ها هي حرب غزة تلد في الضفة الغربية حرباً لا تقلّ ضراوة وخطراً على القضية الفلسطينية. نابلس وجنين وطولكرم والخليل والبلدات المحيطة بها والمخيّمات، يستبيحها الحكم العسكري الإسرائيلي المباشر وفرق القتل المسمّاة “المستعربين” والميليشيات المسلّحة للمستوطنين. تلك التي صارت جيشاً يمتلك مئة ألف قطعة سلاح. وصار معها المشروع الاستيطاني شبه دويلة. فلديه مؤسّساته الخاصّة واليد المطلقة في هذه المنطقة الاستراتيجية وحضوره القويّ في المؤسّستين السياسية والعسكرية. والعمل الآن على تهجير 55 ألفاً من “غور الأردن”.
كانت مقاومة الاحتلال قائمة في الضفة الغربية قبل 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023). وتسارعت بعده على الرغم من شدّة الهجمة الإسرائيلية. ومع أنّ فرص نجاة المقاومين كانت معدومة بسبب الرقابة الشديدة والحصار الخانق، فإنّ مخيّمات بلاطة ونور شمس وجنين، لم تستكِن ولم تهدأ. لا بل أنتجت أشكالاً جديدة من المقاومة، ومساراً مختلفاً من الفعل المقاوم. يقوم على الفعل في مواجهة الاحتلال وليس انتظار ردّ الفعل. أي الانتقال إلى الهجوم بدلاً من الانتظار للدفاع.
الإمارات السبع.. والتفتيت
في المقابل، زاد الاحتلال حدّة الاستيطان، وعمد إلى تقطيع أوصال الضفة الغربية المتشظّية أصلاً، والمقطّعة إلى كانتونات متفرّقة. ونشط السيناريو الإسرائيلي الخاصّ بـ”الإمارات السبع”، أي تحويل مدن الضفّة المركزية وأريافها إلى “إمارات” تحت حكم أقلّ من حكم ذاتي. كمخطّط لتفتيت قيام دولة فلسطينية وتقويضها.
عمدت السلطات إلى ضمّ أجزاء من المناطق المصنّفة “ج”، أي الخاضعة للسلطة الأمنيّة الإسرائيلية، وترحيل المئات من سكّانها إلى المناطق المصنّفة “أ” و”ب” بهدف تفتيت التواصل الجغرافي، أو تجزئة “المجزّأ”. لجعل التواصل الجغرافي مستحيلاً بين مناطق الضفّة. المحاصرة أصلاً بالمستوطنات، وجدار الفصل، والحواجز، والأبراج، والمكعّبات الاسمنتية، والأسلاك الشائكة، والأنفاق، والجسور، وكاميرات المراقبة، وتقنيات الذئب الأزرق… وغيرها من أدوات السيطرة والهيمنة والعقاب.
كانت مقاومة الاحتلال قائمة في الضفة الغربية قبل 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023). وتسارعت بعده على الرغم من شدّة الهجمة الإسرائيلية
يضاف إلى ذلك السعي الدائم للمستوطنين إلى حسم الصراع، بالعمل على التضييق على الفلسطينيين وترحيلهم قسراً أو طوعاً من خلال ضرب مقوّمات البقاء وحرّية التنقّل. وجاء الحصار الاقتصادي ليزيد الطين بلّة، نتيجة:
– تسريح ما يقرب من 150 ألف عامل من خلف “الخطّ الأخضر”.
– وقرصنة أموال المقاصّة التي تتسلّمها السلطة الفلسطينية.
– وطبيعة الاقتصاد الفلسطيني الهشّ.
الأمر الذي فرض واقعاً معقّداً ومتشابكاً قد يدفع إلى الانفجار الشديد.
ماذا تفعل إسرائيل في غور الأردن؟
أخطر ما يفعله الاحتلال هو ما يجري في غور الأردن. وهو قطاع استراتيجي ضيّق، يمتدّ شرق الضفة على طول حدودها مع الأردن. ويمتدّ من “عين جدي” (البحر الميت) جنوباً إلى تل مقحوز على حدود بيسان شمالاً. ومن نهر الأردن شرقاً حتى السفوح الشرقية للضفّة غرباً. بطول 120 كيلومتراً وعرض يراوح بين 5 و20 كيلومتراً. أي ما يمثّل نحو 30 في المئة من مساحتها. ويشكّل لها أهمّية استراتيجية واقتصادية. فهو سلّة غذائها وحدودها الدولية الوحيدة ومنفذها إلى العالم.
يشتمل الغور على 27 تجمّعاً فلسطينياً ثابتاً. إضافة إلى عشرات التجمّعات الرعوية والبدوية. وتقسّم المنطقة إلى 3 أقسام:
– منطقة الأغوار الشمالية وتتبع محافظة طوباس.
– ومنطقة الأغوار الوسطى وتتبع محافظة نابلس.
– ومنطقة الأغوار الجنوبية وتتبع محافظة أريحا.
في ورقة سياسات بعنوان “الأغوار: الواقع ومآلات المستقبل” نشرتها “مؤسسة الدراسات الفلسطينية”، يشير الباحث أحمد الحنيطي إلى الأهمّية الاستراتيجية التي توليها إسرائيل للأغوار. حيث كرّس الاحتلال سياساته الاستيطانية، بهدف تهجير الفلسطينيين من أراضيهم والاستيلاء على المنطقة بالكامل. للاستئثار بثرواتها والحفاظ على عمق استراتيجي أمنيّ باعتبارها خطّ الدفاع الشرقي له.
