عوالم شبكات التواصل الاجتماعي لترويج خطاب إسلامي راديكالي، يرفع أذرع إيران والأفرع الإخوانية في البلاد العربية إلى مصافّ القداسة. ويروّج بأنّها وحدها فقط من ترفع لواء الإسلام الصحيح. ويحرّم ويجرّم أيّ تساؤل يُطرح عن جدوى عملية “طوفان الأقصى”. وينحو صوب تكفير صاحبه. وساندتهم في ذلك شريحة واسعة من المشايخ السُنّة. إنّما بشكل غير مقصود من غالبيّتهم. ينطلق من تأثيرات خطاب المرثيّات والأحزان الإسلامي التقليدي، السائد منذ زوال مؤسّسة الخلافة وظهور الدول والكيانات الوطنية.
اللافت أنّ التأثير الأكبر لهذا الخطاب هو على الفئات الشبابية، التي تشكّل عصب المجتمع. يبيّن أستاذ التاريخ محمد عفيفي أنّ “فرقة الحشّاشين اعتمدت على تجنيد “الفدائيين” الذين كانوا ينفّذون عمليات إرهابية من الفئات الشبابية أو الفتية. فكان يتمّ اختيارهم في سنّ صغيرة من أجل السيطرة عليهم فكرياً وسياسياً ونفسياً ومعنوياً، فضلاً عن قدرتهم على تحمّل التدريبات العسكرية الشاقّة”. وما تحدّث عنه عفيفي، يمكن ملاحظته لدى جماعات “الحشّاشين الجدد”، مثل الحزب الذي نعى بشكل رسمي أكثر من مئة قتيل له “على طريق القدس” غالبيّتهم في سنّ صغيرة.
من المفارقات التي تجمع بين فرقة الحسن الصباح و”الحشّاشين الجدد”، أنّ الأولى اغتالت أو حاولت اغتيال عدد من كبار القادة ورجالات الفكر والثقافة الذين وقفوا في وجه دعوتها. وذلك بقصد إشاعة الرعب والرهبة. وكان من بينها أكثر من محاولة اغتيال طاولت القائد الإسلامي الشهير صلاح الدين الأيوبي. الذي ارتبطت سيرته بالقدس وبتحريره للمسجد الأقصى من الصليبيين. وكذلك الحال بالنسبة لـ”الحشّاشين الجدد”، الذين اغتالوا أو حاولوا اغتيال كلّ من يقف عائقاً أمام تحقيق أهدافهم السياسية، وبينهم من له باع طويل في مقاومة الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي، في ميادين السياسة والفكر والكفاح المسلّح.
فرقة الحشّاشين تشكّل أساساً للحركات الثورية في تاريخ الحركات الثورية الإيرانية
هجوم “الحشّاشون الجدد” على دول العرب
بيد أنّ النقطة الأخطر في هذا الخطاب هي تأليب وإثارة الجماهير ضدّ السلطة الفلسطينية ودول الاعتدال العربي بشكل مباشر. وخاصة الأردن ومصر. فكلّما اشتدّ الضغط العسكري الإسرائيلي على حماس، ارتفعت حدّة التوتّر في الضفة الغربية، وفي المملكة الأردنية. التي تتعرّض منذ اندلاع الحرب على غزة لتهديدات وجودية من الحشّاشين الجدد. بدءاً من مقاتلي الحشد الشعبي على حدودها مع العراق. مروراً بشبكات تهريب الأسلحة والمخدّرات على حدودها مع سوريا… وصولاً إلى تصاعد الضغط الشعبي الداخلي على نظام الحكم في الأسابيع الأخيرة.
إقرأ أيضاً: فيصل القاسم “لامس” 22 مليون عربي.. بحكاية فقره وجوعه؟
وما لبنان ببعيد عن تأثيرات ذلك الخطاب. إنّما الفارق في الحالة اللبنانية أنّ الحزب هو المسيطر على قرار الدولة. لذا لا تواجه حكومته ضغوطات شعبيّة. لكن ينظر إليها دولياً وإقليمياً على أنّها ستارة للحزب. فمن خلال إعادة إنتاج القضية الفلسطينية ببعد إسلامي راديكالي، نجح الحزب في مصالحة المزاج الشعبي السنّي إلى حدّ معقول. واتّكأ على الجماعة الإسلامية وحركة حماس من أجل محاولة تأطير السُّنّة في المحور الإيران.، عبر العديد من المهرجانات الخطابية والندوات واللقاءات. وصولاً إلى فرض الكوفيّة الفلسطينية في كلّ الاحتفالات والمناسبات. حتى تلك التي لها طابع اجتماعي أو رياضي. وكذلك الإفطارات الرمضانية. فحوّل الكوفية من رمز للقضية الفلسطينية وكفاحها الوطني الطويل الأمد الممتدّ منذ نحو قرن تقريباً. وهي التي حملها الزعيم الفلسطيني الراحل أبو عمّار على رأسه لعقود وجال فيها في المنتديات والمنابر السياسية العالمية…