يبلغ عدد سكّان الأغوار نحو 55 ألف نسمة بعدما كان العدد يتجاوز 300 ألف بعد حرب 1967. وتتنوّع طبيعة التجمّعات الفلسطينية فيها. إذ تتضمّن مدينة رئيسية (أريحا) ومخيّمَين (عقبة جبر وعين السلطان) ونحو 13 قرية. والكثير من التجمّعات الرعوية والبدوية المنتشرة على امتداد منطقتَي الغور وشفا الغور.
زاد الاحتلال حدّة الاستيطان، وعمد إلى تقطيع أوصال الضفة الغربية المتشظّية أصلاً، والمقطّعة إلى كانتونات متفرّقة
7 أكتوبر.. فرصة ذهبيّة لإسرائيل
تفيد الورقة البحثية بأنّ أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول 2023) وفّرت فرصة ذهبية للاحتلال الصهيوني لتهجير البدو. فقد استغلّ الاحتلال والمستوطنون حالة الحرب للعمل على تهجير البدو و”تنظيف” مساحات كبيرة من الأراضي في الأغوار من الفلسطينيين. فإعلان حالة الحرب يضع “إسرائيل وسكّانها ومرافقها المدنية تحت قانون الطوارئ، وتُكلَّف قيادة الجبهة الداخلية في الجيش الإسرائيلي بالتصرّف وفق متطلّبات الحرب”. في حين يتولّى قيادة الأمن القومي حالياً الوزير اليميني المتطرّف، إيتامار بن غفير، الذي عمل على تسليح المستوطنين. وهم صاروا يمثّلون جيشاً مسلّحاً في الضفة الغربية. خصوصاً أنّ جزءاً كبيراً منهم جنود نظاميون أو جنود احتياط أصلاً.
يلفت الباحث إلى التسارع الذي حصل في الفترة الأخيرة في هجمات المستوطنين على التجمّعات الرعوية والبدوية، بمساندة من الجيش والشرطة الإسرائيليَّين. مشيراً إلى أنّه في حين اتّبعت الحكومة الصهيونية سياسات استخدام القوانين الاستعمارية القديمة، كاستصدار أوامر هدم أو إخلاء وإجراءات قانونية قد تستغرق أشهراً وسنوات… فإنّ المستوطنين في الوقت الحالي يهاجمون ويعتدون مباشرة وبشكل مفاجئ وفي كلّ الأوقات على التجمّعات الرعوية. ويستهدفون جميع سكّانها، بما يشمل الأطفال والنساء. كما يقومون بمصادرة أملاك التجمّعات، ولا سيما ثروتها الحيوانية.
تراوح السيناريوات الإسرائيلية حول السلطة ومكانتها في “اليوم التالي” للحرب بين حدّ التطرّف الأقصى القاضي بضرورة تجريمها وإخراجها من المشهد السياسي
التهجير ومصادرة الأراضي
نجح المستوطنون بفعل هذه الإجراءات، في تهجير عشرات الأسر من منطقة الأغوار وشفا الغور، وما يمكن تسميته بـ”منطقة العزل الشرقية”. وجرى إفراغ مساحات كبيرة من البدو والرعاة وتهجيرهم إلى محيط القرى والبلدات الفلسطينية خارج منطقة الضمّ المقترحة.
كان وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، قد أعلن أخيراً مصادرة 8 آلاف دونم في الأغوار من أجل توسيع الاستيطان. في سابقة وُصفت بأنّها أكبر عملية مصادرة منذ عقود، في حين قالت حركة “سلام الآن” إنّها أكبر عملية مصادرة منذ توقيع اتفاق أوسلو.
هنا يُطرح السؤال: بعد إخلاء غور الأردن وعمليات التهويد في القدس والتوسّع الاستيطاني الخطير والتقطيع الجغرافي ومصادرة الأراضي وتهجير سكّان المناطق “ج” إلى مناطق “أ” و”ب”… ماذا سيبقى للسلطة الفلسطينية من أراض في الضفة لفرض سلطتها الاسمية عليها؟
تراوح السيناريوات الإسرائيلية حول السلطة ومكانتها في “اليوم التالي” للحرب بين حدّ التطرّف الأقصى القاضي بضرورة تجريمها وإخراجها من المشهد السياسي… وبين حدّ “الاعتدال” الأقصى القاضي بضرورة العمل على تقويتها وتعزيز استقرارها أمنيّاً واقتصادياً فقط. مع تجريدها من أيّ دور سياسي مستقبليّ. خصوصاً في ما يتعلّق بتمثيل الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة عام 1967. بحيث يشكّل هذا السيناريو، إلى جانب تصوّر مستقبل قطاع غزة الخالي من حركة حماس، “ممرّاً آمناً” بالنسبة لإسرائيل. للحيلولة دون قيام دولة فلسطينية مستقبلية ضمن ما يُعرف بـ”حلّ الدولتين”.
إقرأ أيضاً: العرب لا يثقون بأميركا… وينتظرون “حلّ الدولتين”؟